الفصل الثامن والعشرون من دَيْن الربا إلى العطاء المجّاني...

 

الفصل الثامن والعشرون

من دَيْن الربا
إلى العطاء المجّاني...

الدَين في المفهوم التجاري هو كميّة من المال يتوجّب علينا أن ندفعها لآخر. هو يرتبط بالواجب والمفروض. أما في اللغة العربية، فالدَيْن هو قريب من الدِين الذي هو الإيمان والطاعة له. والفائدة هي التي على الإنسان أن يردّها مع المال الذي استدانه مقابل استعمال هذا المال. والربا هو الفائدة التي نأخذها على المال، وقد تتعدّى كل الحدود المشروعة. فهي تُثقل كاهل المحتاج والفقير، تقتله فلا يستطيع بجهد النفس أن يتخلّص من هذا الدين، فيبيع ماله، بل يبيع نفسه وأولاده ليفي ما عليه. ذاك هو الوضع الذي نعرفه حولنا. فماذا يقول الكتاب المقدّس في هذا المجال؟ ماذا يقول عن الدين والدائن والمديون؟

1- الدَين
وُجدت عادة اقتراض المال عند الشعب العبراني، كما عند سائر الشعوب القديمة. فحاولت الشرائع أن تنظّم العلاقات بين الدائن والمديون. قال سفر الأمثال: "لا تكن ممن يصفقون الكف ويكفلون الديون". هذا علامة الموافقة على الدين. ويتابع النصّ: "قد لا يكون لك المال لتفي، فيُؤخذ فراشك من تحتك" (22: 26-27). ويتحدّث الفصل السادس من سفر الأمثال عن الدين والكفالة ويحذّر المؤمن منه: "تخلّص كالظبي من الشرك، وكالعصفور من يد الصياد" (6: 5).

2- الدائن: لا يحقّ له بأن يطالب بأكثر مما أقرض
ما هو واجب الدائن؟ يحرّم عليه أن يضغط على المديون، أن يثقل عليه بالربا. نقرأ في شرعة العهد: "إذا أقرضت مالاً لفقير من شعبي ممّن عندك، فلا تكن له كالمرابي ولا تقيموا عليه ربا". أهكذا يزداد مالك، أيها الغني، وينمو على حساب أخيك! وكانت العادة أن يؤخذ رهن. وما للفقير سوى ثوبه الذي يلبسه. لهذا، يتابع النص: "إذا رهنتَ ثوب قريبك عندك، فعند مغيب الشمس تردّه إليه، لأنه هو ستره الوحيد وكساء جلده. ففي أي شيء ينام؟ فإن هو صرخ إليَّ سمعتُ، لأني إله حنون" (خر 22: 25-27). وفي الإطار عينه، يرد كلام قاسٍ حول اليتيم والأرملة. يموت رب العائلة فيأتي الدائن. قال الرب بلسان موسى: "لا تسىء إلى أرملة ولا إلى يتيم. فإن أسأت إليهما وصرخا إليَّ، فإني أسمع صراخهما فيشتدّ غضبي". أي يكون عقابي شديدًا (خر 22: 23). الرب إله يسمع وهو يستجيب صلاة المساكين. قد يمهل الخاطىء للتوبة، ولكن الوقوع في يد الله أمر رهيب. إذا كان الأمر هكذا، فصاحب المال لا يعطي دينًا لأحد. وليتدبَّر كل إنسان أموره: هذا موقف الغني الذي كان جار لعازر. "كان يلبس الأرجوان والبزّ، ويتنعّم كل يوم بأفخر المآكل" (لو 16-19). وترك لعازر المسكين عند بابه وما اهتمّ به... بل كانت الكلاب أفضل من هذا القلب القاسي. لهذا كان مصيره العذاب (آ 23). فما وجد من يعطيه "نقطة ماء يبرّد بها لسانه، لأنه معذّب في هذا اللهيب".
في هذا يقول سفر التثنية: "إذا كان بقربك محتاج من إخوتك في إحدى مدنك... فلا تقسِّ قلبك، ولا تغلق يدك (أي لا تبخل، لا تكن بخيلاً تجاه أخيك المحتاج)، بل افتح له يدك وأقرضه ما يعوزه... فإن لم تعطه، يصرخ إلى الربّ عليك، فتكون خطيئة عليك. بل أعطه بسخاء، ولا تتورّع من إعطائه، فيباركك الربّ في كل أعمالك" (15: 7-10). ويشدّد النص على الوضع الذي يعرفه العبراني، والذي نعرفه اليوم وكل يوم. " الأرض لا تخلو من محتاج، من فقير؟ لذلك آمرك بأن تفتح يدك لأخيك المحتاج والمسكين" (آ 10). والدائن لا يحقّ له أن يطالب بأكثر مما أعطى أي بأكثر مما أقرض. قال سفر اللاويين: "إذا افتقر أخوك وقصُرت يده عن العيش، فأعنه. لا تأخذ منه ربى ولا ربحًا. هكذا تدلّ على أنّك تخاف الله. حين يعيش أخوك معك، لا تقرضه مالك بربى ولا تطعمه لكي تستربحه" (25: 35-37). والاسترباح على أنواع. نأخذ منه ضعف ما أعطيناه. نأخذ له بيته إن كان له بعدُ بيت. نأخذ له حقله إذا بقي له حقل. في هذا المجال، يصرخ أشعيا بوجه الأغنياء المستبدّين ويهدّد بعقاب الله: "ويل للذين يضمّون بيتًا إلى بيت ويصلون حقلاً بحقل، حتى لا يبقى مكان لأحد، فسيسكنون في الأرض وحدهم" (5: 8). كان البيت يلاصق البيت، فيهدمون الجدار المشترك ويتوسّعون على حساب الفقير والمحتاج. وكان الحقل بجانب الحقل، فيزيح الدائن الحدود، وهكذا يُطرد الفقير من بيته والمحتاج من حقله، فلا يبقى في الأرض إلا المقتدرون. هذا ما فعله الملك أخاب بعد أن نصحته امرأته ايزابيل: أراد أن يوسّع ساحة القصر، فقتل نابوت صاحب الكرم الملاصق لقصره، وهكذا فرغت له السّاحة وما عاد شيء يضايقه. وسيكون النبي عاموس قاسيًا حول الأغنياء الذين لهم البيت الصيفي والبيت الشتوي. فأعلن بفم الرب العقاب الذي ينتظرهم: "أضرب البيت الشتوي مع البيت الصيفي، وتبيد بيوت العاج وتضمحلّ بيوت كثيرة" (3: 15). ونساء السّامرة اللواتي يظلمن الفقراء ويسحقن البؤساء من أجل حياة في الترف، يسمّيهن عاموس "بقرات باشان" (4: 1) ويهدّدهن بالعقاب المريع. بعد هذا، ماذا تنفع صلواتنا وذبائحنا. وقال الله بفم عاموس: "أبغضت أعيادَكم ورفضتها، ولا أرتاح لاحتفالاتكم... لا أرضى عن تصرّفاتكم" (5: 21-22). ويلتقي أشعيا مع عاموس: "إذا رفعتم أيديكم للصلاة أحجب عيني عنكم، وإن أكثرتم في الدعاء لا أستمع لكم، لأن أيديكم مملوءة بالدماء". فإذا أردتم أن أرضى عنكم، "كفّوا عن الإساءة، تعلّموا أن تصنعوا الخير، أن تُحسنوا (تعطي حسنة)، أغيثوا المظلوم، أنصفوا اليتيم، حاموا عن الأرملة" (أش 1: 15-17). ولن تبقى كلمات الله كلامًا، بل تحمل عقابًا قاسيًا على هؤلاء الذين وضعوا يدهم على البيوت والحقول، بل اشتروا الإنسان لقاء حفنة من المال. "بيوت كثيرة تصير خرابًا، بيوت كبيرة فخمة تبقى بغير ساكن، وكيْلُ بذار لا يُخرج إلا قفّة" (أش 5: 9-10). هنا نتذكر رواية الرّغيف ليوسف عواد حين حاول ذاك الغني القاسي القلب أن يشتري تلك الأرملة التي طلبت منه مالاً لتطعم أولادها.
هناك يكون كلام الرب قاسيًا جدًا في الكتاب. أن يستدين التاجر مالاً يحتاج إليه في تجارته، أمر معقول جدًا. وإن هو أعطى "فائدة" المال، فهو يتقاسم مع الذي أمدّه بالمال الربحَ الذي حصل عليه. ولكن أن نضيِّق على الجائع حين يحتاج إلى ما يعول به نفسه وأولاده، فهذا أمر لا يرضى عنه الله. ونحن نعرف أن الذين جمعوا مالهم في الحروب، ما عتّم أن حمل إليهم هذا المالُ الموتَ والخراب.
في هذا المجال، يفرّق العهد القديم بين القريب والغريب. يقول عن القريب: "لا تقرض أخاك بربى: لا قرض مال، ولا من أجل الطعام ولا من أجل شيء آخر (يحتاج إليه في حياته اليومية). أما الغريب فتقرضه بالربى. وهكذا يباركك الرب في جميع أعمال يديك" (تث 23: 19-20). لا شك في أننا ما زلنا على مستوى العهد القديم. على مستوى العصور الاولى حيث ينغلق الانسان على العائلة والاهل والأقارب والأعمام والقبيلة. أمّا الغريب، فهو العدوّ. لهذا نفهم خبر الإنجيل عن السّامري، الذي انحنى على "عدوّه اليهودي"، فضمّد له جراحه، وصبّ عليها زيتًا وخمرًا، وحمله على دابّته وأخذه إلى الفندق (لو 10: 33-35).
هنا نتذكّر صرخة العائدين من السبي، الذين باعوا نفوسهم وبنيهم وبناتهم ليأكلوا ويعيشوا. وكانوا، قبل ذلك، قد رهنوا الحقول والكروم والبيوت. فوبّخ نحميا الأغنياء لأنّهم أخذوا الربى من إخوتهم. وقال: "أنا وإخوتي ورجالي أقرضنا الشعب مالاً وحنطةً (كان نحميا موظفًا ملكيًا، وكان بالتالي غنيًا جدًا)، ولكننا نعفيهم من هذا الدين، وأنتم أيضًا أعيدوا إليهم في هذا اليوم، حقولهم وكرومهم وزيتونهم وبيوتهم، ولا تطالبوهم بالمال والحنطة والخمر والزيت". فقالوا: "نعيدها ولا نطلب منهم شيئًا" (نح 5: 1-13). يا ليتنا نحن المؤمنين، نصنع كذلك في أيام الضّيق التي نعيش فيها، بعد سنوات طويلة من الحرب. إن فعلنا، نكون على مستوى العهد القديم، ولم نصل بعد إلى الإنجيل، إلى العهد الجديد حيث علّمنا يسوع: "كلّ من سألك فأعطه، ومن أخذ مالك فلا تطالبه به. إن أحسنتم إلى من يحسن إليكم فأيّ فضل لكم؟ فالخطأة أيضًا يفعلون كذلك. وإن أقرضتم من ترجون منهم أن تستوفوا منهم، فأي فضل لكم، فالخطأة أيضًا يقرضون الخطأة لكي يستوفوا منهم المثل. ولكن... أحسنوا، واقرضوا غير مؤملين شيئًا. فيكون أجركم كبيرًا وتكونون بني العلي" (لو 6: 30-35). فإن كان الذين أعطيتهم من الأشرار، من الذين لا يعرفون الجميل، فلا بأس. فالله هو الذي يعوّض. فالله هو الصالح الذي يتفوّق سخاؤه على كل ما في البشر من سخاء. ان أعطيتم أعطاكم الله. أعطاكم كيلاً ملآنًا ملبدًا مهزوزًا فائضًا. "فبالكيل الذي تكيلون به يُكال لكم" (6: 38). هو يعفينا من ديوننا فلماذا لا نعطي المحتاج (راجع مت 18: 27).
وهكذا رفعنا يسوعُ إلى مستوى الله وعطائه المجاني: "أعطوا تعطوا". وأفهمنا أن في العطاء لذة لا نجدها في الأخذ (أع 20: 35). وجعل الفقراء مستقبلينا في السماء. فإن نحن أحسنّا إليهم على الأرض "يستقبلوننا في المظال الأبدية" (لو 16: 9). في "موضع الخلاص". وكان العهد القديم قد فرض على الدائن أن لا يطول دينه إلى ما لا نهاية. فالسنة السابعة هي سنة الإعفاء من الديون. فيها ترتاح الأرض، فلا تُفلح ولا تُزرع. وفيها يرتاح المثقل بالديون من ديونه. يتخلّى الدائن عن حقّه ولا يعود يطالب قريبه ولا أخاه. ساعتها "لن يعود فيما بينكم فقير" (تث 15: 31). وانتبه المشترع إلى بعض قساة القلوب الذين يحسّون باقتراب السنة السابعة، سنة الإعفاء، فلا يعودون يقرضون إخوتهم مالاً. لهذا تابع سفر التثنية: "إحذر أن يقع في قلبك فكر شرير يقول لك: قد قربت السنة السابعة، سنة الإعفاء، فتصرف نظرك عن أخيك الفقير ولا تعطيه، فيصرخ إلى الرب عليك فتكون عليك خطيئة. بل أعطه طوعًا لا إكراهًا" (15: 9-10).

3- المديون: لا يحق له أن يصرف ماله وينسى واجبه
واجب المديون أن يدفع دينه، ولكنه قد لا يستطيع دائمًا. حين كان شاول يلاحق داود، جاء إلى داود إلى عدلام عدد من المديونين الذين لا يستطيعون أن يفوا دينهم فكان الدائنون يلاحقونهم (1 صم 22-2). وهكذا وُلدت ثورة في البلاد. وفي أيام الشدّة والضيق، لا يكون الدائن أفضل من المديون فيضيّق الواحد على الآخر. تلك صورة نجدها في مثل من أمثال يسوع ورد في إنجيل متى: "قبض عليه وأخذه بخناقه وهو يقول: أدِّ ما عليك". وزاد على هذه المعاملة السيّئة "فطرحه في السّجن حتى يوفي الدّين". أما المديون فجعل يتضرع. طلب مهلة (مت 18: 28-30). لهذا كانت العلاقات بين الدائن والمديون صعبة جدًا، ولا سيّما في أوقات الحروب، حيث تكون حالة السيّد كحالة العبد، وحالة الشاري كحالة البائع، وحالة من يقرض كحالة من يستقرض، وحالة الدائن كحالة المديون (أش 24: 1). ويعطي إرميا صورة عن هذا الوضع حين يقول إن الجميع يلعنه مع أنه ليس بدائن ولا بمديون. فالدائن يلعن المديون، وهذا يردّ الكيل كيلين لذاك. مثلُ هذا الوضع يجعل من المجتمع جحيمًا لا يطاق. فيا ليت الدائن يعرف أن يرحم ويتحنّن. يا ليته لا يرفع نسبة الفائدة لئلا يخنق أخاه. يا ليته يمهله.
فإذا كانت الدول تعيد تقسيط الدّيون بعضها لبعض، فكم بالأحرى الإنسان مع أخيه الإنسان، وكم بالأحرى المؤمن الذي يعرف أن كل ما يعمله لأخيه، لأصغر الصغار، لأفقر الفقراء، إنما يفعله للمسيح. "كل ما فعلتم لأحد إخوتي هؤلاء الصغار فلي فعلتموه" (مت 25: 40). عند ذاك يسمع صوت يسوع الديّان في نهاية الأزمنة: "تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ إنشاء العالم" (آ 34). وإذا لم نتعرّف إلى إخوتنا، فيسوع لا يتعرّف إلينا. وإذا كنا لا نفعل لإخوتنا، نكون وكأنّنا لم نفعل للمسيح. "كل ما لم تفعلوه لأحد إخوتي هؤلاء الصّغار فلي لم تفعلوه" (آ 45). إذن "اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبديّة المعدّة لابليس وملائكته" (آ 41).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM