الفصل السادس عشر أول قتيل في البشريّة

الفصل السادس عشر
أول قتيل
في البشريّة

حين جعل الكاتب الملهم خبر قايين وهابيل على عتبة تاريخ البشرية، وليس فقط على عتبة تاريخ اسرائيل الذي تدشّنَ حقًا مع إبراهيم (تك 12: 1)، ربطه بمقولة أخبار البدايات. فهذا الفنّ الأدبيّ الإخباريّ يحدّد موقع تك 1-11 في تأليف البيبليا وفي تصوّر الكاتب للبشريّة. فهذه الفصول التي تتحدّث عن خلق الكون في ستة أيام فتصل إلى تشتّت البشريّة عبر تنوّع اللغات خلال بناء برج بابل، مرورًا بالطوفان، تنتمي إلى مشروع خاص: تريد أن تبيّن لنا كيف تتعرّف البشريّة إلى نفسها.

1- خبر البداية
إن مدلول خبر البداية يؤسّس فنًا أدبيًا خاصًا. وفي الوقت عينه يعبّر عن طبيعة ووظيفة خبر تحدّدَ بهذا الشكل. فخبر قايين وهابيل لا يبدو أولاً خبر بداية إلاّ بقدر ما يتسجَّل في امتداد تاريخ آخر هو خبر الابوين الاولين، آدم حواء، مع خبر خلقها وخبر التجربة والسقوط والطرد من الفردوس.
غير أن خبر البداية لا يتميّز أولاً بالكرونولوجيا التي تجعل منه أول محطّة في التاريخ. بل يتميّز أيضًا في ما يقدِّم في الدرجة الأولى، بالقرب من هذا الزمن الاصلي على مستوى الكرونولوجيا. إن قايين هو الابن الأول، هو الولد الأول، هو البكر الأول في التاريخ. وهابيل هو الأخ الأول وأول تابع للبكر. كلاهما يؤلّفان الاخوّة الأولى، ويعبّران عن أولى العواطف من أخ إلى أخيه. من البكر تجاه الثاني، ومن الثاني تجاه البكر. كما يعبّران عن أولى العلاقات بالكون الذي سبقهما إلى الوجود: قايين الفلاّح. وهابيل راعي الغنم. هما أولان، شأنهما شأن أبويهما، كابن وأخ. لهذا، دخلت مغامرتهما في مقولة "خبر البداية".
لا تقدّم لنا التوراة، على عتبة التاريخ، نظرة شعرية عن العيلة وصورة جميلة عن العلاقة بين الاخوة. فحسد الأكبر بالنسبة إلى الأصغر، والاختلاف على مستوى الذوق وردّة الفعل والاهتمام والمصلحة، بين الأخ وأخيه، والشعور لدى الواحد بأن السلطة لا تعتبره كما تعتبر أخاه، بأن الله لا يقدّره كما يجب، ولا يحبّه كما يجب أن يُحَبّ، والخطورة التي يشكلها حضور الآخر، حضور الأخ، كل هذا يدلّ على خبرة عميقة حول العائلة والعلاقات العائليّة، حتى في طريقة سرْد الخبر بشكل دراماتيكي.
من أحتلّ هذا الموقع الاول، من وقف في البداية، كان مسؤولاً عن مدلول لخبر ينتزعه من تفاهة أحداث كثيرة، ومن تسلسل وقائع تسيطر عليها الصدف. فحين وضع الكاتب الملهم خبر قتل الأخ "في البداية" مع كل الشروح التي يقدّمها الخبر، أفهمنا هدفَه والمدلول الذي يريد أن يعطيه لما يرويه. اذن، لسنا أمام مجرّد خبر عائلة، لسنا فقط أمام خبر فيه يقتل الأخ أخاه، مهما كان في هذا العمل من فظاعة. بل نحن أمام خبر تجد فيه البشريّة كلّها انعكاسًا (وصدى) لما هي، لما ترغب فيه، لما تخاف منه، وذلك كما تجد نفسها في خبر الأبوين الأولين في ردّة فعلهما وفي ما يتحمَّلان.
لا شكّ في أن القتل ليس نهايةَ كل علاقة أخويّة، حتّى وإن دلّت الإحصاءات أن نصف الجرائم تقريبًا تتمّ داخل الخلية العائليّة. ولكن ما يقود الى القتل، ما يشرحه، ما يحرّكه، يرتبط بالضرورة في فكر الكاتب الملهم، بخبرة مشتركة وبنظرة محدّدة إلى البشرية.

2- لعنة تاريخيّة ولعنة أصليّة
إنّ خبر قايين وهابيل الذي توخّى تقديم الشرح الأساسيّ بوضعه بالذات في الكرونولوجيا البيبليّة، يفرض علينا بعد ذلك أن نستعلم عن ينابيعه ونتائجه.
فهو شأنه شأن كل خبر بداية، كُتب بالنظر إلى خبرة. وهذه الخبرة ليست أولى على مستوى التدوين. فقد دُوّنت بعد تاريخ طويل تحاول أن تؤسّسه وتشرحه. لا شكّ في أنها تتذكّر وجهين أساسيّين ومتناقضين في مرحلة من مراحل المجتمع البشريّ كما يقدّمها دارس التاريخ قبل التاريخ والباحث عن أصول السلالات البشرية، منذ قرن من السنين ونيّف. يدلّ قايين وهابيل على بداية زراعة الأرض ورعاية الماشية، وعلى النزاعات بين الفلاحين والبدو. فهؤلاء يحسّون بالضرورة لأن يجدوا مراعي لقطعانهم، فيشكّلون خطرًا لأولئك الذين يفرض عليهم عملهم الإقامة في الأرض والمحافظة على المزروعات ومراقبتها. من هذا القبيل، تستشف البيبليا ما تعلّمته الاتنولوجيا (درس السلالات) الحديثة وما ذكّرتنا به.
وفي مساحة محدودة من التاريخ البيبلي، يؤسّس هذه الخبر تاريخ اسرائيل ويفسّره، كما يفسّر في هذا التاريخ ما يمثّله أفضل تمثيل. حين وضع الكاتب على عتبة التّاريخ هذا الخبر الأول عن أخ يقتل أخاه، حاول أن يجد في أصل البشريّة شرحًا لما يدلّ عليه التاريخ. والحال أن التاريخ القديم يشهد، منذ كتاب صموئيل، سلسلة صراعات تنبع من الحسد، بين الملكين الأولين في شعب اسرائيل، بين شاول وداود. وهي تصل إلى محاولة قتل من قبل البكر الذي هو شاول، تجاه الثاني الذي هو داود. كما تتواصل مع أبناء داود حيث المزاحمة والغيرة تقودان إلى القتل والجريمة. فحين عرض الكاتب مثل هذه الدرامات، وجب عليه أن يتساءل في وقت أو آخر، أن يطلب تفسيرًا. بعد هذا نستطيع القول إن هذه الصراعات تسجّلت في العلاقة الاخويّة منذ البدء. وهكذا وجد التاريخ الدمويّ اللاحق تفسيرًا له: فاللعنة الاصليّة تفسّر اللعنة التاريخيّة وما تحمل معها من موت.

3- الدافع الاصليّ للقتل
غير أن خبر قايين وهابيل يحتاج بدوره إلى أن ينال تفسيرًا داخل حكاية تتسجّل بعد خبر آدم وحواء. فنحن لا نستطيع أن نرضى بملاحظة الأخ الذي يقتل أخاه، وهو قتل لا يجد له تفسيرًا في نيّة الأبوين الاولين وحياتهما. وبعبارة اخرى إن هذا الخبر يفترض أن نعود إلى علّة وسبب. فإن كانت هناك دراما، فلأن لها ما هيّأها: هي لا تفسَّر إلاّ إذا كانت خطيئة أخرى قد اقترفت، لا تفسَّر إلا بقدر ما يكون قد حصل طرد من موضع مثالي لا مكان فيه للجريمة والقتل. فخبر السقوط ورمزيّة تحرير الشجرة مع طابعها الملغز، يحمل التفسير التّام والمطلق لكل شقاء بشريّ، بدءًا بأول قتل يقترفه أخ ضد أخيه حسدًا منه.
في هذه الظروف، يكون خبر قايين وهابيل خبر بدايات على مستويين: من جهة، أشار إلى التّاريخ الآتي الذي تميّزه المزاحمة والغيرة بين الإخوة، بما فيها من شموليّة، وإن كانت هذه الشموليّة لا تقود دومًا وبالضرورة إلى القتل، والحمد لله. ومن جهة ثانية، فرض خبرَ بدايات يسبقه ويفسّره بألفاظ تفلت من خاصيّة تاريخ يبدو بشكل حكاية. فلعبة الرّموز بين التّحريم الإلهي للشجرة والحوار مع الحية، وتقاسم الثمرة، كل هذا يؤمّن الأساس والشرح الكوني لمآسي التاريخ البشري، لا لمأساة قايين وهابيل فحسب.

4- رفض للحتميّة
وهكذا ندرك في هذه الظروف الأهميّة الرئيسيّة لمثل هذا التاريخ في المسيرة البيبليّة وفي النظرة التي تقدَّم للبشريّة. ومع ذلك، يجب أن نحفظ نفوسنا هنا من عاطفة تقود إلى الحتميّة. فالحتميّة ليست مقولة بيبليّة. أن تكون هناك دراما، ودراما لا يمكن تجنّبها، هذا ما وعاه المؤّرخون في أرض إسرائيل. ولكن الدراما في نظرهم ليست حتميّة. فالحياة تسير مسارها رغم الدراما، والعدالة الالهيّة تمرّ هنا. بل إن خصب قايين، شأنه شأن خصب آدم وحواء، لا يظهر من أجل الخير كما من أجل الشرّ، من أجل الأبرار كما من أجل الخطأة، إلاّ بعد خطيئتهم.
لا شك في أن قايين اقترف جريمة فظيعة طبعت بطابعها التاريخ البشري. ولكنه يبقى ذاك الذي يؤمّن بنسله سلسلة الأجداد الكبار الذين سيطروا على الكون بمزاياهم وتقنيّاتهم. إذن، ليس قايين فقط أبا القتلة والمجرمين. إنّه أيضًا أبا بناة المدن، أبا الذين يعيشون في الخيام ويرعون المواشي، أبا الحّدادين وأهل الموسيقى (تك 4: 17-22)، أبا جميع الذين يجعلون الحياة البشرية ممكنة ويدخلون الوجود في الحضارة. طُرد آدم وحواء من الفردوس، فظلاً خصبين وولدا الابرار والأشرار معًا، ولدا قايين كما ولدا هابيل، ولدا إبراهيم كما ولدا أبناء سدوم، ولدا داود كما ولدا شاول...
إن الاخبار البيبليّة في البداية، تُفلت بهذه الطريقة من الحتميّة السطريّة التي نجدها في ملاحم الشرق القديم. فالتاريخ الذي تدشّن هنا، يورد خبر الخطيئة، ولكنه لا ينسى تاريخ الخلاص. وقايين يبدو من خلال حماية الله السرّية له بعد جرمه وفي التّحريم الإلهي للانتقام، وفي النّسل الذي يواصل وجوده، يبدو في كل هذا صورة عن البرّ والخلاص كما عن الخطيئة والشر، وذلك منذ بداية الخليقة.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM