الفصل الثالث والثلاثون : لمن كتب لوقا إنجيله

الفصل الثالث والثلاثون

لمن كتب لوقا إنجيله

نحن نعلم أن القديس لوقا دوّن انجيله سنة 85 تقريبًا، وأتبعه بأعمال الرسل، فجاء عمله في درفتين: زمن يسوع وزمن الكنيسة. إنجيل وجّهه إلى محبّ الله تيوفيلس. بل إلى جميع محبّي الله. أنتم وأنا. إنجيل كتبه لانطاكية وربّما لكورنتوس. وفي أي حال، كتبه لعالم وثني. فبين جميع كتّاب الانجيل المقدّس، لوقا هو وحده من أصل وثني. التقى بولس في انطاكية وعمّده الرسول، وسيكون له أن يكون رفيق الرحلات الرسولية، بل سيكون رفيق بولس في السجن. أما السمات التي تدلّ على أنه كتب للوثنيين فعديدة. نذكر منها فقط أنه أغفل حدث الكنعانية (مر 7: 24-30) لما فيه من إحراج للوثنيين الذين لا يحقّ لهم أن يجلسوا إلى المائدة مع البنين. وأنه توسّع في مثل الابن الضال (لو 15: 11-32) وبيّن فيه العلاقة بين اليهود الآتين إلى الكنيسة والوثنيين الذين يتعمّدون. أين مكانة الوثنيين الذين يمثّلهم الابن الأصغر؟ الوثنيون هم عالم النجاسة وهذا ما دلّ عليه قطيع الخنازير التي ترعى بقيادة الأصغر. أما الآن، فالوثنيون الذين كانوا في الأصل من أهل البيت، قد عادوا إلى البيت، إلى الكنيسة. وسيستقبلهم الآب السماوي استقبالاً لم يعرفه الابن الأكبر الذي يمثّل العالم اليهودي. قال هذا لأبيه: لم تعطني جديًا أتنعّم به مع أصحابي. وأبنك هذا الذي بدّد مالك مع البغايا والزواني (ولا ننسى أن الزنى يدلّ على خيانة الله وعبادة الاوثان) ذبحتَ له العجل المسمّن. أجل، حين دوّن لوقا إنجيله، كان العنصر الوثني في الكنيسة مسيطرًا بعدده. فكتب إليه، وترك جانبًا كل ما يتعلّق بالعالم اليهودي. وهذا ما نشهده في عظة الجبل التي أوردها متّى فجعلنا في خط موسى، وقدّم لنا يسوع على أنه موسى الجديد. أما في لوقا فصارت "عظةَ السهل"، أي المكان المنفتح واسعًا على العالم الوثني. قال متّى عائدًا إلى الشريعة: "قيل لكم.... أما أنا فاقول لكم". أما لوقا فما عاد إلى العالم اليهودي، بل تحدّث إلى السامعين، من أية فئة كانوا: "أحبّوا أعدائكم، أحسنوا إلى من يبغضكم، باركوا لاعنيكم" (6: 27-28).
تلك هي الكنيسة التي توجّه إليها لوقا. ابتعدت عن العالم اليهودي، وما فيه من نزاع مع المسيحية الفتية كما نجد آثاره في أعمال الرسل. كان قوم من اليهودية يقولون للوثنيين الجدد: "إن لم تختتنوا بحسب شريعة موسى فلن تستطيعوا أن تخلصوا" (اع 15: 1). ولكن هذا الوضع صار من التاريخ، وقد تعدّاه الزمن ساعة كتب لوقا إنجيله. فهناك مسائل أكثر أهمية بالنسبة إلى الكنيسة.
هناك الاضطهادات والمضايقات. فكنيسة لوقا تتألم لأسباب دينية وأسباب سياسية. تألمت من العالم اليهودي الذي انشقت عنه، وكان أول شهدائها إسطفانس الذي رُجم، ويعقوب أخو يوحنا الذي قُطع رأسه، وبطرس الذي سُجن، والرسل الذين جُلدوا وفرض عليهم أن لا يبشّروا بعد باسم يسوع. أراد العالم اليهودي أن يعيد إلى حضنه العالم المسيحي، بعد أن حسبه شيعة مثل سائر الشيع كالفريسيين والصادوقيين. ولكن الكنيسة التي انطلقت من العالم اليهودي، لم تبقَ فيه، بل سارت على طرقات العالم بحسب المهمّة التي وكّلها بها ربّها من اليهودية والسامرة إلى أقاصي الأرض.
وتألّمت الكنيسة لأسباب سياسية. جاءتها الاضطهادات من أمبراطورية رومة، وقد بدأت بشكل كبير في أيام نيرون يوم قُتل بطرس وبولس وغيرهما مع الآلاف.
كانت الكنيسة في أول عهدها تُعتبر جزءًا من العالم اليهودي، فنعمت بالامتيازات التي نعمَ بها اليهود، ولا سيّما فيما يخصّ شعائر العبادة. ولكن لما تمّ الانفصال بشكل نهائي مع الحرب اليهودية الرومانية (سنة 68-73)، وخصوصًا مع مجمع يمنية (قرب يافا) الذي حمل اللعنة إلى المسيحية وهدّد بأن يطرد من المجمع كل من يقول إن يسوع هو المسيح (يو 9: 22). لما تمّ هذا الانفصال، لم يعد للمسيحيّين من غطاء قانوني يحميهم في المجتمع. صاروا معرّضين كل وقت للقتل. فهم لا يجارون الوثنيين في عبادتهم للأمبراطور ولرومة. وليسوا من اليهود الذين يُسمح لهم بأن يعبدوا الله الواحد. وبما أن المسيحيين يرفضون تقديم البخور لتمثال الامبراطور، لأنهم لا يعبدون إلا يسوع المسيح، قيل فيهم: يجب أن يموتوا.
من أجلهم كتب لوقا، لكي يحمل إليهم كلمة التّعزية والرجاء. وذكر لهم في سفر الأعمال بعض الضيقات التي تعرّض لها المسيحيون الأولون. وقال لهم في ما قال: "طوبى لكم إذا ما الناس أبغضوكم وانتبذوكم وأهانوا اسمكم ورذلوه رذل شرير من أجل ابن البشر. إفرحوا في ذلك اليوم وتهلّلوا، لأن أجركم سيكون عظيمًا في السماء" (لو 6:22-23). وفي هذا الخط، أرانا الرسل بعد أن جلدهم أهل المجمع اليهودي: كانوا فرحين بعد أن "حُسبوا أهلاً لأن يُهانوا من أجل اسم يسوع" (أع 5: 41). وقال لهم يسوع في موضع آخر: "ومتى قادوكم إلى المجامع (أي في العالم اليهودي) والحكام وأولي السلطان (أي في العالم الروماني)، فلا تهتمّوا لطريقة الدفاع عن أنفسكم، ولا لما تقولون، فإن الروح القدس يعلّمكم في تلك الساعة ما ينبغي أن تقولوا" (لو 12: 11-12). أجل، إن الكنيسة تعيش حربًا لا هوادة فيها، ولكنها متأكّدة من النصر، ولا سيّما عند عودة ربّها.
فالكنيسة التي يتوجّه إليها لوقا، هي كنيسة فهمت، بعد فترة انتظار عودة الرّب، أن الطريق ما زالت طويلة أمامها. ففي المسيحية الأولى، انتظر المؤمنون عودة المسيح في وقت قريب جدًا. تذكّروا كلمة الرّب: "إن في القائمين هنا من لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله" (لو 9: 27) وزاد مرقس: "آتيًا في قدرة" (9: 1). وقال متى (16: 28): "حتى يروا ابن البشر آتيًا في ملكوته". هذا الانتظار جعل أهل تسالونيكي يطرحون السؤال على بولس حول مصير الذين ماتوا قبل عودة الرّب. وكان على بولس أن يهدّىء روعهم ويقول لهم بأننا سنكون كلنا في موكب الرّب عند مجيئه.
ماذا كانت نتيجة هذا الانتظار لمجيء الرّب القريب؟ اعتبر المؤمنون أن الوقت لا أهمّية له. الرّب يأتي ونحن ننتظره "دون أن نفعل شيئًا". لهذا وبّخ بولس أهل تسالونيكي على كسلهم. أما انتظار الرّب اليوم فهو في الخوف، على ما تقول الشيع، والالتجاء إلى جماعات منغلقة تحمينا من غضب الله الصاعق! بما أن لا قيمة للوقت، فلماذا الاهتمام بمشاكل المجتمع؟ لماذا تنظيم الكنيسة؟ بل نبقى على مستوى ترتيب موقت لأن الساعة تدهمنا.
أما لوقا ففهم أن مجيء المسيح بعيد، وأن على الكنيسة أن تنظِّم أمورَها لكي تعيش في الزمن. هناك زمن يسوع الذي امتدَّ بضع سنوات أسّس فيها كنيسته، الجماعة الجديدة، وأطلقها في طرقات العالم. والآن، هو زمن الكنيسة الذي يبدو امتدادًا لزمن يسوع. ودمار أورشليم الذي حدث سنة 70 هل هو نهاية العالم؟ كلا. بل هو نهاية عالم وبداية عالم جديد. تحرّرت الكنيسة من كل ما يربطها بأرض، ولو كانت الأرض المقدسة، ومن كل ما يربطها بشعب، ولو كان الشّعب المختار، وفهمت أن عليها أن تتابع رسالتها وتنظّم أمورها في الزمن الذي أعطي لها. هي لا تنسى عودة المسيح، ولكنها تهتمّ بأمور العالم والمجتمع متطلّعة إلى مجيء الرّب. تهتمّ كيف تتجسّد في العالم، وتجسّد فيه إنجيل المسيح.
من أجل هؤلاء الناس الذين تحضّروا بالحضارة الهلّينية التي حملها الإسكندر إلى الشرق، كتب لوقا إنجيله. لهم صعوباتهم في التمييز بين "كيريوس" و "كيريوس"، بين ربّ وربّ. هل الأمبراطور هو "الرّب"، أم يسوع المسيح؟ وصعوبات التمييز في التعاليم التي ترد عليهم من كل صوب. فحاملو هذا التعليم يسمّيهم بولس "ذئابًا خاطفة" (أع 20: 29). ويتحدّث عنهم في الرسالة إلى تيطس: "يقلبون بيوتًا بتمامها، بتعليمهم ما لا يجب من أجل مكسب خسيس" (1: 11). وكانت قد بدأت تظهر أناجيل هنا أو هناك ستصبح فيما بعد الأناجيل المنحولة. لهذا كتب لوقا إنجيله وحدّد مقصده من كتابته في البداية. أخذ الكثيرون في إنشاء رواية الأحداث التي جرت فيما بيننا. أما هو فقام يبحث، تحرّى. دقّق في جميع الأشياء. وفي النهاية قدّم إنجيله الذي أراده مرآة صادقة للأحداث المتعلّقة بحياة يسوع (لو 1: 1-4).
من أجل هؤلاء الوثنيين كتب ليقول لهم إن الخلاص مفتوح لهم جميعًا. اليوم وُلد لكم مخلّص وهو المسيح الرّب. ليقول: لا مخلّص سوى يسوع المسيح. فالقيصر وكل سلطته السياسيّة ليسا موضع عبادة. أعلن بطرس: "ليس تحت السماء إسم آخر أعطي في الناس، به ينبغي أن نخلص" (اع 4: 12) وهكذا يستطيع لوقا أن يعلن، ونحن معه، أن ليس من غريب بالنسبة إلى الملكوت. فكلنا قريبون. وليس من بعيد، فكلنا من البيت. وليس من خاطىء مرذول. فالفرح بخاطىء واحد يعود يوازي تسعة وتسعين "بارًا". وليس من امرأة تبقى في الصف الثاني، لأنها ليست من الذكور، فهي رسولة وتلميذة، شأنها شأن الرجل. وليس من وثنيّ يكون في المرتبة الثانية، لأنه ليس بيهودي. فالوثنيّ الذي يرتدّ إلى المسيح، فهو إنما يعود إلى البيت الذي تركه.
من أجل هؤلاء الناس جميعًا كتب إنجيل لوقا، فجمع الأصحّاء والمرضى، الأبرار والخطأة، الوثنيّين واليهود، أهل اليونان وأهل فلسطين، أبناء الشرق وأبناء الغرب، على ما نرى في أعمال الرسل، فدعاهم كلّهم لكي ينشدوا في لغاتهم عظائم الله (أع 2: 11).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM