الفصل الرابع عشر المسيحيّة والهليّنية

الفصل الرابع عشر
المسيحيّة والهليّنية

المسيحية ترتبط بالمسيح وهي تيّار ديني وُلد في فلسطين وامتدّ في كل حوض البحر المتوسط المتأثّر تأثّرًا عميقًا بالحضارة اليونانية والمرتبط على المستوى السّياسي بالنّظام الروماني. ولم يقتصر انتشار المسيحية على الغرب، بل وصل إلى الشرق. فحاولت الكنيسة أن تعبّر عن إيمانها في كل لغات العالم، في السريانية، في اليونانية، في اللاتينية، في القبطية... وما زالت تعود إلى لغات العالم وحضاراته لتعبّر عن الايمان الواحد في لغات العالم المتعدّدة، كما في يوم العنصرة: العيلاميون، بلاد ما بين النهرين، العرب، مصر، نواحي فريجية، بمفيلية (أع 2: 5-11). إلى هذه الأصقاع وغيرها كانت البشارة قد وصلت يوم كتب لوقا كتابه المؤلّف من جزئين: إنجيل لوقا وأعمال الرسل.
والهلّينية هي حضارة ولدت في بلاد اليونان (واسمها هلاّس Hellas) وانتشرت خارج اليونان مرافقة الاسكندر الكبير في فتوحاته. بل هي صارت نتيجة تفاعل بين الحضارة اليونانية وحضارات دول حوض البحر المتوسط، فلم تعد يونانية صرفًا. ولا محلّية. وسيطرت هذه الحضارة في المدن بشكل خاص. ولا ننسى أن الديانة المسيحية بدأت في المدن ومنها امتدّت إلى المناطق المحيطة بهذه المدن. نتذكّر بولس الذي ذهب إلى أنطاكية وأفسس وكورنتوس وتسالونيكي بانتظار أن يصل إلى رومة كسجين يسوع والمسيح. وقد حاول بولس منذ سنة 51 أن يعبّر كتابة عن الانجيل الذي وصل إليه من جماعات دمشق وبلاد العرب (ربما حوران)، كما من جماعات أورشليم. وها هو يسلّم إلى العالم الغربي ما تسلّمه من تعليم يعود إلى المسيح.
إذا عرفنا أن الارياف كانت تتكلّم لغة البلاد، ولا سيما الآرامية في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق، والقبطية في مصر... هذا عدا عن اللغات المحليَّة مثل الليكونية في أسية الصغرى، أي تركيا (أع 14: 11)، نفهم حينذاك أن الأناجيل، بل العهد القديم كله، قد دوّن لأهل المدن. وهو، في الواقع، قد دوِّن كله اللغة اليونانية. وإن تحدّثت التقاليد عن نص متى "الآرامي" فإننا لم نجد له حتى اليوم أثرًا. وهكذا صارت اليونانية لغة العهد الجديد، كما كانت العبرية والآرامية ثم اليونانية لغة العهد القديم.
مسائل عديدة، عرفها هذا العالم الهلّيني، ولا سيّما على مستوى الفكر. فالرواقية، ذاك التعليم الفلسفي، تحدّثت عن العالم الكبير وكأنه قرية صغيرة، أو قل مدينة، حيث الناس أعضاء بعضهم لبعض. وقدّمت هذه "الفلسفة" مستوى من الحياة الخلقية سيدخل في رسائل بولس الرسول. وتركت الأبيقورية بصماتها، لا سيّما على مستوى اللذة التي تصل بنا إلى السعادة. وسار فكر أفلاطون إلى أفلوطين وفيلون الاسكندراني، فوصل بنا إلى الرسالة إلى العبرانيين، وما فيها من دراسة عن البيبليا. لا دراسة حرفية، بل نمطية. الهيكل الحقيقي هو يسوع المسيح. كان هناك كهنة عديدون. ولكن الكاهن الأوحد هو يسوع المسيح الذي بذبيحة واحدة نال الخلاص للبشرية جمعاء.
وكان للعهد الجديد أن يواجه العالم الفلسطيني، ولا سيّما في الأناجيل. غير أنه سيواجه العالم اليوناني والروماني في نظمه: على مستوى المرأة، عرفت بعض تحرّر لم يعرفه العالم الشّرقي، وما زالت شرائع عديدة تجهله حتى اليوم. فكتب بولس: لا رجل ولا امرأة، لا تمييز بين الإثنين. وصل بهذه النظرة التي ظلّت ناقصة إلى الذروة. وسيكون للمرأة دور كبير في الكنيسة. مثل ليدية في فيليبي. هي باكورة الكنيسة والرباط المتين بين بولس السجين وأهل فيليبي. مثل فيبة، الشمّاسة في رومة التي تسلّمت مهمّات عديدة في الكنيسة. ولا ننسى الأرامل اللواتي سيكنّ أولى المتعبدات في الكنيسة. وعلى خطاهنّ تسير الراهبات من أجل عمل الخير والرسالة. ولماذا لا نرى في "العذارى " المكّرسات في ظل الهياكل الوثنيّة، أولى المكرّسات في المسيحية؟ دخلت المسيحيّة في الحضارة الهلّينية فأعطتها وجهًا جديدًا. فجّرت الأطر القديمة، ونفحتها بروح العبادة للإله الواحد نافية التعبّد للأصنام. هذا لا يعني أن الانسان القديم عبد الحجر أو الخشب. ولكن عندما صنع صنمًا اعتبر أنه بهذا الصنم يفرض إرادته على الله ويتقي شرّه. أما في المسيحية، فالصلاة الأولى تقول: لتكن مشيئتك يا رب. وكما تحوّلت المعابد الوثنية إلى كنائس، تحوّلت المكرسات إلى "راهبات" بالمعنى الحديث للكلمة.
وعرف بولس في العالم الهلّيني نظام العبودية: ففي مدينة مثل كورنتوس تعد 600000 نسمة، كان العبيد يشكّلون ثلثي السكان. أترى يرضى الانجيل بهذا النظام الذي يجعل الانسان على مستوى الحيوان، أو على مستوى الأشياء، يستطيع سيّده أن يبيعه ويشتريه، ويتصرّف به كما يشاء، بل يستطيع أن يسجنه ويقتله لأتفه الأشياء. ولكن بولس قال كلمته أيضًا في هذا المجال: "لا عبد ولا حر". وسيكون لنا مثَل حيّ في الرسالة إلى فيلمون. هرب عبد اسمه أونسيموس من عند فيلمون سيّده. مثل هذا الوضع يستحقّ كل عقاب. أما بولس فعمّد أونسيموس الذي صار مساويًا لفيلمون. وكتب إليه يقول: "يعود إليك أونسيموس، لا كعبد بعد، بل كأخ حبيب إليّ خصوصًا، فكم بالأحرى إليك أنت". أجل، دخلت المسيحية في العالم الهلّيني لا لتقوم بثورة كما فعل سبارتاكوس وأصحابه في القرن الأول ق.م.، وهي ثورة تركت وراءها مئات الألوف من القتلى. دخلت إليه لكي تطعّمه وتنفحه بروح المسيح. وسيكون تطوّر بطيء وطويل يعرف الصعود والانحدار... بل ما يزال عبيد عديدون يؤخذون اليوم من عالم أفريقيا ويباعون... وما زالت المسيحية تندّد بهذه العبودية، وتطالب بحقوق الانسان على جميع المستويات.
وهكذا التقت الديانة المسيحية بالحضارات الهلّينية، وكان تفاعل بين الاثنين كانت نتيجته الحضارة الأوروبية التي نستفيد نحن منها أبناء الشرق. دخلت المسيحية فجعلت الأدب والرسم والنحت... تتحرّك في إطار مسيحي بصوره وأفكاره وأساليب تعابيره. فمتى يأتي دور سائر الحضارات لكي يدخل فيها الانجيل؟ ولكننا نحتاج إلى بولس آخر ينقل الانجيل من العالم الارامي إلى العالم اليوناني، نحتاج إلى شخص ينقل انجيل المسيح إلى عالم البوذية والهندوسية وغيرها من الديانات، ينقله نقلاً صحيحًا لا نقلاً مشوّهًا أو مبتورًا بسبب ما تبعه من تفاسير. وهكذا يحس الانسان الذي ينتقل من ديانات الأجداد إلى ديانة يسوع المسيح أنه وصل إلى ملء ما تصبو إليه نفسه. وصل إلى ذلك الإله الذي ستظلّ قلوبنا قلقة حتى نلتقي به في حياتنا اليوميّة وملتقى حضارتنا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM