الفصــل الخامس عشر خلق الرجل والمرأة

الفصــل الخامس عشر
خلق الرجل والمرأة

خبر خلق الرجل والمرأة خبر شعري كله. فالرجل سرّ هو وقد خلقه الله ولم يكن أحد حاضرًا عندما خلقه. والمرأة سرّ هي، وحين خلقها الله كان آدم نائمًا فلم يشاهد ساعة خلقها. والزواج سر عظيم وهو يجمع بين اثنين أو هو بالاحرى ينطلق من الوحدة إلى التعدّد لأن الوحدة سابقة للتنوّع. وقد كان الرجل والمرأة واحدًا قبل أن يصيرا اثنين. وفي كل هذا العمل، بدا الله ذلك الخزّافَ الذي يجبل الرجل من تراب الأرض، وذلك البنّاء الذي اخذ ضلعًا من أضلاع الرجل وبنى المرأة، وذلك الكاهن الذي بارك أول عروسين على الأرض وأعطاهما توصياته: يترك الرجل أباه وأمّه ويتّحد بامرأته فيكون الاثنان جسدًا واحدًا. وقال لهما في مناسبة أخرى: إنموا واكثروا واملأوا الأرض.

1- خلق الرجل
يوم لم يكن بعد شيء على الأرض، خلق الله الرجل. فهو يحتاج إليه لكي يعمل معه في الأرض. خلْقُه دعوة من قبل الله لكي يشاركه في عمل الخلق. ذلك الاله الذي كان "يتمشّى في الجنة عند المساء" وبرودته، ما كان يتمشّى وحده، بل هو والانسان. ومعه كان يعمل المشاريع. بدأ عمَل الخلق وهو يتممّه مع الانسان. فكان كملاّك كبير سلّم إلى أحد المزارعين أملاكه لكي يستثمرها. ولكن الرب كان أعظم من أي ملاّك. فالانسان حين يعمل في الكون ينمي شخصيته ويطوّر الكون. وهو بذلك يمجّد الله.
واعطانا الكاتب صورة شعرية عن خلق الرجل. انطلق من الواقع الذي يبيّن لنا أن الانسان يُدفن في التراب، يعود إلى التراب بعد الموت. هذا يعني أنه اُخذ من التراب. ولكن هل الانسان تراب فقط، وهل يموت كما تموت البهيمة؟ كلا ثم كلا. فخلقُه نتيجة قرار خاص اتخذه الله حين قال في صيغة الجمع: "لنصنع الانسان على صورتنا ومثالنا". وفي تك 2: 7 نقرأ: "وجبل الرب الاله أدم (أو الرجل. أو: الانسان بشكل عام) ترابًا من الارض، ونفخ في أنفه نسمة حياة". تخرج الروح من الانف كما بالتنفّس، فهي اذن قد دخلت من هناك. ففي هذا المخلوق الترابي نجد روح الله. وهكذا يرتبط الانسان بالارض كما يرتبط بالسماء. يموت كما تموت كل المخلوقات، ولكنه خالد بعد أن جعل الله روحه فيه.
وشبّه الكاتب الله بالفخّاري على ما في حضارات بلاد الرافدين. صورة تدل على عناية الله بخلقه. وكل واحد هو فريد ويلقى اهتمامًا خاصًا. وهذا الرجل سيكون سيّد الخليقة باسم ربّ الخليقة. هذا هو معنى الصورة التي نرى فيها آدم يستعرض جميع الحيوان، كالقائد يستعرض جنده. وبعد ذلك فهو يعطي كل حيوان اسمه. هذا ما يدّل على سلطانه باسم الله. أجل، ما دام الانسان في صداقة مع الله فهو يسود الكون كله، والاّ صار الحيوان عدوًا له ولن يستطيع الذئب والحمل أن يقيما معًا. هذا ما قاله اشعيا منطلقًا من عودة الانسان إلى الله، وعودة الخليقة إلى الله. فقد قال القديس بولس: كل شيء لكم وانتم للمسيح. ولكنكم لن تسودوا على الكون إلاّ إذا حملتموه للمسيح، إلاّ إذا كنتم للمسيح ولله.

2- خلق المرأة
ونام آدم، فأستلّ الرب ضلعًا من اضلاعه. عمل عمَل الجرّاح. أخذ قطعة من الرجل وكوّن منها المرأة. صورة غريبة، ولكنها صورة شعرية. وقد فسّرها التلمود فقال: لم يأخذ الرب عظمًا من رجل الرجل لئلا تكون المرأة خادمة للرجل وعبدة له. وذاك كان الوضع في القديم حيث المرأة هي خادمة الرجل وبعض أملاكه. فنحن نقرأ في خر 20: 17: "لا تشتهِ بيت قريبك ولا امرأته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئًا مما له". ويتابع التلمود: لم يأخذ الله عظمًا من رأس الرجل لئلا تسود هي عليه فيكون لها خادمًا وعبدًا.
كلا. فقد خلق الرب المرأة بازاء الرجل. هي موازية له. مساوية له. وإذا كان الرجل كما يقولون رأس البيت، فالمرأة هي قلبه. وإذا كان الرأس ضروريًا للحياة، فالقلب ضروري أيضًا. وهكذا تنوّعت العطايا في البشرية بين رجل يفلح الأرض ويزرعها وامرأة تعطي الحياة. وهكذا لا نكون أمام اسمي علم حين نقول آدم وحواء. بل أمام صفتين تدلاّن على جوهر الرجل وجوهر المرأة. فآدم ارتبط بالأرض "ادمه". وحواء ارتبطت بالحياة. فكانت أم الأحياء، ورمزت إلى الشعوب والمدن. فحوّاء ترمز إلى شعب عرف الخطيئة. ومريم إلى شعب عرف نعمة المسيح. حواء هي المرأة ومريم هي المرأة، وفيهما تتجسّد البشرية كلها.

3- سرّ الزواج
حين اكتشف الرجل المرأة، اكتشف أعظم حقيقة في الكون: وحدة الرجل والمرأة قبل أن ينفصلا. هي عظم من عظمي ولحم من لحمي. هي جسد الرجل كما يقول بولس الرسول. وهل يستطيع الإنسان أن ينفصل عن جسده؟ وهكذا شدّد الكاتب الملهم على حقائق عديدة في هذا الإطار.
أولاً: إحترام المرأة التي هي جزء من الرجل. ولا نعجب من هذا القول الثوروي وقد ظلت القرون الوسيطة تعتبر المرأة قريبة من الحيوان ولا نفس لها.
ثانيًا: رفض الطلاق والانفصال بين امرأة ورجل متّحدين في الزواج. فكأنّنا نقطع الجسد قطعتين. لن يعود هناك جسد حيّ بل جثّة هامدة. وهذا ما نقوله عن عائلة افترق فيها الزوج عن الزوجة. وهكذا دلّ الله منذ البدء على أنه رافض للطلاق. وقد قال في ملا 2: 16: "أنا اكره الطلاق والعنف". الطلاق الذي يدلّ على عنف الرجل تجاه امرأته. ثالثًا: زواج أحادي. رجل واحد وامرأة واحدة فقط. فكيف يكون رجل واحد مع أكثر من امرأة جسدًا واحدًا: الاثنان هما جسد واحد. كل ثالث هو دخيل. وهكذا رفض الكتاب تعدّد الزوجات رغم أنه عرف أن داود تزوّج أكثر من إمرأة، وسليمان أيضًا. تلك هي شريعة الله. وممارسات الانسان الشاذة لا تضعفها بل تقوّيها وتدل على أن الانسان لم يصل بعد، في مسيرة العائلة، إلى المستوى الذي أراده الله.
هذا ما قاله الله للعروسين الأولين يوم بارك زواجهما في بداية الخلق، ويوم يبارك كل يوم أعراسنا كما فعل في قانا الجليل. وانتهت العظة بقول يدعو الرجل ليترك أباه وأمه ويتّحد بامرأته. كم نحن بعيدون عن مناخ تكون فيه المرأة قاصرة في بيت اهلها، قاصرة في بيت حميّها. هي لا تستطيع أن تكون سيّدة. لا تستطيع أن تكون ملكة كما يقال لها في حفلة الإكليل. يُوضع التاج على رأسها كما يوضع على رأس الرجل، فتكون هي الملكة وهو الملك. هذا يعني أنه انفصل عن امّه وأبيه لكي يرأس عائلة جديدة. وهذا يعني أنها فهمت كلام المزمور: "انسي شعبك وبيت ابيك فيشتهي الملك جمالك".
هكذا صوّرت البيبليا خلق الرجل والمرأة. انطلقت من الرجل والمرأة. انطلقت من الواقع اليومي وعادت إلى البداية. انطلقت من العائلة التي هي أول خليّة في المجتمع والقت عليها وحي الله. هي لا تدرس كالعلماء المعاصرين أصل الإنسان وارتباطه بالخليقة، بالقرد أو بغيره. هي لا تدرس تطوّر الأجناس البشرية في اللون الأبيض والأسود والأصفر والأحمر. بل تدرس ارتباط الانسان بالله. خلقه الله بعناية ومحبّة فبدا فريدًا في الكون. لا ليس الانسان وليد الصدفة والقدر. لقد أراده الله، وهيّأ له كل شيء، ودعاه إلى حياة من السعادة داخل العيلة. ودرس الكاتب الملهم أيضًا ارتباط الانسان بالانسان، ارتباط الرجل بالمرأة، بانتظار أن يتوقّف على علاقة المجموعات بعضها ببعض. هي في الاصل أو في ما نصبو إليه علاقة انسجام وتعاون. ولكن الواقع أرانا كيف قتل قايين هابيل، كيف يعامل القوي الضعيف، والغني الفقير، وابن المدينة راعي المواشي. كما أن الواقع أرانا كيف صار الرجل "سيّد" المرأة، وصارت خادمة له ولأولاده. كان يشتريها كما يشتري حيوانًا داجنًا ويستغني عنها كما يستغني عن أي شيء يملكه. جاء المسيح فاعاد للمرأة كرامتها، وللزواج قدسيّته. لا شكّ في أنّه عاد إلى البدء، كما قال لمن سأله عن الزواج والطّلاق، وأشار إلى قساوة قلوبنا، فقال: "ليسا هما اثنين بعد بل جسد واحد. فما جمعه الله لا يفرّقه انسان" (مر 10: 5-9). ولكنه ذهب أبعد من ذلك فأرانا الرجل والمرأة على صورة الله. ليس الرجل وحده صورة الله. ولا المرأة وحدها. كلاهما صورة الله. وحين يتّحدان يشاركان الله في عمل الخلق. بل إن الرجل يشبه المسيح والمرأة تشبه الكنيسة حيث الحب متبادل والخضوع متبادل. هكذا تكون العيلة صورة عن علاقة الله بشعبه وعلاقة المسيح بكنيسته. بل هكذا تكون العيلة الارضية صورة عن عيلة الله الذي هو ثالوث أب وإبن وروح قدس.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM