الفصل الرابع والعشرون العيد لدى ربّ الأكوان


الفصل الرابع والعشرون

العيد لدى ربّ الأكوان


عندما نقرأ أسفار الأنبياء نلاحظ مرارًا لغة التّهديد والوعيد. فالله آت لكي يعاقب شعبه على خطيئته، لكي يدينه الدينونة القاسية، لأنّه خان العهد فتبع الآلهة الغريبة، وتجاوز حقّ الغريب والفقير، واليتيم والأرملة. ويومُ الرب، كما قال عاموس، هو يوم الظلام والسواد، لا يوم النور والضياء. ولكنّنا نعيش مع ما نقرأ في أشعيا اليوم، نعمة العيد. الربّ بنفسه جاء يعيّد مع شعبه، بل مع جميع الشعوب. فهو ليس إله شعب وحسب، وليس إله الأمم فقط، إنه ربّ الكون كله. وهو يدعو الأكوان جميعًا لتحتفل معه بالعيد وتُنشد الأناشيد. "هذا هو الإله الذي انتظرناه. فلنبتهج ولنفرح بخلاصه". ونحن نقرأ أش 25 فنكتشف فيه فعل الشكر لأحكام الله العادلة تجاه المتكبّرين، ورحمته من أجل المضايقين (آ 1-5). كما نشارك في وليمته التي هيّأها لجميع الشعوب (آ 6-8). ونفهم في النهاية (آ 9-12) أن الذين يظلّون خارج الوليمة، هم المتجبّرون الذين يمثّلهم موآب (آ 9-12).

1- نشيد الشكر (25: 1-5)
"أيّها الرب أنت إلهي! أعظمك وأحمد اسمك، لأنّك صنعت عجبًا، وتمّمت بحقّ وصدق ما شئتَه من قديم الزمان" (آ 1).
نبدأ فنقول قبل التوقّف عند هذه القطعة، أن أش 24-27 يُشكّل وحدة دخلت في هذا الكتاب الكبير الذي اسمه سفر أشعيا، بعد أن كوَّنت في الأصل مقاطع ارتبطت بعضُها ببعض وجاءت مستقّلة عمّا قبلها وعمّا بعدها. هنا نتذكّر أن سفر أشعيا، شأنه شأن سائر الأسفار، لم يدوّن دفعة واحدة، بل جمع عناصر عديدة ارتبطت بما نستطيع أن نسمّيه مدرسة أشعيا التي بدأت مع النبيّ في القرن الثامن ق.م، وتواصلت في أيام المنفى (587- 538) كما بعد المنفى، فبلغت إلى الفرس واليونانيين. وقد تركت هذه المدرسة بصماتها حتى في الحقبة الهلنستيّة التي بدأت مع الإسكندر المقدوني فحملت إلى الشرق الحضارة اليونانيّة.
فالوحدة المؤلّفة من ف 24-27 تمثّل الرؤيا الكبيرة في أشعيا وستليها الرؤيا الصغيرة في ف 34-35. وهي لا تتوقّف عند حدث معيّن، بل تلقي نظرة علويّة إلى الأحداث. فالله هو الذي يرسل أنواره إلى "نبيّه"، والنبيّ يعبّر عن هذا النور بلغة عصره. ولكن هذا لا يمنع التلاميذ من أن يعيدوا قراءة النصوص على ضوء الواقع الجديد الذي يعيشونه. ولا تتوقّف هذه الفصول عند مدينة معيّنة. فإن كانت الكلمة النبويّة انطلقت في البدء من مدينة معيّنة، فهي في النهاية تصل إلى كل مدينة. هذا ما نقوله عن "المدينة المنيعة" في 26: 1 التي رأى فيها الشّراح أورشليم وعير موآب وغيرهما. أجل، لا يمكن لكلمة الله أن تنحصر في مكان، ولو كان هذا المكانُ أرضَ الرب بعاصمتها المقدّسة وهيكلها الذي يدلّ على حضور الربّ وسط شعبه. ولا يمكنها أن تنحصر في زمان. فهي لكل زمان ومكان. ولهذا نحن نقرأها اليوم في أشعيا بعد أن مرّت عليها ألفا سنة ونيّف.
أيها الربّ أعظمك...
ونعود إلى آ 1-5. فهي تُنشد صلاح الله. وهذا الصلاح يظهر في معاقبة المتكبّرين الظالمين. هذا ما يُسمّى في لغة الكتاب "انتقام"، الذي هو في الواقع إحقاق الحقّ. لهذا يقول النصّ: "تمّمتَ بحقّ وصدق". تلك هي الوجهة السلبيّة. والوجهة الإيجابيّة ترينا صلاح الله عندما يهتمّ بالبؤساء والفقراء، فيكون لهم ملجأ يقيهم في العواصف.
وهكذا جاءت هذه الآيات كما يلي: لماذا نمدح الله (آ 1أ)؟ بسبب أعماله العجيبة، بسبب نشاطه الذي يتعدّى كل ما يستطيع البشر أن يفعلوا (آ 1ب). وكيف بدت هذه الأعمال؟ حين دمّر المدينة والحاضرة (أو القرية)، فصارتا رجمة وخرابًا (آ 2). هنا نفهم أسلوب الكتاب المقدّس الذي ينسب في النهاية إلى الله كل شيء. كأني به يترك جانبًا تدخّلات البشر في التاريخ من أجل الخراب أو البقاء، ويعيد كلّ شيء إلى الله. في الواقع كانت حرب شرسة، وأي عصر لم يعرف الحروب، تركت وراءها الدّمار، فاعتبر "النبيّ" أن الرب هو الذي وجّه هذه الحرب كنداء إلى التوبة والعودة إلى الله.
لذلك نجد في آ 3 دعوة إلى الشعوب لكي يمجّدوا الله ويحمدوه، وهذا يعني أنهم اعترفوا بعظمته، وأقرّوا أن عظمتهم ليست بشيء تجاهه. عندئذ يتشبّهون بالشيوخ في سفر الرؤيا الذين ألقوا أكاليلهم عند العرش الإلهي (رؤ 4: 10)، وارتموا على وجوههم ساجدين لله وقالوا: "لإلهنا الحمد والمجد والحكمة والشكر والإكرام والقوّة والقدرة إلى أبد الدهور" (رؤ 7: 11-12).
ونصل في آ 4 إلى أسس فعل الشكر والتعظيم: الله ملاذ الفقراء، الله موئل البائس في ضيقه، الله ملجأ بوجه الطغاة الذين يشبّههم النص بالعواصف خلال الشتاء، وبالحرّ الشديد الذي يقابله فيءٌ يؤمّنه الرب الإله. وهكذا ينطلق المؤمن من الوضع الحاضر فيتطلّع إلى المستقبل المشرق (آ 5). إذا كان الله بهذه القدرة، فماذا يخاف الإنسان بعد؟ ماذا يخاف الفقير والبائس؟
وهكذا نكون أمام حدث من الصراع بين الشرّ والخير، بين القوّة والضعف، بين الذين يضعون ثقتهم في الله والذين يستندون إلى قوّتهم البشريّة وجبروتهم.


2- وليمة الله من أجل الشعوب (25: 6- 8)
مع آ 6، تبدأ صورة جديدة جدًا، صورة وليمة الله، على ما اعتاد الملوك الكبار أن يفعلوا ليجعلوا الناس راضين فرحين.
يتحدّث النبيّ عن هذا الجبل الذي هو جبل أورشليم. الذي إليه تأتي جميع الشعوب، إلى أي عرق أو لون انتمت، الذي هو جبل الربّ بعد أن اختاره الله لسكناه. ونحن نقرأ في أش 2: 2-3: "يكون في الأيام الآتيّة أن جبل بيت الربّ يثبت في رأس الجبال ويرتفع فوق التّلال. إليه تتوافد جميع الأمم ويسير شعوب كثيرون. يقولون: "لنصعد إلى جبل الربّ، إلى بيت إله يعقوب، فيعلّمنا أن نسلك طرقه". فمن صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب".
ويرتبط بالجبل الشعوب الكثيرون، لا الشعب الواحد الذي حسبَ نفسه قد تسلّم وحده بركات الله. فمنذ إبراهيم نعرف مواعيد الله: "بك تتبارك جميع الشعوب". أترى الله يقيم مأدبة محصورة في قلّة قليلة؟ ففي الإنجيل سيدعو جميع الموجودين في الشوارع، من أشرار وصالحين، بحيث تمتلئ قاعة العرس (مت 22: 10). ويُورد لو 14: 21 أمر الملك لخادمه: "أخرج مسرعًا إلى شوارع المدينة وأزقّتها، وأدخل الفقراء والمشوّهين والعرج والعميان إلى هنا". ولكن بقيت مقاعد فارغة، فقال السيّد أيضًا إلى خادمه: "أخرج إلى الطّرقات والدّروب وألزم الناس بالدخول حتى يمتلئ بيتي" (آ 22-23).
ذاك هو الوضع في أشعيا. فالوليمة وليمة عيد. وليمة الفرح. والطعام أغنى ما يكون. هو طعام الإله: اللّحوم المسمّنة مع الشّحم الذي يقدّم لله في الذبيحة. والخمر المعتقة التي وُضعت طويلاً قبل أن تصفّى. أجل، هكذا يستقبل الله جميع الشعوب ولا ينسى شعبًا واحدًا على ما يقول مز 87: هناك مصر وبابل الدولتان القوّيتان اللتان سيطرتا على سياسة الشّرق الأوسط القديم. وشعب فلسطية مع أنهم لم يكونوا مختونين. وأهل صور الوثنية، التي حملت مع صيدا عبادة البعل إلى إسرائيل. وهناك حتى شعوب كوش، شعوب افريقيا العبيد. كلّهم يدوَّنون في سجلات الله. قد يكونون وُلدوا في هذا البلد أو ذاك. فهذا ليس بمهمّ. المهّم هو أن سجلاّتهم الحقيقية في أورشليم. تقول المدينة: جميعهم وُلدوا هنا. وأورشليم ينبوع بركاتهم.
وما نفع وليمة يغمرها الحزن، يسيطر عليها الدموع والموت؟ فالحرب قد مرّت من هنا وتركت نتائجها المريعة على ما قيل في إرميا: "راحيل تبكي بنيها ولا تريد أن تتعزّى لأنهم لم يعودوا في الوجود". ولكن من يستطيع أن يوقف الحرب والموت والدّموع والحزن؟ الله وحده. لهذا يقول النبيّ: "يزيل الرب في هذا الجبل غيوم الحزن التي تخيّم على جميع الشعوب" (آ 7). حرفيًا الغطاء الذي يغطّي، والنسيج المنسوج. هكذا تغطّي المرأة وجهها عند الموت، أو أمام العار والخزي، وتبكي بكاء الصمت. ولكن كل هذا سوف يزول.
ويتابع النصّ "ويبدّد السيّد الرب الموت إلى الأبد، ويمسح الدّموع من جميع الوجوه، وينزع عار شعبه عن كل الأرض" (آ 8). أجل، كل هذا يزول بسرعة، كما يقول أشعيا فيردّد صداه سفر الرؤيا فيقول: "لن يجوعوا ولن يعطشوا، ولن تضرّ بهم الشّمس وأي حر". لماذا؟ "لأن الحمل الذي في وسط العرش يرعاهم ويهديهم إلى ينابيع مياه الحياة، والله يمسح كل دمعة من عيونهم". كل هذا تحقّق في شخص الحمل، يسوع المسيح. إنّ الله قد تجسّد منذ ألفي سنة فجاء يحمل السّلام إلى الأرض، والرجاء إلى البشر الذين يعيشون في رضى الله.

3- نشيد الفرح (25: 9-12)
من الذي يُجري هذه المعجزة العظيمة التي تعمّ الكون كله؟ يدُ الرب وقدرته. لهذا يعود المؤمن إلى النشيد، فيصبح نشيده جزءًا من الاحتفال حول عرش الله. وهذا النشيد يدور أيضًا حول خلاص الأمم، مع أمّة تظلّ خارج هذا الخلاص هي أمّة موآب. لماذا هذا الاستثناء؟ أترى لا يستطيع الكاتب الملهم أن يخرج من الإطار الضيّق الذي يعيش فيه؟ ألا يستطيع أن ينسى عداوة أورشليم لموآب؟ قد يكون ذلك، ولكن المعنى هو غير ذلك. فالله يريد خلاص جميع شعوب الأرض. غير أن هذا لا يعني أن الجميع سيتجاوبون مع هذا النّداء. فالذين يرفضون، ينتظرهم قضاء عادل ودينونة قاسية. فحبّ الله لا حدود له، ولا يمكن أن يكون أحد خارج حبّه. وإن هو فعل، تألّم الربّ في قلبه من قرار سلبيّ يتّخذه شعب من الشعوب كما فعل موآب.
نحن في هذه القطعة من نشيد الشكر (آ 9-12) أمام ثلاث وحدات صغيرة جُعلت هنا في امتداد صورة العيد على جبل صهيون، والوليمة التي تُقام للشعوب فيأكلون ويتّحدون مع الربّ كما في ذبيحة السلامة، ويتّحدون بعضهم مع بعض تحت نظر الله الذي يريد البشريّة كلها لغة واحدة ولسانًا واحدًا. أي يريد بشريّة يتفاهم أفرادها فيما بينهم بحيث لا يكون قريب وبعيد بل يكونون كلهم من أهل البيت.
أما الوحدة الأولى (آ 9-10) فهي نشيد قصير يُنشَد في اسرائيل احتفالاً بخلاص حمله الله إليهم. هذا في خطوة أولى. وفي خطوة ثانية، يُنشَد في الكون كله: "هذا إلهنا الذي انتظرناه وهو يخلّصنا. هذا هو الربّ الذي انتظرناه. فلنبتهج ونفرح بخلاصه. يد الربّ تستقرّ على هذا الجبل". قدرته تكون حاضرة وهي تفعل. والخلاص الذي تمّ في الماضي من أجل شعب من الشعوب يتمّ اليوم من أجل الشعوب والأمم.
والوحدة الثانية (آ 10ب- 11) أضافها الكاتب الذي شعر أن موآب سوف تُستَبعد من الوليمة الأخيرة لأنها لم تشارك في النصر النهائيّ. ويكون لها بدل هذا، العار والمصير السيّئ الذي لن تستطيع الإفلات منه. وُجد شعور مُعاد في يهوذا تجاه موآب بعد المنفى إلى بابل سنة 587، نقرأ عنه في أش 16: 6-14 (سمعنا بتكبّر موآب الشديد وتجبّرها وكبريائها). ولكن الكاتب عمّم هذا الشعور فوجّهه نحو الأمم المتكبّرة. فإذا أرادت موآب، وسائر الأمم، أن تكون بين الذين ينعمون بالخلاص ويشاركون في العيد الذي يعدّه الربّ، فليس عليها إلاّ التواضع والانحناء أمام يد الله القديرة.
والوحدة الثالثة (آ 12) تتحدّث عن دمار حصون موآب ووسائل الحرب عندها. فلا حرب بعد اليوم بين أمّة وأمّة. لا حاجة إلى السلاح. فنعال العدوّ في المعركة، والثياب الملطّخة بالدماء، قد صارت مأكلاً للنار (أش 9: 4). لا حاجة إلى حرب ترفع فيها الأمّة يدها على الأمّة المجاورة. ولا يتعلّمون الحرب من بعد، بل هم يحوّلون كل سيف يُستعمل للقتل، إلى سكّة تفلح الأرض فتجنّب البشر الموت جوعًا، ويحوّلون الرماح إلى مناجل للحصاد (اش 2: 4).

خاتمة
ذاك هو العيد الذي يحتفل به ربّ الأكوان، ويريد للبشريّة جميعًا أن تعيّد معه بنشيد الفرح والشكر. تلك هي الوليمة التي يهيّئها الله لكل الشعوب، وكم يتمنّى أن يشاركوا فيها جميعًا. إلاّ أن هناك من يرفض ويختلق الأعذار. فهو يبقى خارجًا. إن دينونة الله ستكون رهيبة، لأن الله لا يُستهزأ به. قدّم حبّه للأمم، وهو ينتظر من هذه الأمم أن تبادله الحبّ فتحترم المواثيق فيما بينها. دعا الشعوب في طواف إلى الجبل المقدّس حيث يستقبلهم في بيته الذي صار بيتهم. فمن رفض المسيرة سقط وداسته الأقدام كما تدوس الزبل. فلا بدّ من الخيار في هذه المسيرة، التي بدأت منذ بداية العالم، وامتدّت في حياة الشعوب القديمة، ووجدت ذورتها في شخص يسوع. هي تعرف مصيرها، بل هي تقرّر هذا المصير. فتكون مثل أورشليم التي تستقبل الربّ بتواضع. أو لا سمح الله، تتشامخ في كبريائها ومكايد يديها فتصير مثل موآب.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM