الفصل الثامن عشر سفر الخروج في العهد القديم

الفصل الثامن عشر
سفر الخروج في
العهد القديم

كان لسفر الخروج تأثير كبير في عدد كبير من الأسفار البيبلية. وقد يكون الكتّاب الملهمون رجعوا إلى سفر الخروج، أو بالأحرى عادوا إلى مراجع استقى منها سفر الخروج قبل أن يُدوَّن في صيغته النهائية. هذا يعني أن المواضيع "الخروجيّة" توزّعت في حياة الشعب على مرّ عصوره، فغذّت فيه الامل بخلاص بدأ مع عبور البحر وامتدّ حتى أيام المكابيّين، بل على عتبة العهد الجديد مع سفر الحكمة.

1- أسفار الشريعة الخمسة
أول سفر أعاد قراءة سفر الخروج هو سفر التثنية الذي دُوِّن على ما يبدو في مملكة الشمال، واكتشف سنة 622، وأعيدت كتابته قبل الجلاء (587 ق.م.) وبعده. سفر التثنية هو تأمّل في أحداث سفر الخروج مع محاولة لتأوينها فتُوَجِّه حياة الشّعب خصوصًا بعد ضياع كل شيء في زمن المنفى.
هناك عبارة أولى تتردّد: "تذكر". "تذكّر الرب الذي أعطاك تلك القدرة" (تث 8: 18). "تذكّر ولا تنس كيف أسخطت الرب في البرية. ومنذ خروجكم من أرض مصر حتى جئتم هذا المكان لا تزالون تتمرّدون على الرب. وفي حوريب (أي: سيناء)، أغظتم الرب فكاد يفنيكم. وذلك حين صعدت الجبل لآخذ لوحي الحجر، لَوحَي العهد الذي قطعه الرب معكم" (تث 9: 7-9).
وهناك عبارة ثانية: "انتبه لئلا تنسى. تنسى الامور العظيمة التي رأتها عيناك" (تث 4: 9). "تنسى الرب الهك ولا تحفظ وصاياه وأحكامه ورسومه التي أنا آمرك بها اليوم" (تث 8: 11).
نحن لسنا هنا أمام عودة إلى ماض لا رجوع له، بل أمام نداء يوجّهه إلينا الاله المخلص فيدعونا إلى تجنيد كل حياتنا لكي نكون أمناء له. قال الرب: "فاذا أكلت وشبعت، وبنيت بيوتًا فخمة وسكنتها، وكثر بقرك وغنمك... فلا يطمح قلبك (فلا تتشامخ) فتنسى الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر، من دار العبودية، وسار بك في البرية الشاسعة... وفجّر لك الماء من صخرة الصّوان، وأطعمك في البرية" (تث 8: 12-16).
وإذ نتحدَّث عن سفر التثنية، لا ننسى سائر أسفار البنتاتوكس- أي الكتب الخمس الأولى في العهد القديم- وهي التي تحمل مبدئيًا وحدها كلمة توراة. فهي تجمع وجهتين أساسيّتين من أجل حياة شعب إسرائيل. من جهة، هناك خبر الأحداث الأساسية حيث يتعرّف الشّعب على الله، وعلى ما هو الله من أجل شعبه. هذه الاحداث يتذكّرها الشعب بصورة منتظمة في عيد الفصح وفي سائر الاحتفالات. ومن جهة ثانية، هناك الشرائع التي هي قواعد حياة تنظّم وجود الإنسان الذي يتكّرس بكلّيته للرب ولخدمته.
يروي سفر نحميا (8: 1-8) أن الشعب اعتاد على أن يقرأ أسفار الشريعة مع التّشديد على الفرائض والاحكام. وبعد هذه القراءة، تُتلى صلاة تروي تاريخ الشعب وتُفرد حيّزًا هامّا لسفر الخروج. مثلاً نقرأ في نح 9: 9، 21: "نظرتَ إلى مذلّة آبائنا في مصر، وسمعتَ صراخهم عند البحر الاحمر، فأظهرتَ آيات ومعجزات.. وفلقت البحر... وأرشدتهم بعمود سحاب في النهار وعمود نار في الليل...".

2- النّبي هوشع
عاش النّبي هوشع في مملكة الشمال، أي مملكة إسرائيل بعاصمتها السامرة. عاش بعد إيليا الذي قام بحجّ إلى جبل حوريب (1 مل 19) ليعود إلى منابع سفر الخروج ولا سيما اللقاء مع الله على جبل سيناء.
عاد هوشع إلى سفر الخروج أو بالاحرى إلى مواضيعه، فتحدّث عن يهوه، إله إسرائيل، الذي رافق شعبه منذ أرض مصر، وأسكنه في الخيام في البرية (12: 10). هذا الإله طلب من شعبه أن لا يعرفوا إلهًا غيره ولا مخلّصا سواه. هنا نعود إلى الوصيّة الاولى في خر 20: 1-3. ويتابع هوشع كلامه: "عرفتكم في البرية، في أرض العطش. رعيتكم فشبعتم. شبعتم فطمحت قلوبكم ونسيتموني" (13: 4-5). هنا نستعيد مواضيع قرأناها بصورة خاصة في سفر التثنية.
ويحدّث النّبي الشعبَ عن حبّ الله لهم. كان لهم كالزوج تجاه زوجته التي خانته من أيام البرية. لهذا عزم على أن يفتنها ويجيء بها إلى البرية ويخاطب قلبها (11: 1-4): "يوم كان إسرائيل فتى أحببته، ومن مصر دعوت ابني... جذبتهم اليّ بحبال الرحمة وروابط المحبة، وكنت لهم كأب يرفع طفلاً على ذراعيه ويحنو عليهم ويطعمهم" قال هوشع (12:14): "بنبيّ أصعد الرب بني إسرائيل، وبنبيّ حفظهم سالمين كالزوج تجاه زوجته التي خانته من أيام البرية". وهكذا نجد هنا إشارة إلى موسى الذي يملأ بشخصه سفر الخروج كله، والذي قاد الشعب عبر البحر الأحمر وفي البريّة. ولكن هذه القيادة لم تكن دوما بالسهلة. لهذا يقول فيهم النبي: "وجدتُ بني إسرائيل كمن وجد عنبًا في البرية، وكمن رأى الباكورة في التين أول أوانها. رأيت آباءكم".
واليوم يقرأ الشعب سفر الخروج، ولكنه لا يفهم معناه ولا يرى مغزاه. الله خلّصه من القبضة المصرية، وها هو يتخيّل الان أن مصر، أو أية قوة عسكرية، تستطيع أن تخلّصه. قال النبي: "صار بيت إفرائيم (أي مملكة الشمال) كحمامة طائشة لا لبّ لهم. يومًا يستنجدون بمصر، ويومًا يتّجهون صوب أشور" (هو 7: 11). هل يحاولون العودة إلى مصر كما فعل آباؤهم فتطلّعوا إلى اللحم الموضوع أمامهم، وإلى الخبز يأكلونه فيشبعون (خر 16: 3)، وإلى السمك الذي يُعطى لهم مجانًا، والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم (عد 11: 5)؟
والرب هو هو. في الماضي كما في زمن هوشع. تارةً يهدّد وتارةً يعلن الخلاص. ولكن رغبته هي أن تتذكّر الزوجة (أي إسرائيل) خطيبها وتعود إليه: "تخضع له كما في صباها وفي صعودها من أرض مصر (هو 2: 17).

3- من الانبياء إلى عالم الحكمة
في زمن المنفى وساعة بدا وكأن كل شيء ضاع، ولد رجاء جديد فعَبّر عن نفسه في موضوعين مرتبطين بسفر الخروج، وقد توسّع فيهما إرميا وأشعيا.
الموضوع الأول هو العهد أو الميثاق. قال أر 31: 32 بلسان الرب: "أقطع عهدًا جديدًا، لا العهد الذي قطعته مع آبائهم، يوم أخذت بأيديهم لأخرجهم من أرض مصر". ولكن نُقض هذا العهد بسبب خطيئة الشعب، وفضّلوا أن يضعوا ثقتهم بغير الله، أن يقيموا ميثاقًا مع الشعوب المجاورة، فجاء عقابهم كبيرًا. ولكن الرب لا يتراجع، لهذا أقام عهدًا آخر، عهدًا جديدًا، فيه تكون الشريعة مكتوبة "لا على ألواح من حجر، بل في قلوبهم وفي أعمق أعماقهم" (ار 31: 33-34).
وتحدّث حزقيال أيضًا عن "عهد أبدي". فبعد زمن الخطيئة، جاء زمن الميثاق الجديد، جاء ميثاق السلام. فبعد أن ندّد النبي بأورشليم الخائنة، عاد فقال بلسان الرب: "أمّا أنا فأذكر عهدي معك في أيام صباك، وأقيم لك عهدًا أبديًا. عند ذلك تذكرين أنت طرقك وتخجلين" (حز 16: 60-61). ويقول النبي في مكان آخر: "وأعاهدهم عهد سلام أبدي يكون معهم. وأثبتهم وأكثرهم وأجعل هيكلي في وسطهم إلى الأبد. ويكون مسكني معهم، وأكون إلههم ويكونون لي شعبًا" (حز 37: 26-27).
أما الموضوع الثاني فهو خروج جديد يجعل الناس ينسون الخروج الأول من مصر. عرف الشعب المنفى وذلّه وضيقه. وها هو زمن المنفى قد صار إلى النهاية. لهذا صوّر أشعيا الثاني هذا المنفى بشكل خروج جديد يكون على مثال الأول. قال النبي: "وهذا ما قال الرب: فتحتُ في البحر طريقًا وفي المياه العاتية مسلكًا... ها أنا صانع جديدًا فينشأ الأن، أفلا تعرفونه؟ في الصحراء أشقّ طريقًا، وفي القفر أجري الأنهار. وحوش البرية تمجِّدني لأني أجريت مياهًا في الصحراء لأسقي شعبي المختار" (أش 43: 16-20).
وتحتفل المزامير بالخروج. فهناك ما لا يقّل عن 15 مزمور تعود إلى هذه الخبرة الخلاصية التي عرفها العبرانيون. فالمزمور 114 يذكِّرنا بمعجزات الخروج. والمزمور 136 ينشد رحمة الرب الذي شقّ البحر الأحمر شقًا، وسار بشعبه في البرية. أما المزمور 77، فيتذكّر صنع الله في الماضي: "أنت الاله الصانع العجائب... إفتديت بذراعك شعبك. رأتك المياه يا الله فتحوّلت... في البحر طريقك يا الله". ويتساءل المرتل: "هل تحوّل الله، هل نسي شعبه؟ أمدى الدهر يخذلنا الرب ولا يعود يرضى من بعد"؟
وهناك مزامير تذكر عصيانات الشعب المتكرّرة في البرية. فالمزمور 78 يروي قصة العهد مع الرب وتساؤلات الشعب وما فيها من تمرّد وارتياب. "تكلموا على الله فقالوا: أيقدر الله أن يهيِّئ لنا مائدة في البرية؟ أيقدر أن يعطي خبزًا أو يهيِّئ لحمًا لشعبه؟ لقد تمرّدوا على العلي في القفر، وجرّبوا الله في قلوبهم. ويحدّثنا المزمور 106 عن شعب أنكر جميل الرب، ونسي له كل إحساناته. أما المزمور 95 فيدعو الشعب اليوم لكي لا يتشبَّه بسلوك آبائه : "لا تقسّوا قلوبكم كما عند مريبة، كما في ذلك اليوم عند مسَّة في البّرية حيث جرّبني آباؤكم وامتحنوني".
وينتهي العهد القديم بسفر الحكمة الذي دُوِّن حوالي السنة 50 ق.م. كان قد سبقه يشوع بن سيراخ فماثل بين الشريعة والحكمة، وأنشد آباءَ الشعب العبراني ولا سيّما موسى وهارون الكاهن وفنحاس حفيده (سي 45). أما سفر الحكمة فكرّس ما يقارب نصف نصوصه ليتأمّل في نصوص سفر الخروج. قام بموازاة بين المؤمنين واللامؤمنين، بين العبرانيين والمصريّين، بين الذين يستندون إلى الله الواحد والذين يستندون إلى الآلهة المتعدّدة. عاقب الله "المشركين" ومنح كل خير لشعبه. بهذه الطريقة دعا الكاتب الملهم أبناء شعبه إلى التمسّك بالله وبشريعته. كما دعا الشعوب الوثنية لكي تكشف ما في الأسفار المقدّسة من حكمة تساوي إن لم تَفُقْ حكمة اليونان.
تسلّم العهدُ الجديد إرث العهد القديم ولا سيّما فيما يتعلّق بسفر الخروج. فالعهد القديم يتمّ في العهد الجديد دون أن يعرفه. قال يسوع لليهود: "لو كنتم تصدّقون موسى لصدّقتموني، لأنه كتب فأخبر عني. وإذا كنتم لا تصدّقون ما كتبه، فكيف تصدّقون كلامي" (يو 5: 46- 47)؟ فتوراة موسى هي طريق نحو المسيح. ويسوع هو موسى الجديد. وموسى هو من يرافق يسوع مع إيليا على جبل التجلي (مت 17: 3).


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM