الفصل السابع عشر يعقوب في مواجهة التحديات

الفصل السابع عشر
يعقوب في
مواجهة التحديات

يعقوب اسم في اسمين، يرتبط بلفظة عقب وهو الذي تعقّب اخاه وغلبه (تك 25: 26). تلك كانت قراءة متأخّرة لعلاقة يعقوب، الذي هو الاصغر، بعيسو الذي هو الاكبر. كما يرتبط أيضًا بفعل "ع ق ب" الذي يعني غشّ وكذب. غشّ اباه وكذب عليه، فنال البركة التي كانت محفوظة للبكر الذي هو عيسو جدّ الادوميين. وهكذا يقرأ الكتاب المقدس خبر العلاقة بين شعبين متجاورين، بين شعب داود الملك الذي سيطر على ادوم (في شرقي الاردن) الذي هو عيسو. ولكن إذا عدنا إلى الاشتقاق العلمي، نفهم أن يعقوب هو مختصر "يعقوب ايل" الذي يعني: الله ساند. وهو اسم معروف منذ الألف الثاني في لائحة الاسماء الامورية التي عُرفت بشكل خاص في مدينة ماري على نهر الفرات.
إذا عدنا إلى التاريخ، نفهم أنّه كان هناك تقاليد خاصة ببني يعقوب. في الأصل هو قبيلة، وقد توصّلت أن تجمع حولها سائر القبائل، سواء تسمّت بأسماء رجال مثل رأوبين وأشير وجاد وغيرهم أو تسمّت باسم نساء مثل راحيل وليئة وزلفة وبلهة. وسوف نرى، حين نتطلع إلى التحدّيات التي واجهت يعقوب، أن تبديل الإسم من يعقوب إلى إسرائيل، الذي اعطاه الكاتب معنى لاهوتيًا، فصوّر فيه لقاء يعقوب مع الله، هو في الواقع عمليّة فيها ابتلع اسرائيل (الذي كان قبيلة) بني يعقوب. قال الكتاب إن الله بدّل إسم يعقوب إلى إسرائيل ليعطيه رسالة جديدذة تبتعد عن الغشّ والكذب وتستند فقط إلى الثّقة بالله. ولكنّ التّاريخ رأى في مملكة إسرائيل جمعًا للقبائل المتحالفة في شكيم (يش 24) من أجل عبادة الله الواحد.
عاد يعقوب إلى ارام، أو بالاحرى إلى منطقة حاران في بلاد الرافدين العليا (هي اليوم في تركيا التباماك). ففعل كما فعل اسحق حين جاء بامرأته رفقة من هناك. ترك أرض فلسطين، ولكنه عرف منذ بداية الطريق أن الله معه. فالملائكة التي تدلّ على حضور الله هي هنا. والطريق بين الله والإنسان صارت مفتوحة بعد أن وقف الله على رأس تلك السلّم يرافق بنظره يعقوب كما يرافق الأب ابنه.
هزّة أولى في حياة يعقوب. اعتبر أنه بحيلته استولى على حق البكورية وعلى تواصل القبائل من إبراهيم واسحق. ولكن الله أفهمه أنه إن نجح فلأن بركة الرب رافقته وهي ما تزال ترافقه، لا سيّما وأنها ارتبطت ببركة الوالدين. فيعقوب هو الذي يكرم أمه ويسمع لها. كما يكّرم أباه، عكس عيسو الذي تزوّج ابنتين من الحثيين (تك 27: 46)؛ ارسله أبوه بعد أن باركه، فمضى (تك 28: 1) بعيدًا عن بنات الكنعانيين.
أما الهزّة الثانية فتكون في طريق العودة من حاران. أراد أن يدخل أرض الله من جديد، دون أن يستأذن الله. ولكن لا. إنه يدخل إلى أرض مقدسة، فعليه أن يبدّل نفسه، أن يبدّل حياته، أن يبدّل اسمه.
صار "إسرائيل"، أي ذلك القوي بقوة الله. أراد أن يهيِّئ الامور مطولاً في المنطق البشري، ولكن الرب سيفعل هنا كما فعل في عبور البحر الأحمر حين قال موسى للشعب: "لا تخافوا. قفوا وانظروا خلاص الرب... الرب يحارب عنكم، وأنتم لا تحرّكون ساكنًا" (خر 14: 13-14).
وبين الانطلاق من أرض فلسطين والعودة إليها، تبدّلت أمور كثيرة، فوجب على يعقوب أن يعالجها. ونكتفي باثنين منها.
لقد أراد يعقوب أن يتحرّر من "عبودية" لابان كما سوف يتحرّر الشعب من عبودية مصر. وكما لحق فرعون بالعبرانيين بعد أن تركوا مصر، لحق لابان بيعقوب وكأنه يريد أن يعيده إلى أرض حاران. ولكن الرب يدعو يعقوب إلى كنعان، بل إلى مصر. فمن هناك تكون المسيرة الحقيقية بقيادة موسى، مسيرة بيت يعقوب. لا شكّ في أن يعقوب ضعيف أمام لابان، كما كان إسرائيل ضعيفًا أمام ارام. ولكن يجب على يعقوب أن يعرف أن الله معه. قال لابان: "والآن أنا قادر أن أعاملكم بسوء، لولا أنّ إله أبيك كلّمني البارحة (في الحلم) فقال لي: إيّاك أن تكلّم يعقوب بخير أو بشرّ" (تك 31: 29-30). وكانت معاهدة على الحدود بين ارام وإسرائيل من أجل تعايش لا تسيء فيه قبيلة إلى أخرى.
وهكذا كان السلام بين الاراميين وبين بني يعقوب من جهة الشرق والشمال. تبقى جهة الجنوب حيث يقيم الادوميون أو الرجال السمر. فالهدايا هي أفضل الطرق من أجل ربح ودّ الآخرين. واللقاء هو الذي يُزيل البغض، والعتاب يبقى صابون القلوب كما يقول الكتاب: "لا تبغض احدًا في قلبك، بل عاتبه عتابًا" (لا 19: 17). ترك يعقوب منطق القوّة، واخذ بلغة التحابّ واللطف. ومرّ التحدّي الثاني بسلام. في الواقع التاريخي، يدلّ هذا المقطع على أن بني يعقوب خضعوا في فترة من فترات تاريخهم لبني ادوم. فالنص واضح حين يقول إن جميع العشائر التي تشكّل قبيلة يعقوب جاءت وسجدت لعيسو: بدأ يعقوب "وسجد إلى الأرض سبع مرات حتى اقترب من اخيه" (تك 33: 3)، ثم بلهة وزلفة وليئة وراحيل ويوسف. ولكن هذا اللقاء لم يدم طويلاً وإن داخله العناق بين الأخوين (تك 33: 4).
نتذكّر أن أرض أدوم قد ضمّت النقب وجنوبي مملكة الأردن الحالية. ولقد تحدّث ملك أورشليم عبديهافا عن "أراضي سعير" (في صيغة الجمع) في رسالة وجّهها في القرن الرابع عشر إلى امينوفيس الرابع، وجدت مكانها في رسائل تلّ العمارنة. وستذكر المدوّنات المصرية هؤلاء البدو باسم "شوسو"، ونرى فيهم قبائل "ر ب فات" (هي لُبنة في الكتاب المقدس)، "ت ر ب ي ل" (أي تربئيل) (رج تك 36: 10-14، 20-28). أما اهتمام مصر بالمنطقة فيعود إلى مناجم النحاس في جوار تمنة (جنوبي حبرون) وقد بدأت تستغله منذ القرن الثالث عشر ق.م. أما تك 36: 31-39 (رج 1 أخ 43-51 أ) فيذكر ثمانية ملوك "ملكوا في أرض كنعان، قبلما قام ملوك من بني إسرائيل" (تك 36: 31).
حاولنا أن نقرأ التحدّي الأول الذي عرفه يعقوب عندما تصالح مع لابان من الوجهة السياسية، لأننا اعتبرنا أن يعقوب أعطى إسمه لبعض قبائل بني إسرائيل، كما اعتبرنا أن لابان يمثّل الاراميين. وكذلك فعلنا في التحدي الثاني بين يعقوب وبين عيسو الذي يقابل القبائل الادومية التي سبقت بني إسرائيل أشواطًا وأشواطًا على مستوى الحضارة. أما القراءة الشخصيّة الرّوحية، فهي التي تجعل يعقوب يعرف أن الله معه، على مثال ما قال الكتاب: "إن كان الله معنا، فمن علينا". انطلق يعقوب إلى حاران على بركة الله، فمنحته هذه البركة كل خير.
أما اللقاء الروحي العميق، فهو الذي حدث ليعقوب في مخاضة يبوق (رافد من روافد الاردن). يعقوب هو وحده في لقاء شخصي مع الله. والصراع يدلّ على رفض المهمة الجديدة التي سيُلقيها الرب على عاتقه. كما يدلّ على موقف يعتبر أن الإنسان أكثر دهاء من الله. صراع سينتهي بقبول الانسان لنداء الله، وهو الذي قال: "ليست طرقي طرقكم ولا أفكاري أفكاركم. كما علت السماوات عن الأرض، علت عن طرقكم طرقي وأفكاري علت عن أفكاركم" (اش 55: 8-9).
قال الرب ليعقوب: قاتلتَ البشر فانتصرت بالحيلة والدهاء. هذا ما فعل مع والده حين أخذ حق البكورية مستفيدًا من عمى أبيه. وهذا ما فعله مع لابان فزاد قطيعه زيادة كبيرة جدًا. ولكن هذه الطريق ليست طريق الله. طريق الله هي طريق الاستسلام للرب وهو يفعل. ترك يعقوب الاساليب الماضية حين استنكر ما فعله ابناؤه بأهل شكيم. وصبر على المحنة حين عرف أن أبنه يوسف قد "مات". أما اتكاله التام على الله فظهر في مشروع الذهاب إلى مصر. لم يلجأ إلى "قواه" البشرية. بل بدأ فذبح ذبائح، وطلب النور من الرب. فجاءه كلام الرب. "أنا الله، إله أبيك. لا تخف أن تنزل إلى مصر... أنا أنزل معك" (تك 46: 1-4).
تلك كانت قراءة متأخرة لأحداث مضت. قراءة حياة يعقوب على جميع الذاهبين في طريق المنفى إلى مصر والجنوب، إلى بلاد الرافدين والشمال. أنا أكون معك. أنا أنزل معك. وقراءة لحياة الشعوب التي جاورت بعضها بعضًا في هذا الشرق فخضعت كلّها لأمبراطورية أشورية أو بابلية أو فارسية. كيف يمكن أن تعيش هذه الشعوب دون أن تكرّر ما حدث في بداية الكون بين قايين الذي يمثّل أهل الحضر (الزراعة وبناء القرى والمدن)، وهابيل (الذي يقابل البدو الرعاة)؟ هل يقتل الأخ أخاه فتصرخ الأرض طالبة الانتقام للدم الذي سفك عليها؟ أمّ يتوافق الإخوة كما فعل إبراهيم وابن اخيه لوط: ذهب الواحد إلى الشمال والآخر إلى اليمين. قال ابراهيم: "لا تكن خصومة بيني وبينك، ولا بين رعاتي ورعاتك. فنحن رجلان أخوان" (تك 13: 8).
في النهاية، جميع البشر إخوة. ويكفي أن يسمعوا صوت الله، كما سمع لابان في الحلم تحذير الله، وكما فهم يعقوب أن الله حاضر في هذا المكان، حاضر على الأرض، فسلّم أمره إليه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM