الفصل السادس والعشرون :أمومة الله

الفصل السادس والعشرون

أمومة الله

كنت مرة في سهرة انجيلية، اقرأ مع المؤمنين خبر الابن الضّال (لو 15: 11-32)، وسأل أحدهم: "أين الأمّ في هذا الخبر"؟ فما عرفت أن أجيب إلى أن رأيت لوحة رمبرانت. فقد صوّر الوالد الذي يعانق ولده بيد أم ويد أب. أجل، الله في خبر الابن الضال هو أب وأم معًا. حين جاء ابنه، تحرّكت أحشاؤه كما تتحرّك أحشاء الأم حين يعود إليها ابنها بعد غياب طويل. والصفة الكبرى في الله هي الرحمة. وكلّنا يعلم أن الرحمة ترتبط برحم المرأة التي تحسّ بابنها في حشاها. وإذا كان الله هو الرحيم، فهو يُحسّ بنا كما تُحسّ الأمّ بابنها. وإذا كان الله أبًا، فهو أمّ أيضًا، لأن صورة الله في الكون لا تكتمل بالأب وحده، بل بالأم أيضًا. فليس الرجل وحده على صورة الله، وليست المرأة وحدها على صورة الله، بل الرجل والمرأة معًا هما صورة الله. وواحد منهما لا يقدّم سوى صورة مبتورة ناقصة عن الله. وها نحن نتوقف عند النصوص التي تتحدث عن هذه الأمومة لدى الله.

1- الله حبل بهذا الشعب وحملهم
قال موسى للرب: "هل أنا الذي حبل بهؤلاء الشعب كلهم؟ أم هل أنا الذي ولدهم حتى تقول لي: احملهم في حضنك كما تحمل الحاضنُ الرضيع" (عد 11: 12)؟
يروي عد 11 الأحداث التي ارتبط ذكرها بوقفتين للعبرانيين في برّية سيناء: "تبعيرة" (أو تعبيرة بعد أن عبر الله بينهم)، و"قبروت هتاوّة" (بعد أن قبروا القوم الذين ماتوا من التأوّه، من شهوة اللحم).
تذكّر الشعب الخيرات التي كانت له حين كان في مصر، فتأوّه. يا ليته يعود إلى مصر بعد أن سئم طعمَ المن.
وأخذوا يبكون. فغضب الرب، وكانوا يرون غضبه من خلال مرض أو موت يصيب بعضهم. سمع موسى بكاء الشعب فحنّ قلبه. ورأى غضبَ الله، فاستاء من ثلاثة: من موقف الشعب، من غضب الرب، وخصوصًا من وضعه بين الله والشعب. ماذا تراه يستطيع أن يفعل؟ حينئذ رفع صلاته إلى الله الذي جعله في هذا الموقف الحرج، الذي حمّله أثقال هذا الشعب. صرختُه هي صرخة كل مسؤول يحسّ بضعفه أمام حاجات شعبه. هي صرخة الأب الذي لا يعرف ماذا يطعم أولاده في ساعة الجوع، هي صرخة الأمّ التي ترى الشقاء يحلّ بثمرة حشاها.
ذاك كان وضع موسى، وقد جعله الله أمّ شعبه. ولكن موسى بيّن من خلال سؤاله أن الله هو أم الشعب. واستعمل ثلاث كلمات: حبل، ولد، حمل. وهذا ما تقوم به الأمّ. تحبل بابنها، تضعه، تلده، وأخيرًا تحمله على ذراعيها. ولفظة "أنا" في العبريّة هي تلك التي تستعمل للحديث عن الله. هي لفظة التفخيم "أنُكي". ونقرأ موصوفين يتقابلان: الحاضن التي تضع ابنها في حضنها، والرضيع الذي يمتصّ ثدي أمّه: صورتان مأخوذتان من الواقع اليومي، طبّقهما موسى على الله طالبًا منه أن يتحنّن، أن يرحم شعبه، وأن يهتمّ بطعامهم كما تهتمّ الام بحليب تقدّمه لطفلها.

2- أنا الذي علّمهم المشي
في هذا الخط نقرأ نصًا من نبوءة هوشع يحدّث شعبه في مملكة الشمال، يحدّث بني افرائيم الذين صارت طاعتهم كسحابة الصبح وكالندى الذي يزول باكرًا (هو 6: 4). يتحدّث النبي باسم الله الذي يهمّ بأن يعاقب، ولكنه يتراجع. فشعبه هو ابنه.
"يوم كان اسرائيل فتى أحببته، ومن مصر دعوت ابني. كلما دعوتُه هرب من وجهي... وأنا الذي علّمهم المشي وحملهم على ذراعه... جذبتهم إليّ بحبال الرّحمة وروابط المحبة، وكنت لهم كأب يرفع طفلاً على ذراعه، ويحنو عليهم ويطعمهم" (هو 11: 1-4).
حين نعرف عادات شعب الصحراء، حيث يُفصل الاطفال عن الرجال، ويكونون مع أمهم، نفهم أننا هنا أمام أب يتصرّف تصرّفات أم. أفرائيم هو صبي، والصبي يبقى مع الوالدة إلى أن يبلغ. بل عاد النبي إلى عمر الطفولة، فصوّر الأمّ وما تفعله لطفلها: تعلّمه المشي، تحمله على ذراعها، ترفعه، تحنو عليه، تطعمه. هذا ما فعله الله مع شعبه في البرية: علّمه السّير في البريّة، منحه الطّعام والشّراب، أمسكه بيده، أنار له طريقه، حماه من الحر ومن لسع الحيّات. كل هذه الخبرة جعلها هوشع في قلب الله الذي كان أمًا لشعبه، بل لكل فرد من أفراده. ونحن نستطيع أن نعيشها حين نعرف أننا القطيع الصغير، وأن الرب يهتّم بنا. ويقول النبي إنّ الله لم يستعمل القوة لكي يعود بشعبه إليه. بل اجتذبه بحبال الرحمة وروابط الحب. طريقة رائعة في الحديث عن إله العهد القديم الذي قيل فيه خطأ أنه "يلتذّ بالدم". أنه اله الحروب والقتل والدمار. أنه الاله الذي يغضب ويحطّم. أنه يمرّ فيترك وراءه الموت. هنا نكتشف الله كأمّ تجاه أولادها برحمته، وكزوج تجاه زوجته بالحبّ الذي يشعل قلبه.

3- أتنسى المرأة
"أتنسى المرأة الولد الذي ترضعه؟ ألا ترحم ابن بطنها؟ ولو أنّها هي نسيت، فأنا لا أنساك" (أش 49: 15).
كانت صهيون (= أورشليم) قد قالت: "الرب تركني، ربي نساني" (آ 14). فكان جواب الرب لها، جواب الأمّ لابنها أو لابنتها. قابل نفسه مع المرأة التي لا تنسى طفلها مهما اشتدّت الظروف عليها. طرح النبي سؤالاً: أتنسى المرأة؟ والجواب هو كلا، بلا شك. كيف تنسى أبنًا ترضعه؟ فكأنها تتركه يموت. وكان سؤال آخر: ألا ترحم؟ حرفيًا: من الرحم. من أعمال أحشائها. ويأتي البرهان بحدّين. فإن حصل وتركت أمٌ إبنها، فهذا لا يحصل لدى الله. انطلق الكاتب من خبرة البشر، ولكن هذه الخبرة تبقى ضعيفة جدًا تجاه واقع الأمومة عند الله. أمومة الله لا يتصوّرها عقل، ولا يصل إليها قلب بشر.
هنا نتذكر كلام مز 27: 9-10: "لا تحجب وجهك عني... ولا تتركني يا الله مخلّصي. إن تركني أبي وأمي، فأنت يا رب تقبلني". كما نتذكر سفر التثنية الذي هو سفر حبّ الله لشعبه. يقول الرب بلسان موسى: أهكذا تكافئ (تردّ جميل) الرب أيها الشعب الأحمق الذي لا حكمة الله؟ أما هو أبوك الذي أعطاك الحياة؟ أما هو الذي صنعك وكوّنك" (تث 32: 6)؟ ونقرأ في آ 18: "تركتَ الخالق الذي ولدك (أو: حبل بك)، ونسيت الاله الذي وضعك"، كما تضع الأم طفلاً.

4- أصْرُخ كالتي تلد
إن نصوص أشعيا الثاني (40-50) التي تتحدّث عن الامومة كثيرة، وهي تمتزج مع نصوص أخرى لتذكر عمل الله في شعبه. نشير هنا إلى أن النصوص التي تتكلم عن الامومة جاءت متأخّرة، والسبب في ذلك، هو خوف العبرانيين من الشرك ومن وجود إلاهة تقابل الاله، المؤنّث يقابل المذكّر كما عند الكنعانيين وعند المصريين. مثلاً، أدونيس وعشتروت، إيزيس وأوزيريس. وقد يكون هذا السبب الذي لأجله وُضعت مرارًا لفظة الأب حيث وجب أن توضع لفظة الام. ولكن كما أن هوشع اقتحم عالم بعل وصوّر الله كعريس يحب عروسه التي هي أمّته وشعبه، كذلك اقتحم أشعيا عالم بابل ومصر فتحدّث عن الله الأب وعن الله الأم، عن الله الذي يجمع قوة الأب وحنان الأم. وهذا ما نكتشفه في النص التالي.
"الرب الجبّار برز، وكرجل قتال يثير غيرته (يستعد للقتال. حبّه يدفعه إلى التدخّل). يهتف هتاف الحرب ويصرخ متحدّيًا أعداءه. (يقول): طالما سكتُّ وصمتُّ (لم أتكلّم، لم أتحرّك، ولم أعمل شيئًا) وضبطتُ نفسي. فالآن أصرخ كالتي تلد، أنفخ وأتنفّس بصعوبة" (اش 42: 13-14).
في هذا القول النبوي (آ 10-17) يدعو النبيّ الشعوب لكي تنشد نشيدًا جديدًا، لكي تهتف هتافًا تحمد فيه الله الذي لن يبقى ساكنًا وساكتًا، بل سيفعل، وسيتجلّى، فيرى الجميع عمله. ويبرز حضوره من خلال الجبّار الذي يقاتل فيدل على قوّة الرجل، قوّة الأب. ثم من خلال الألم الذي يرافق الولادة: نحن أمام صورة الام التي تنفخ وتزفر وتستعدّ للولادة. إن تنفّس الله يشبه تنفّس امرأة ستضع ولدًا، وهذا التنفّس يسبب انقلابًا كونيًا مخيفًا تصوره آ 15: "أخرّب الجبال والتّلال، وأيبّس كل عشبها".
ذاك هو وجه الله. نعرف عادة أنه أب يهتمّ بابنه الذي ليس الملك وحسب، بل كل فرد من أفراد شعبه. ونتعرّف إليه الآن على أنه أمّ. رحمته خلقت رحم الأمّ. وعنايته هي صورة بعيدة عن عناية الأمّ بطفلها. ومحبته وحنانه محبة أمّ وحنانها. فكيف لا نتعامل مع هذا الاله كما يتعامل الولد مع أبيه والطفل مع أمه؟ من أجل هذا سيقول لنا يسوع: "ان لم تصيروا كالأطفال فلن تدخلوا ملكوت السماوات". منذ هذه الحياة نتعلّق بالله، ونبقى متعلّقين به في الآخرة، في ثقة عميقة واستسلام تام على مثال ما قال مز 73: 23: "أنا معك في كل حين. تمسكني بيدي اليمنى. بمشورتك تهديني، وإلى المجد تأخذني من بعد. من لي في السماء سواك وعلى الأرض لا أريد غيرك".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM