الفصل الثالث والعشرون :شخصية اشعيا

 

الفصل الثالث والعشرون

شخصية اشعيا

حين نقرأ سفرًا من أسفار الأنبياء لا نجد الشيء الكثير عن صاحبه. وسفر أشعيا لا يشذّ كثيرًا عن هذه القاعدة. فالمهمّ هو كلمة الله التي تصل إلى الناس. أما حامل كلمة الله فهو إناء من خزف. وهكذا تظهر قوّة الله.

1- أرستقراطي هو ورجل فكر عميق
ما يلفت انتباهنا عند أشعيا بن آموص هو هذا التحفّظ وهذه الرصانة. أشعيا شخص أرستقراطي ورجل فكر عميق. هو لاهوتي وأعظم شاهد على تيّار فكري يشدّد على حضور الله القدّوس وسط شعبه.
هو أرستقراطي، وعلاقته مع البلاط الملكي معروفة، وكذلك مع الموظّفين الكبار. إنه لا يتورّع أن يوجّه كلامه القاسي إلى أحد "مدراء" الدولة: "نَحَتَّ لكَ قبرًا لأنك ستُدفن هنا، يا عار بيت سيّدك. سأطردك من منصبك، وعن مقامك تُخلع" (22: 16-19). وهو يوجّه كلامه أيضًا إلى الملك، وهذا ما لم يقدر عليه عاموس ولا ارميا. قال له الرب: "أخرج للقاء آحاز وقل له: إن لم تؤمنوا بالله فلن تأمنوا الخطر" (7: 4-9). أشعيا قريب من الطبقة التي خرج منها، ولكنه عرف ضعفها، فتطلّع إلى جماعة المساكين وأنبأ بدخولهم في الجماعة المخلّصة.

2- مواطن أورشليمي وهو يحبّ مدينته
أشعيا مواطن أورشليمي وهو يحبّ مدينته. يحبّها كأيّ إنسان يقدر أن يتجوَّل في هذه المدينة التي تضجّ بالحياة. ويحبّها كمؤمن يعرف مخطّط الله بالنسبة إلى هذه المدينة الفريدة. أورشليم مدينة الله، وهي عاصمة تتميّز عن سائر عواصم الأرض. أورشليم مسكن لله، فلا يمكنها أن تسقط في يد العدوّ. هذا ما قاله أشعيا للملك حزقيا حين جاء سنحاريب الأشوري يضع الحصار أمام المدينة.
أشعيا ابن القرن الثامن ق.م. وابن أورشليم، عرف أوساط حكماء المملكة والمتعلّمين فيها، فما كان ذلك المزارع الريفي مثلَ عاموس الآتي من برية تقّوَع ولا كان مثل ميخا ولا ارميا. يرجع اسمه إلى "يََشَعْ" أي وسع وساعد وأعان وخلص. أشعيا يعني: الله خلَّص، وهو برنامج الأتقياء القائلين إن الله هو خلاص لشعبه وأحبّائه.


3- زواجه وأولاده رموز
كان أشعيا متزوّجًا. لم يذكر الكتابُ اسمَ امرأته، ولكنه سمّاها "النبية" (8: 3)، وقد تكون امرأة مرتبطة بالهيكل. أعطته ولدَين، على الأقل، فدعاهما بأسمين رمزيّين يُنذران بالشرّ معاصريّ النبي. إسم الأول بالعبرية "شآر يشوب" الذي يعني "بقية تعود". وفي هذا تلميحٌ إلى الحرب التي لا ينجو فيها إلاّ شعب قليل. وتعني أيضًا: "بقية تتوب" وتعود إلى الرب. إسم الثاني: "مَهَر شَلال حاشْ بازْ" أي "سلب سريع ونهب قريب". "قبل أن يعرف الصبي أن ينادي: يا أبي، ويا أمي، ستُسلَب دمشق وتُنهَب السامرة" (8: 3-4). وقال بعضُهم: قد يكون عمَّانوئيلُ (7: 3، أي الله معنا) أحدَ أولاده. ولكن هذا التفسير لا يزال في مجال الافتراض.
وقيل أن والده آموص هو شقيق الملك أمَصْيا (2 مل 14: 1-22). وهكذا يكون أشعيا من نسل مَلَكي. وقالت الأخبار اليهودية إن أشعيا مات شهيدًا على أيام الملك منسىّ. أمرَ الملكُ، فنُشِر النبي كما تُنشَر الشجرة. هذا ما يقوله كتاب "صعود أشعيا" (وهو سفر منحول)، وإلى هذا الواقع تشير الرسالة إلى العبرانيين (11: 37): "بعضهم نُشِروا وبعضهم قُتلوا بالسيف".

4- في أي محيط نبتت دعوة أشعيا
في أي محيط روحي نبتت دعوة أشعيا؟ هو محيط الحكماء والمتعلّمين الذي عرف أشعيا عاداته وادعاءاته. ولكن هذا المعلّم عرف أن شفتيه نجستان وأنه حُكِم عليه أن يصمت بعض الوقت (أش 6: 5). واكتشف أن عمله الذي هو حجّته وفخره لا يفيده شيئًا. اكتشف أن هناك حكمة أخرى هي حكمة يهوه (أو الرب الذي هو) التي ستُلهم تعليمه وسلوكه كما ستُلهم العاملين في شؤون المملكة.
كان أشعيا معلّمًا، وكان له تلاميذ. قال، وكانت تلك المرّة الوحيدة التي فيها يعبّر عمّا يجيش في قلبه: "أَقفلُ على شهادتي، أُخْتُم، أُخْتُم تعاليمي واجْعَلْها في قلب تلاميذي" (8: 16). وأمام تلاميذه، سيكتب أشعيا على اللوح ويدوّن الوثيقة ليشهدوا عليها دائمًا (30: 8).

5- أشعيا أمام مصير شعبه
تدخّل أشعيا في حقبة مبلبلة من تاريخ شعب الله، حقبة شهدت ما سُمّي بالحرب الآرامية (دمشق) الافرائيمية (السامرة) التي جعلت الخصومة بين مملكة يهوذا (عاصمتها أورشليم)، ومملكة اسرائيل (عاصمتها السامرة)، ودَمّرت المملكة الآرامية في دمشق (734-733)، وأسقطت السامرة، وأنهت مملكة اسرائيل في الشمال (722-721)، وحملت الجيوشَ الأشورية حتى أبواب أورشليم (701 ق.م.). بدأ أشعيا رسالته في أيام عزيّا ملك يهوذا، وأنهاها في أيام حزقيا (716-687)، أي في نهاية القرن الثامن. وهكذا يكون نشاطه امتدّ نحو أربعين سنة.
تابع رسالتَه في أيام الملك يوتام (740-735)، خلف عزيّا، فواجه وضعًا شبيهًا بوضع مملكة اسرائيل في أيام يربعام الثاني: بحبوحة ورفاهية من جهة، وظلم اجتماعي لا يُطاق من جهة ثانية. حينئذ تتبّع أشعيا خطى عاموس النبي في مجال العدالة الاجتماعية. "ويل للأمّة الخاطئة، للشعب المثقل بالآلام... أزيلوا شرّ أعمالكم وكفّوا عن الاساءة. تعلّموا الاحسان واهتمّوا بحقوق الناس. حرّروا المظـلوم من يد الظالم، أنصفوا اليتيم، حاموا عن الأرملة " (أش 1: 4، 16-17). ويثور أشعيا على العبادة الكاذبة (1: 10-17)، ويغضب على نساء العاصمة اللواتي يعشن بالبزخ والترف (3: 16-24).

6- ان لم تؤمنوا فلن تأمنوا
وتنبأ أشعيا في أيام الملك آحاز (735-716) الذي واجه تحالفًا سياسيًا ضدّ تغلت فلاسر ملك الآشوريين. تدخّل أشعيا على المستوى السياسي، وأفهم الملك أهمية الطاعة للرب. ولكن حاشية الملك لم تقبل بمواقف أشعيا. هل يخضع آحاز لضغط جيرانه؟ هل يرمي بنفسه في حضن الملك الآشوري؟ لا هذا الموقف ولا ذاك، يقول أشعيا، بل المقاومة والثبات والاتكال على مواعيد الله لداود وأورشليم. "لا تخف! آمن فقط، فالله معنا، وهو عمَّانوئيل" (7: 1-9).
وتدخّل أشعيا في السياسة، حين أراد حزقيا الملك أن يدخل في حلف تترأسه مدينة أشدود التي على البحر. أُخذت وسُبي أهلُها، وكاد مصيرُ أورشليم يكون كمصيرُ أشدود (2 ملو 18: 1-8). أما نصيب أرض يهوذا فكان الخراب والدمار. وأجبر حزقيا على دفع جزية باهظة. هنا يُعلن أشعيا إيمانه بالرب: فمملكة آشور هي أداة جديدة في يد الله، ولا يرضى الرب أن ينسب الملك الآشوري إلى نفسه النجاح الذي أحرزه: "قال الرب: ويل لآشور، قضيب غضبي. فهي تمسك العصا التي تدلّ على غيظي. أرسلتُها على أمّة كافرة. وأمّرتُها أن تهاجم شعبًا حلّ عليه غضبي، أن تسلبه وتنهبه وتدوس كالوحل في الشوارع. ولكن لم يكن هذا فكرَ آشور" (10: 5-7).

7- الشعب السائر في الظلمة أبصر نورًا
في إطار هذا الوضع السياسي، أطلق النبي أشعيا نداءاته. تحدّث عن الله القدّوس الذي يبدو أمامه الانسان ضعيفًا وخاطئًا، ومع ذلك فهو يتكّبر. ودعا النبيّ الشعبَ إلى الايمان، أما الشعب فقسّى قلبه: سمعوا ولم يفهموا، نظروا ولم يعرفوا. كانت آذانهم مثقلة وعيونهم مغمضة، فما أبصروا بعيونهم، ولا سمعوا بآذانهم، ولا فهموا بقلوبهم، ولا رجعوا إلى ربّهم (رج أش 6: 9-10).
رغم كل هذا، يبقى الرب اله الخلاص. إنه الاله الأمين لالتزاماته، ولو ظلّ الشعب في تمرّده. ولهذا يتطلّع أشعيا إلى مستقبل السلالة الداودية، ويقول أقوالاً تبعث على الرجاء وتجعل الشعب ينتظر ملكًا بارًا وأمينًا يحقّق مشروع الله.
واذ حلّ الليل على مملكة الشمال التي ضمّتها آشور، تنبًا النبي بولادة ملك من نسل داود وأنشد:
"الشعب السائر في الظلمة (ظلمة الحرب والمنفى والتشريد والموت) أبصر نورًا عظيمًا (نور النصر والسلام). العائشون في بلاد الظلمات أشرق عليهم نور (الرب). يا رب، أنت أعدت الفرح إلى شعبك وأبهجته. هم يبتهجون بحضورك كابتهاج الحصّادين بحصادهم، ويهتفون هتاف الفرح كالعائدين وهم يحملون الغنائم" (أش 9: 1-2).
الرب وعد وهو يفي. ولكن هذا يفترض في قلب أشعيا وفي قلوبنا إيمانًا ثابتًا وواثقًا. قال أشعيا: ان لم تُؤمنوا لن تأمَنوا (الخطر)، وقال الرب: لو كان فيكم ذرّة من الإيمان وقلتم لهذا الجبل: انتقل واسقط في البحر، يكون لكم ما تطلبون.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM