الفصل العشرون كان أيوب على حقّ ...

الفصل العشرون
كان أيوب على حقّ

... هذا ما قاله الرب في خاتمة سفر أيوب. قال لاليفاز التيماني: "اضطرم غضبي عليك وعلى كلام صاحبيك لأنكم لم تتكلّموا عليّ بحسب الحق كعبدي أيوب" (42: 7). فهدفُ كتاب سفر أيوب هو: كيف نتكلّم عن الله في ساعة الألم؟ اعتبر الشيطان أن أيوب سيجدّف على الله في وجهه (1: 11). ولكن الله ربح الرهان. قال في البداية: "هل لاحظتَ عبدي أيوب؟ لا مثيل له على الأرض" (1: 8). وسيقول في النهاية إن كلام أيوب كان بحسب الحق، لم يكن فيه أي ضلال. فالكلام والسكوت يميّزان سفر أيوب ويجعلانه في التيّار الحكميّ مع أسفار الجامعة، والأمثال ويشوع بن سيراخ. وإذا أردنا أن نتعرّف إلى هذا السفر، نتوقّف عند أنماط اللغة الدينية فيه. هناك لغة الإيمان الشعبي، واللغة اللاهوتية، واللغة النبوية، واللغة الروحية التي تجعل أيوب وجهًا لوجه أمام الله.

1- لغة الإيمان الشعبي: أيوب وامرأته (1: 13-22؛ 2: 7-10)
قبل الربُّ أن يراهن مع الشيطان، فصار أيوب فقيرًا وعليه أن يمرّ في المحنة. أعلن أيوب: "عريانًا خرجتُ من بطن أمي وعريانًا أعود إليه (الأرض تمثّل جوف الأم). الرب أعطى والرب أخذ. فليكن اسم الرب مباركًا" (1: 21). تجاوز أيوب المحنة. هو لم يلعن. ولكنه بارك الرب. وبعد محاولة الشيطان الثانية بواسطة المرض، قالت له امرأته: "لماذا تتمسّك بكمالك؟ جدّف على الله ومُت". (2: 9). هل يستعمل أيوب كلام اللعنة؟ كلا. بل أجاب امرأته: "تتكلّمين كجاهلة! إذا كنا نقبل الخير كأنه عطية من الله، فكيف لا نقبل الشر أيضًا" (2: 10)!
وانتصر أيوب مرتين، فردّد أمثلة تقوية ما زال الناس يردّدونها في أيامنا. هل اخترع هذه الأمثلة؟ الأمر لا يهمّ. فما يهمّ هو أننا أمام لغة الإيمان الشعبي. فأمام الألم والأمراض والحروب والموت، موقف الناس هو هو. بعضهم يرفض الله لأنه يسمح بحصول مثل هذه الكوارث. وامرأة أيوب هي من هذه الفئة. وبعضهم يقبلون هذا الاله في إيمان أعمى يعبّرون عنه بكلمات كتلك التي تلفّظ بها أيوب. قد تنبع هذه اللغة من إيمان عميق وهي تُشبع حياة الإنسان أو أقلّه جزءًا من حياته. وقد اكتفى أيوب بهذا الايمان ليقبل الفقر والمرض.

2- اللغة اللاهوتية: أيوب وأصدقاؤه الثلاثة (2: 11-31: 40)
ويصل أصدقاء ثلاثة: أليفاز، بلدد، صوفر. عرفوا بشقاء أيوب، فجاؤوا يرثون له ويعزّونه (2: 11). وحين وصلوا صمتوا. وظلّوا كذلك جالسين على الأرض معه سبعة أيام وسبع ليال. "لم يكلّمه أحد بكلمة، لأنهم رأوا أن كآبته كانت شديدة جدًا" (2: 13). كان صمتهم كلمة تعزية. فاللسان يصمت أمام الألم، لأن ليس له ما يقوله. فالانسان المتألّم يحتاج إلى الصمت أكثر منه إلى الكلام.
ورأى أيوب أن ألمه يمتدّ، فتحرّكت الأسئلة: "لماذا" (3: 11، 12، 20، 23)؟ وألقى خطبة طويلة (3: 3-26) حدّث فيها نفسه. هو لم يوجّهها إلى الله ولا إلى أحد أصدقائه. فمن أراد أن يسمع فليسمع! أخيرًا فتح أيوب فمه، ولعن يومًا وُلد فيه (3: 1). لم يربح الشيطان الرهان. وأيوب لم يلعن الله. لقد صار ذلك المؤمنَ الذي يتساءل، الذي يحاول أن يفهم. انتقل من لغة الايمان الشعبي إلى اللغة اللاهوتية. فاللاهوت هو الإيمان الذي يحاول أن يفهم.
ظنّ أصدقاء أيوب أنه يدعوهم إلى الجواب، فقدّموا تفسيرهم وأجوبتهم. توجّهوا إلى أيوب بلغة المخاطب: "إن ألقينا اليك كلمة، هل تتحمّلها" (4: 2)؟ هم يفكرون أنهم يقدرون أن يعطوا أجوبة لتساؤلات أيوب. أما ينبوع معرفتهم فالوحي الالهي: "وصلت إليّ في السرّ كلمة" (4: 12). والتقليد: "سل الجيل السابق"، تقليد الحكماء (15: 18). والاختبار والاعتبارات الشخصية. "أما رأيت" (4: 8)؟ "رأيتُ هذا" (آ 16). وهكذا أفرغوا ينابيع اللاهوت وأعلنوا عقيدة المجازاة: للبار حقّ في السعادة، وللشرير الشقاء (4: 7-8). والعقيدة لا تُناقش. "إنها الحقيقة" (5: 27). وبعد أن عرضوا تعليمهم، طبّقوه على وضع أيوب الحاضر.
أما أيوب، فظلّ يكلّم نفسه دون أن يكلّم مخاطبيه، وظلّ يطرح أسئلته (مثل 6: 2- 13). ثم بدأ الحوار مع أصحابه. جعل نفسه على مستواهم، مستوى العقل والتفاسير: "أنا أيضًا لي عقل مثلكم ولا أقصّر عنكم في شيء" (12: 3). "كل هذا رأيته بعيني، سمعته بأذني وفهمته. وما تعلمونه فأنا أيضًا أعلمه" (13: 1- 2). ولكن استنتاجاته اللاهوتية تختلف عن استنتاجاتهم. هو ينطلق من وضعه الملموس ويقابله بالعقيدة. إنه يظن أنه بار في الظاهر وفي الخفاء. أي في الواقع، إنه بار. "لا أعطيكم الحق إلى أن تفيض روحي. لا اُقلع عن كمالي. أتمسّك ببريّ فلا أرخيه. لا أخجل من ضميري في أيامي" (27: 5-6). وهو يعرف عقيدة المجازاة، شأنه شأن أصحابه (16: 2). فهل هناك من صراع بين الظاهر والخفي في الله الفاعل؟ لقد بدا الله جائرًا في نظر أيوب. ولقد قال لهم بلسانه: "أنا بار والله رفض حقّي، لقد بدا ديّاني قاسيًا عليّ" (34: 5- 6).
انطلق الأصدقاء من المبدأ فلم يعرفوا أن يقدّموا لأيوب الكلمة الصحيحة في آلامه. هل سمعوه حقًا (21: 2- 3)؟ ولهذا رفض أيوب أجوبتهم "وأمثولاتهم المدروسة" (13: 12) واتّهمهم بأنهم خيّبوا أمله (6: 14- 15).
اللغة اللاهوتية! عقّدت الأمور ولم تحلّها. ليست هي اللغة الدينيّة التي توافق ساعة الألم. عندما يتألم الإنسان فهو لا يتكلّم كرجل معافى. قال أصدقاء أيوب: "كنت تعطي الأمثولة للآخرين وتشدّد الأيدي المسترخية. كانت أقوالك تُنهض العاثرين وتثبّت الركب التي تلوي. والآن جاء دورُك. نزلت بك البلوى، ففقدتَ صبرك" (4: 3- 5). وجاء جواب أيوب محكمًا. هل كانوا يتكلّمون أفضل منه لو كانوا مكانه؟ "أنا أيضًا أعرف أن أتكلّم مثلكم لو كنت مكانكم" (16: 4).
وترك أيوب اللغة اللاهوتيّة، وعاد يكلّم نفسه، وموضوع حديثه الله: "كان الله يجالسني. كان القدير معي" (29: 2- 4). وقد توجّه بكلامه إلى الله: "أنا أصرخ إليك وأنتَ لا تجيب" (30: 2). لو أجاب الله إلى صلاته! ولكن الله ظلّ صامتًا. استعمل أيوب لغة الإيمان الشعبي، لغة الشك، اللغة اللاهوتية، لغة الصلاة، فلم يبق له حيلة. "قلت كلمتي الأخيرة، فليجاوبني القدير" (31: 35). يريد أيوب أن يسمع الآن لغة الله. هو لا يطلبها مباشرة من الله. كل ما يطلب أن يسمع لغة الله. ولهذا توقّف عن الكلام، فقال النص: "نهاية كلمات أيوب" (31: 40).

3- اللغة النبوية: اليهو وأيوب (ف 32- 37)
وتوقّف الرجال الثلاثة عن مكالمة أيوب. فجاء غيرهم، وهو يظنّ أنه يحمل كلمة الله. "هكذا قال الرب". تمنّى أيوب أن يسمع كلمة الله، كلمة نبوية، فقدّمها له أليهو. وجّه كلامه إلى أيوب بطريقة شخصية. الألم في نظره هو لغة إلهية. "الله يتكلّم بطريقة ثم بأخرى ولا ننتبه" (33: 14). الألم هو أمثولة (33: 19؛ 36: 10). وبدا أليهو متفائلاً مثل الأنبياء الذين يحافظون على ثقتهم بالله عندما يبدو كل شيء أسود. فان ظن أيوب أنه قريب من الموت (32: 20 ي)، فهو سينجو ويخرج معافى، بل يعود إليه شبابه (33: 25). فمن سمع لغة الألم اغتنى. فعلى الإنسان الذي يتألم أن ينسى نفسه ليفكّر بشيء آخر، ليفكّر بالآخر. ترك الكاتب اللغة اللاهوتية ولغة الصلاة والتوسل والتشكي، وبدأ صلاة السجود والعبادة.

4- اللغة الروحية: يهوه وأيوب (38: 1- 42: 6)
موقف أيوب موقف تأمّل، وهو مستعدّ الآن لأن يسمع اللغة الإلهية، لا عبر وسيط نبوي، بل مباشرة في قلبه. كان أليهو قد دعا أيوب لأن يخرج من ذاته ومن مشكلته ويرى ما هو أكبر. فتحقّق أيوب كم هو صغير وأن الأشياء اتّخذت بُعدها الحقيقي. وتلاحقت أسئلة الله. لم يعط الله أيوبَ جوابًا. تكلّم عن مواضيع كثيرة، ولكنه لم يتكلم عن مشكلة أيوب. دعاه إلى أن ينسى ذاته، أن يتأمل، أن يتعجّب، أن يندهش. حينئذ شاهد أيوب من جديد العظمة والجمال والحكمة والبهاء. لقد وصلنا إلى لغة التأمل، لغة الروح. فحلّ الصمت محلّ الكلام. بل حلّت الرؤيا محلّ الكلام والسماع: "كنت قد سمعتك سمع الأذن، أما الآن فعيني رأتك" (42: 5). وانتهى الخبر.
وخرج أيوب منتصرًا من المحنة الرئيسية. هو لم يلعن الله في وجهه، وخسر الشيطان الرهان. لقد وصل "البطل" إلى المحنة المجيدة: أقرّ الله أن أيوب تكلّم عنه في ألمه بطريقة صحيحة إلى الآخرين. كان أيوب على حقّ. لقد سار مسيرة طويلة. فبعد أن قبل الألم قبولاً أعمى في الإيمان، جاء الشكّ، وطُرحت التساؤلات وكانت الأجوبة النظرية. ولكنها لم تكف، فتطلّع الانسان إلى الله. سمع صوته، بل رآه. ويا له من جواب، ويا لها من رؤية. تبدّلت حياة أيوب، وقد تتبدّل حياتنا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM