الفصل الخامس والعشرون :قلب الحجر وقلب من لحم

 

الفصل الخامس والعشرون
قلب الحجر
وقلب من لحم

يتحدَّث حزقيال مرارًا عن الجديد الذي ينتظر شعب الله العائش في المنفى بعيدًا عن أرضه وهيكله. فيعلن باسم الرب: "سأجمعكم من بين الشعوب، وأحشدكم من الأراضي التي شتِّتم فيها. أعطيهم قلبًا أخر وأجعل فيهم روحًا جديدًا. أنزع من لحمهم قلبَ الحجر وأعطيهم قلبًا من لحم، لكي يسيروا على فرائضي ويحفظوا أحكامي ويعملوا بها، فيكونوا لي شعبًا وأكون لهم إلهًا" (حز 11: 19- 20). ويدعوهم الرب أيضًا: "أنبذوا عنكم جميع معاصيكم التي بها عصيتم، واصنعوا لكم قلبًا جديدًا وروحًا جديدًا" (حز 18: 31).
ويبقى النص الاساسي الذي نتوقّف عنده، هو الذي نقرأه في حز 36: 16-28: إنه يبدأ ببناء الشعب على المستوى الوطني والمستوى الروحي.
يتضمّن هذا الفصل إعلانين لكلمة الله. فالأول يشير إلى ازدهار جديد على مستوى الزراعة. والثاني يكشف عن نيّة الله العميقة حين سمح بأن يطرد شعبه عن أرضه ويذهب إلى المنفى. نرى في الاعلان الثاني ثلاث محطات: لماذا ذهب شعب اسرائيل إلى المنفى (حز 36: 16-20)؟ لقد عزم الله على تخليص شعبه مرة أخرى (حز 36: 21- 32). ستأتي البركات الوافرة على اسرائيل الذي تنقّى من آثامه (حز 36: 33-32).

1- لماذا تصرف الله بقساوة (حز 36: 16- 20)
نظر حزقيال إلى كل حياة الشعب الاخلاقيّة في إطار الليتورجيا والعبادة. ولهذا فالسبب الاساسي للعقاب الذي حلّ بالشعب الذاهب إلى المنفى، هو كرهُ الله لسلوك اسرائيل في أرض الرب. فخطايا اسرائيل "نجّست" الأرض التي يسكنها. وهناك خطيئتان نجّستا الأرض تنجيسًا خاصًا، وهما: الدم المسفوك، وعبادة الاوثان التي هي "قذارة" كما يسمّيها حزقيال.
وحين وصل الشعب إلى الأرض الوثنية، دنّس اسم الله وقدرته وحنانه. قالوا: لم يستطع الله أن يخلّص أورشليم من الدمار، لأنه إله كسائر الآلهة.

2- خلق شعب جديد (حز 36: 21-32)
وبدأ هذا القسم من النصّ بكشف عن نيّة الله تجاه شعبه، وكلام جديد يوجِّهه إلى النبي: "أخذتُ بعين الاعتبار اسمي الذي دنَّسَه بيتُ اسرائيل وسط الامم" (حز 36: 21). "ولذلك قُلْ لبيت اسرائيل: هكذا قال السيّد الرب" (حز 36: 22).
ونقرأ هنا إعلانًا مدهشًا عن مبادرة الرب الذي عزم على خلق شعب جديد طُهِّر من أدناسه، في أرض جديدة مقدّسة ترتبط فيها علاقات متواصلة وحميمة بين الله والإنسان.
ويلجأ حزقيال كعادته إلى اللغة الليتورجية: رشّ الماء، الحياة النقية، التطهير، النجاسة، قلب جديد، قلب من حجر، قلب من لحم، تقديس اسم الله، الروح... هذه الطريقة في الكلام تُذكِّرُنا بنصوص خر 30: 17- 21؛ لا 14: 52؛ عد 5: 17؛ 19: 9، 17.
يظهر عملُ الله حالاً كأنّه خلقٌ جديد يجعل في الانسان (كما جعل في آدم في الماضي، تك 2:7) قلبًا جديدًا وروحًا جديدًا، بعد أن يُزيل منه قلبَ الحجر. فالقلب الجديد والروح الجديد هما مبدأ حياة جديدة تختلفُ عمّا سبق، وقوّة حياة جديدة. وهما يجعلان الانسان يقوم بأعمال استحالت عليه في الماضي: سيخضع طوعًا لشريعة الله، ويرتبط بالله برباط الحبّ، ويقبل قبولاً طبيعيًا كل ما يفرضه الله عليه.

3- شعب جديد في جنة عدن (حز 36: 33-38)
بعد أن خلق الله شعبًا جديدًا يوطّد علاقة جديدة بالله، وَعَدَ بأن يَخْلُق أَرضًا جديدة تُعاش فيها هذه العلاقات بشكلٍ كامل وثابت.
لقد صار الشعبُ جديدًا، فلا بدّ له من أرض جديدة. سيعيد الرب هذا الشعب الجديد إلى مدينته. سيُزيل دمارها ويُعيد بناءَها. وسيعود الزرعُ إلى الأرض وتُزْهر الصحراءُ على عيون المارين (36: 34)، الذين يُنشدون نشيدًا يُنسيهم آلامَ الماضي.
"إنَّ هذه الارض، التي كانت مقفرة في الماضي، صارت جَنّةَ عدن، والمدنُ الخربة المقفرة المُنْهَدمة، صارت حصونًا مسكونة" (36: 35). نلاحظ العبارة: "مثل جنّة عدن" (لا عدن حقيقي)، وهذا ما يشدّد على الطابع التاريخي الاسكاتولوجي للأرض الجديدة. إن هذا القول النبوي يعود بنا إلى تك 2: 8 الذي يصوّر عمل الله العجيب في خلق جنّة عدن حيث جعل الإنسان الذي جبله بيديه (تك 2: 7). الأرض الجديدة التي سيقيم عليها اسرائيل الجديد تشبه فردوس البدايات. ويشدّد النبي على الطابع العجيب لهذه الأرض التي خُلقت من جديد. إنها ستشهد على عيون الوثنيين لحبّ الله لشعبه (شعب جديد، محبّة جديدة) ولقوّة فاعليّة كلمته (36: 36).
لقد قرأ الآباء هذا النص على ضوء ليتورجية المعمودية وتوقّفوا عند الأفكار التالية:
- الله بنفسه يبادر إلى تجديد شعبه وتنقيته إكرامًا لمجد اسمه، وذلك خلال احتفال ليتورجي (حز 36: 21-22) نجد صداه في النصوص العمادية (تي 3: 4-7، يو 1: 18-31).
- الله وحده هو خادم هذه الليتورجيا، ليتورجيا التجديد والتطهير. لا أمل للإنسان بأي رحمة بعد أن نجسّ قداسة اسم الله (حز 36: 23-25). ولكن الله سيفعل.
- يكون تطهير الشعب وتجديده في خلق جديد، وقلب جديد، وروح جديد، هو روح الله الذي طلبه المرتّل في مز 51: 12-14. المراد إنسانٌ جديدٌ خُلق بحسب الله في البر وقداسة الحقّ (أف 4: 24). هنا نعود إلى القديس بولس الذي يتحدّث عن الخليقة الجديدة.
- بعد تحقيق الخليقة الجديدة، تُعطى للإنسان الجديد أوفر ثمار الأرض وأطيبها. وتشكّل هذه العطايا برهانًا على علاقة الصداقة مع الله ونتيجة الحياة الجديدة. هذا ما كان لآدم، وهذا ما يكون للمسيحي حين يقتبَّل سرّ العماد (غل 5: 22).
- وتُخلق للشعب الجديد أرضٌ جديدة شبيهة بجنّة عدن. لأن الخليقة كلّها تشارك المؤمن في أفراحه وأحزانه (روم 8: 19- 23).
- ويكون الخصب عجيبًا في الشعب الجديد بفضل بركة الله الخاصة. ويكون هذا الشعب صاحب دعوة فريدة في العالم يسير بموجبها، حسب روح الله كما يقول لنا الرّسول بطرس: "أمّا أنتم فجيلٌ مختارٌ، كهنوت ملوكي، أمّة مقدّسة، وشعب مقتنى، لتشيدوا بمجد الله الذي دعاكم من الظّلمة إلى نوره العجيب". (1 بطر 2/ 9).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM