الفصل الحادي والعشرون الأعمال الرمزيّة لدى الأنبياء

الفصل الحادي والعشرون

الأعمال الرمزيّة
لدى الأنبياء

روى لنا حزقيال أمر الرب له: "هيِّئ لك بقجة الذاهب إلى السبي، واذهب نهارًا من موضعك إلى موضع آخر قدّام عيونهم، لعلّهم يفهمون... أثقب الحائط قدّام عيونهم، واخرج في العتمة وغطِّ وجهك لئلا ترى الأرض" (12: 1-6).
هذا ما يسمّى عملاً رمزيًا. بمعنى أن النبي لا يتكلَّم فقط بفمه، بل يحرّك يده أو جسمه. وهكذا يلفت النظر كما يلفت السمع. هكذا يؤثّر على الآخرين فيجعلهم في وضع لا يستطيعون بعده أن يتهرّبوا من نداء الرب دون أن يحكموا على نفوسهم.

1- بعض الأمثلة
ذكرنا مثلاً دلّ فيه حزقيال على الشعب الذي ذهب إلى السبي بفقر مدقع. ترك كل شيء، ولم يحمل الا بقجة صغيرة فيها بعض الامتعة. وهناك أمثال أخرى عديدة. أراد النبيّ أحيّا الشليوني أن يدلّ على انقسام مملكة داود وسليمان إلى قسمين، فأخذ رداءه وقسمه اثنتي عشرة قطعة. أعطى عشر قطع ليربعام فدّل بذلك على أن مملكة الشمال ستضمّ عشر قبائل من أصل اثنتي عشرة قبيلة، فلا يبقي لداود الا قبيلتان (1 مل 11: 29-39).
وإليك مثلاً آخر: أراد صدقيا بن كنعنة أن يدلّ الملك أخاب أنه سيحتلّ راموت جلعاد. فصنع لنفسه قرون حديد وقال: بهذه القرون تنطح الاراميّين (1 مل 22: 10-12).
وإذا انتقلنا إلى العهد الجديد نرى يسوع يلعن التينة فتيبس لساعتها. أراد يسوع أن يفهم شعبه أنه رغم المحاولات العديدة لم يحمل ثمرًا، فصوّره في هذه التينة التي آخرتها اليباس والموت. وهكذا سيزول الشعب، لانه لم يحمل ثمرًا يليق بالتوبة (مر 11: 22-14). وأعطى يسوع العبرة مشدّدًا على الايمان الذي ينقل الجبال.

2- مبدأ الاعمال الرمزيّة
النبيّ هو أولاً رجل الكلمة. هو من يرى الامور بعين الله. هو من يسمع كلمة الله في أعماقه، ويحاول أن يوصلها إلى شعبه. وهو يقرأ إرادة الله من خلال أمور قد تبدو لنا تافهة، ولكنّه يحمّلها معنى لا يمكننا أن نستشفّه بعيوننا الدنيويّة.
لا بدّ من نظرة الإيمان. رأى ارميا شجرة لوز تُزهر، فاعتبر أن الرب حاضر ساهر. ورأى "قدرًا" تغلي، فشاهد الشرّ الذي يأتي من الشمال، من بلاد الرافدين، على منطقة سورية وفلسطين ولبنان (إر 1: 11-14).
غير أن الكلمة التي يتلفّظ بها النبي لا تعبّر عن نفسها بالالفاظ والحروف فقط، بل تتّخذ شكل عمل من الاعمال. نستطيع أن نتحدّث كما في لغة المسرح عن الايماء. يقوم "الممثّل" بحركات تعبّر عن فكره. هذا ما فعله أشعيا حين سار في شوارع أورشليم حافيًا عريان، فدلّ على نتيجة الحرب على الشعب بعد مرور الاشوريّين (اش 10: 1-6).
وعندما تجتمع الكلمة إلى الحركة، نفهم أن النّبي ليس نبيًا بلسانه وحسب، بل هو نبيّ بكل شخصه. كما نفهم أن نشاطه يتوجّه إلى الجميع، لا إلى فئة معيّنة، ولا ينحصر ببعض الاشخاص. وهذه الحركة يجب أن يراها الجميع، أو أقلّه أولئك الذين تتوجّه إليهم. حمل حزقيال بقجته، فرآه الجميع ذاهبًا إلى السبي والمنفى. أو: أخذ قرميدة ورسم عليها مدينة وبنى متراسًا وبرجًا. هذا يكون علامة لبني اسرائيل (حز 4: 1-4). أو هو حلق شعر رأسه ولحيته وأحرق ثلثه بالنار، وقطع الثلث الثاني بالسيف، وصرّ الثالث في ثوبه. تلك تكون حالة بني إسرائيل حين تؤخذ أورشليم (5: 1 ي). بهذه الطريقة يؤثر النبيّ على أفراد الشعب ويدعوهم إلى التوبة والعودة إلى الله.

3- بنية الأعمال الرمزية
ان العمل الرمزي يتضمّن عادة ثلاثة عناصر: أمر يعطيه الله للنبي لكي ينفّذه. خبر العمل الذي يقوم به النبي. كلمة تعطي مدلول العمل. ونأخذ مثلاً زواج هوشع النبي من جومر (هو 1: 2-9؛ 3: 1-5). العنصر الأول: قال الرب لهوشع: خذ لك امرأة زنى. العنصر الثاني: ذهب هوشع وأخذ جومر. المدلول: إن أهل الأرض يزنون، أي يخونون الرب ولا يحفظون وصاياه. إذا عدنا إلى بقجة حزقيال نقرأ العنصر الأول: هيّئ لك بقجة. الثاني: فعلت كما أمرني الرب (12: 7). الثالث: إذا سألك الشعب ماذا تصنع، فقل لهم. وإليك مثلاً آخر من حزقيال ساعة ماتت زوجته (24: 15-24). يا ابن البشر، لا تندب ولا تبك ولا تذرف دمعة. فعلتُ كما أمرني الرب. وسأل الشعب عن معنى ما فعله النبي، فقال: سأدنّس هيكلي ولا يحقّ لكم أن تبكوا.
قد يكون في العمل الرمزي عنصران فقط: الأمر الذي يجب أن ينفّذه النبي، والكلمة التي تفسّر هذا العمل (أش 8: 1-4 واسم ابنه؛ حز 4: 1ي والنبوءة بحصار أورشليم؛ ار 16: 1ي). وقد نجد العنصرين الثاني والثالث أي تنفيذ أمر الله ومدلول العمل الذي قام به النبي (1 مل 11: 29-30 وأحيّا الشليوني؛ 22: 11؛ ار 28: 10-11 والنير الذي على رقبة النبي كعلامة العبودية). أما نصّ اش 10: 1-6 الذي ذكرناه، فلا يقدّم لنا إلاّ مدلول العمل: "كما مشى عبدي حافيًا، كذلك يسوق ملك أشور سبايا مصر...".

4- العمل الرمزي والعمل السحري
نودّ أن نقول أولاً إن السحر بعيد كل البعد عن العمل النبويّ. في السحر نحاول أن نفرض إرادتنا على الآلهة. أما في العمل النبوي، فالإنسان خاضع لله، خاضع لإرادته. ولهذا فالأعمال السحرية لا تنظر إلى المستقبل "كالعرّاف" الذي يحاول أن يعرف ما سوف يحدث، بل تنظر إلى الواقع لترى فيه إرادة الله.
وهنا نجد بشكل خاص ثلاثة اختلافات بين العمل الرمزي والعمل السحري. الأول: إن النبي واع أنه يقوم بعمله جوابًا على أمر وصل إليه من قبل الله. فالمبادرة تأتي دومًا من الله، لا من الانسان مهما عظم فهمه وقوي جسمه. أما الساحر فيعمل بإرادته الخاصة. الاختلاف الثاني: في العمل النبوي نجد دائمًا كلمة تفسّر هذا العمل. فالمعنى ليس بواضح، وعلى النبيّ أن يدل السامعين و"الناظرين" إلى معنى ما يقوم به من عمل. أما في السحر، فليس من شرح ولا تفسير.
والاختلاف الثالث: هدفُ العمل السحري هو التصرّف بالآلهة وكأنها أشياء في يد الانسان الذي يُخضع الاله لمشيئته وذلك بفضل تقنيّة سريّة. أما العمل النبوي، فالانسان يَخضع لله الذي يفعل ما يشاء وساعة يشاء. لهذا يتحلّى النبيّ بالايمان رغم الظواهر التي تكذِّب نظر الانسان العادي. أجل، النبي متأكّد أن الله يفعل، لا اكرامًا لشخص من الاشخاص، بل اكرامًا لاسمه ومن أجل مجده.
العمل الرمزي هو جزء من التعليم الذي يقدّمه النبي، وهو يرافق الكلمة أو ترافقه الكلمة التي تؤكّد أن ما يقوله النبي سوف يتمّ. حين يعلن النبيّ كلامًا، فهو يكفل أنه سيتحقّق. بما أن الله هو في أصل هذه الكلمة، فهي ستتمّ لا محالة على ما نقرأ في حز 37: 14: "أنا الرب تكلمت وأنا سأفعل". تلك هي قدرة الله الخلاّقة منذ البداية حتى اليوم. تلك هي قدرته التي فعلت حين خلقت الكون بكلمة واحدة. وهي ستفعل على مستوى الخلاص من أجل شعبه وجميع مؤمنيه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM