الفصل الحادي والثلاثون مفهوم المعجزة في إنجيل متّى

الفصل الحادي والثلاثون

مفهوم المعجزة
في إنجيل متّى


يسوع هو المسيح في القول والعمل. هكذا يبدو شخص يسوع في إنجيل متّى منذ بداية حياته العلنية. يقول الانجيل: "وكان يسوع يسير في أنحاء الجليل، يعلّم في المجامع، ويعلن إنجيل الملكوت، ويشفي الناس من كل مرض وداء" (4: 23). فهو حين يتكلّم يعلّم، وحين يشفي يعلّم. ويذكر الإنجيلي في المقطع عينه أنواع الأمراض التي جعلت صيته ينتشر في سورية كلها: مصروعين، مقعدين، ممسوسين، مفلوجين، فشفاهم (4: 24). وبعد أن يقدّم متّى عظة الجبل في ف 5-7، "يروي" عشر معجزات على عدد أصابع اليد، من أجل الفقاهة والتعليم، ويكرّر ما قاله قبل عظة الجبل. "وطاف يسوع في جميع المدن والقرى يعلّم في المجامع، ويعلن بشارة الملكوت، ويشفي الناس من كل مرض وداء" (9: 35).
أما نحن فنتوقّف عند تعليم يسوع من خلال المعجزات كما في إنجيل متّى. بعد أن نعالج موقع المعجزات والهدف منها، ننظر إلى طريقة متّى في تقديم المعجزات، وننهي في دراسة لاهوتية: ما هو التعليم الذي قدّمه متّى في كنيسته ولكنيستنا حين "روى" تلك المعجزات؟

1- موقع المعجزات في إنجيل متّى
نجد في إنجيل متّى 28 مقطعًا تحدّثنا عن المعجزات. منها ما هو في عالم الطبيعة: تكثير الارغفة مرة أولى ومرة ثانية؛ تهدئة العاصفة والسير على المياه؛ جعل التينة التي لا تحمل الا الورق تيبس في الحال (21: 20). ومنها ما هو في عالم الأمراض: حماة بطرس، الأبرص، المخلّع، صاحب اليد اليابسة، النازفة، الأعميان في أريحا. هذا عدا اللّوحات الإجمالية التي تتكرّر خمس مرات. فنقرأ مثلاً في 15: 30: "فجاءته جموع كبيرة ومعهم عرج وعميان ومقعدون وخرس وغيرهم كثيرون، فطرحوهم عند قدميه فشفاهم".
يورد متّى إحياء ابنة يائيرس، فيفترق بذلك عن لوقا الذي يذكر أيضًا ابن أرملة نائين، وعن يوحنا الذي لا يذكر سوى إحياء لعازر بعد موته بثلاثة أيام. بالإضافة إلى ذلك، هناك إخراج الشياطين من ممسوس الجدريين وابنة الكنعانية والولد الذي يقع في داء الصّرع، والأخرس والأعمى. وتأتي إجمالة تذكّرنا بكل هذا فتقول: "وعند المساء جاء الناس بكثير من الذين فيهم شياطين فأخرجها بكلمة منه وشفى جميع المرضى فتمّ ما قال النبي اشعيا: أخذ أوجاعنا وحمل أمراضنا" (8: 16-17). نذكر هنا ارتباط المرض بالشيطان. فالشرّ، كل شرّ، سواء كان شرًا أدبيًا كالخطيئة، أو شرًا طبيعيًا كالمرض، يُعتبر من فعل الشيطان الذي "يقيم" في الإنسان ويُحدث فيه ما يُحدث من دمار على مثال ما فعل في مجنون الجدريين.
ما نلاحظه بشكل خاص هو جمع عشر معجزات في ف 8-9، حالاً بعد عظة الجبل. هكذا أراد متّى أن يبيّن أن يسوع قدير في القول، قدير في العمل. تكلّم، "فتعجبت الجموع من تعليمه، لأنه كان يعلّمهم مثل من له سلطان، لا مثل معلّمي الشريعة" (7: 28-29). سكّن العاصفة، فتعجّب الناس وقالوا: "من هذا حتى تطيعه الرّياح والبحر" (8: 27)؟ الله وحده يسيطر على الرياح والبحر. وإن كان يسوع فعل ما فعل، فلا يبقى سوى أن نستخلص النّتيجة التي سيقولها الرسل بعد أن مشى (داس البحر فدلّ على أنه غلب المياه التي ترمز إلى الشر) يسوع وبطرس على الماء: "بالحقيقة أنت ابن الله".
نشاط مثلّث لدى يسوع: يعلّم، يكرز، يشفي. نشاط مترابط، فلا يسير الواحد دون الآخر. وكل هذا يحدث أمام الجموع التي يذكرها متّى أربعين مرة، ولا سيّما في معرض حديثه عن الأشفية: "تبعته جموع كبيرة، فشفاهم جميعًا" (19: 2). إنها "جوقة" حاضرة هنا، تشاهد ما يفعله يسوع. "تصفّق"، تتعجّب، تسمع. ولكنّها في النهاية لا تأخذ قرارها بالنسبة إلى يسوع، كما فعل بطرس باسم التلاميذ حين أعلن ليسوع: "أنت المسيح ابن الله الحي" (16: 16).

2- طريقة متّى في تقديم المعجزات
لسنا هنا أمام خبر حرفي كما في "تقرير صحفي"، بل أمام نظرة إيمانية. فمتّى لا يكلّم فقط الذاكرة التي تكرّر حرفيًا ما سمعت، ولا يكلّم فقط العاطفة التي تشبه حبة القمح التي زُرعت في أرض ترابها قليل: نبتت بسرعة ويبست بسرعة. فأصحاب العاطفة يتحمّسون على مثال ما فعل اليهود: يحيّون يسوع الملك، وبعد أيام يهتفون: ليصلب". ولا تتوجَّه المعجزة فقط إلى العقل الذي يدرس الأمور من منطق مسبق، فيصل بنا إلى ما وصل إليه الكتبة والفريسيون: لا يمكن ليسوع أن يكون "الله" و"ابن الله". وبما أنه يُجري هذه الأعمال، فهو يتصرّف باسم رئيس الشياطين، باسم بعل زبول. وكما تساءل الشعب: "أما يكون هذا ابن داود؟"، أي المسيح، نستطيع أن نفترض كلام يسوع كما رواه لوقا عن الفريسيين والكتبة: "أخذوا مفاتيح المعرفة، فلا هم دخلوا، ولا تركوا الآخرين يدخلون".
"روى" متّى المعجزة، فتوجّه إلى الفهم والذاكرة والعاطفة والعقل، ولكنّه توجّه بشكل خاص إلى القلب الذي هو مركز القرار في الإنسان. توجّه إلى الإيمان الذي هو نداء الله في أعمق أعماقنا. توجّه إلى الإنسان كله ودعاه في النهاية إلى أن يتبعه. من أجل هذا، أخذ بأساليب تبُرز حضور الرب وموقف الإنسان منه. ماذا فعل؟
إعتاد متّى أن يورد الخبر بدون تفاصيل، وهمّه أن يصل بسرعة إلى يسوع. يقترب الإنسان من يسوع. يحمل إليه حاجته. وفي النهاية يسجد له كما فعل يائيرس رئيس المجمع الذي جاء يطلب الحياة لابنته (9: 18)، أو يخدمه كما فعلت حماة بطرس بعد أن زالت عنها الحمّى (8: 15).
حين يأتي يسوع إلى مريض من المرضى، يجعل متّى جانبًا سائر الأشخاص، فلا يبقى الا يسوع والمريض وجهًا إلى وجه. وهكذا يكون الشفاء الذي يحمله اليه الرّبُ نداء يتوجّه إليه ويطلب منه جوابًا. لا يستطيع الإنسان عنذ ذاك أن يتهرّب، فيعتبر أنّ كلام الرب لا يعنيه. هذا ما نراه بوضوح في شفاء حماة بطرس. ثم هو يجعل جانبًا الأعمال الثانوية. روى مرقس أنّ أربعة أشخاص قد يمثّلون التلاميذ الأولين، حملوا مخلّعًا إلى يسوع. صعدوا إلى السّطح وفتحوا فيه فتحة وأنزلوا المخلّع لكي يكون أمام يسوع. حملوا المريض وقدّموه إلى يسوع؛ أمّا متّى فترك كل هذه التفاصيل. كل ما اهتمّ به هو أن يرينا يسوع أمام إيمان هؤلاء التلاميذ، ويُسمعنا كلامه إلى هذا المخلّع (الذي صار وحده أمام يسوع): "تشجّع يا بني، مغفورة لك خطاياك" (9: 2). وفي النهاية، أقامه من خطيئته وأقامه من مرضه وأرسله إلى بيته، وهو يحمل سلام المسيح وبركته اللذين يفوقان كل سلام وبركة.
يشدّد متّى على الحوار في المعجزات بين يسوع والمريض. "إرحمني يا سيّدي". "ما أرسلت الاّ إلى الخراف الضّالة". "ساعدني يا سيدي". "لا يجوز أن يؤخذ خبز البنين". "نعم يا سيّدي". "ما أعظم إيمانك". حوار جعلنا في النهاية نكتشف الإيمان (15: 21-28). فالمعجزة هي جواب على الإيمان. قال يسوع لقائد المئة: "اذهب، وليكن لك على قدر إيمانك". فشُفي الخادم في تلك الساعة (8: 13). وجاءه أعميان: "ليكن لكما على قدر إيمانكما"، فانفتحت أعينهما (9: 29). فالإيمان هو الرّباط بين الطلب والكلمة التي تعلن الشّفاء، والشّفاء نفسه يُظهر الإيمان من خلال الطلب، ويسوع يردّ على هذا الإيمان بالكلمة الشافية. هو يفعل مثل الله. يكفي أن يقول للمخلّع: "إحمل سريرك"، حتى يشعر المخلّع بالقوّة التي تساعده على النهوض والذهاب إلى بيته بعد أن حمله إخوتُه بأيديهم وبإيمانهم. يكفي أن يقول للكنعانية أن ابنتها شُفيت لكي تُشفى حالاً.

3- التعليم اللاهوتي في المعجزات
نتوقّف هنا عند ثلاث وجهات: الإيمان، شخص يسوع المسيح، جماعة التلاميذ. حين نقرأ الأناجيل الإزائية (متّى، مرقس، لوقا) ولا سيما متّى، نكتشف حالاً وجود الإيمان. هو لا يتبع المعجزة، بل يسبقها. فالإيمان هو ثقة بقدرة يسوع، نترجم عنها بتصرّفنا. هذا الإيمان يدفع الإنسان إلى أن يتقرَّب من يسوع رغم الصعوبات التي قد تعترضه. قرر يائيرس ان يأتي إلى يسوع لان ابنته كانت مريضة. ولكنّ ابنته ماتت الآن، فهل يحاول بعد ذلك أن يطلب؟ قال له ببساطة الأطفال: "الآن ابنتي ماتت. تعال وضع يدك عليها فتحيا" (9: 18). وقائد المئة الوثني، هل يتجاسر أن يقترب من يسوع "اليهودي"؟ فقد ينجّسه. ومع ذلك جاء يحمل طلبه دون أن يُحرج الرب: "يكفي أن تقول كلمة فيُشفى خادمي" (8:8). وحاولوا أن يُسكتوا الكنعانية فلم تسكت. وفي أي حال لا شيء يستحيل على الله، فلماذا لا نطلب ونلحّ كما فعل الأعميان اللذان طلبا "أن تفتح أعيننا" (20: 33)؟
مثل هذا الإيمان يجب أن يقود في النهاية إلى المسيح. لا شكّ في أنّ الإنسان يتطلّع إليه فيطلب منه، ويعبّر عن إيمانه. ولكن متّى يرينا يسوع الذي يدشّن بمعجزاته الملكوت. يدّل على أنه هو الآتي ولا حاجة إلى انتظار شخص آخر. "العميان يبصرون، العرج يمشون..."، فلا يبقى لنا الا أن نؤمن بذاك الذي أرسله الآب إلى العالم. وفي مجموعة معجزات يسوع (ف 8-9)، نلاحظ أن متّى توقّف بعد أن أورد ثلاث معجزات ليسوع ليرسم لنا وجه الرب: "أخذ أمراضنا وحمل عاهاتنا" أو خطايانا (8: 17). يسوع هو حامل خطايا العالم. وسوف نرى فيه ذالك الراعي الذي يمتلئ قلبه بالشفقة، لانه رأى الناس "بائسين، مشتّتين، مثل غنم لا راعي لها". وحين يشفي المخلّع ويغفر خطاياه، نفهم أن هذا الشّافي وهذا الغافر هو ابن الإنسان الذي سيأتي في النهاية على سحاب السماء ليدين كل إنسان على أعماله.
أجل، يسوع هو المسيح وابن الإنسان والراعي الذي يبحث عن الخروف الضال، وعبد الله المتألم، كما صوّره أشعيا. كل هذا نكتشفه من خلال المعجزات، كما نكتشف بشكل خاص أنه الرب الذي نسجد له. هذا النحن هو جماعة التلاميذ التي نجدها بشكل مصغّر في معجزة تسكين العاصفة؛ فالسفينة (أو القارب) تدلّ على الجماعة التي تسير على أمواج تلاطمها من كل جهة، ساعة يسوع نائم في موته على الصليب أو غائب في جسده بعد الصعود. تحسّ "الكنيسة" وكأنّها وحدها، فتدعو ربّها نداءً ليتورجيًا في عبارة تسمّيه الرب: "نجّنا، يا رب". هي جماعة خائفة، لهذا "تأخّرت" المعجزة. فلو كان إيمانها قويًا لما خافت. ونلاحظ في بداية الخبر أن التلاميذ يتبعون يسوع. وفي النهاية نجد الرجال، الناس. أجل، يتحدّث متّى عن معجزة أخرى تحتاج إليها كنيسته سنة 85، وهي التي تعرف الضيقات والاضطهاد. ودعا جماعته إلى أن تفعل ما فعل التلاميذ: أن تتبع يسوع. تتبعه في البر وفي البحر، مع الجموع (اليهودية) التي سمعت عظته على الجبل، ومع الناس (الوثنيين) الذين لاقوا يسوع على الشاطئ الآخر من البحيرة، حيث المدن العشر بسكّانها الوثنيين جاؤوا يستقبلونه. تتبعه وإن قلبَ لها مفاهيمَها، وبدّل لها نظرتها إلى الامور، فجعل الفقراء والوضعاء ومحبّي السلام والصغار في المكان الأول. تتبعه حتى وإن أتلف لها زقاقًا حمل خمرة بالية، وإن فرض عليها أن تذهب إلى الوثنيين، وهي التي تريد أن تبقى مع يسوع وحدها أمام ثلاث مظال، كما طلب بطرس (17: 3).
هذا هو معنى المعجزة في إنجيل متّى. لا نكتفي بأن نتعجّب لقدرة يسوع وعظمته، بل نتعرّف إلى شخصه، ونفهم أننا جماعته التي هي معجزة دائمة تتمّ في حضوره بيننا وفي العالم. فيا ليتنا نترك "التفاصيل" العديدة والأوهام التي تحيط بنا، ونذهب إلى ذلك الذي يدعونا إلى الإيمان الذي ينبذ الخوف، ويجعلنا ننطلق في الطريق مثل الأعميين في أريحا!

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM