الفصل العاشر الأسيانيون وأهل قمران

الفصل العاشر
الأسيانيون
وأهل قمران

1- الإسم
الأسيانيّون كلمة عرفناها في اليونانيّة عند فيلون الإسكندراني، ويوسيفوس المؤرّخ اليهوديّ، وإبيفانيوس أسقف سلامينة (قبرص). وقد حاول العلماء أن يكتشفوا أصلها. فعادوا إلى "ح س ي ا" أو "ح س ي و" أي التقيّ. وعادوا إلى الأرامية "ح س ا" أي النقيّ. قيل هم "الحسينيّون" أو "الأسينيّون" أو "الحسانيون". أما نحن فعدنا إلى الجذر السريانيّ "ا س ا" الذي يعني فيه الفعل المزيد (ا س ي) شفى، أصلح، واسم الفاعل منه "اسيا" الشافي. ولهذا قلنا الأسيانيّين.
كان بالإمكان أن نربط الأسيانيّين بفعل "س ح ا"، اغتسل وبالاسم "ا س ح ا ي" المغتسلين. حُذفت الحاء في اليونانية فصار "اسايوي". قال غراتز: كانوا أنبياء وقد يكون إسمهم إرتبط بفعل "ح ز ا"، رأى. كانوا يتأمّلون في الأمور المقدّسة، ويخضعون بعض المرّات لشريعة الصمت. فسمّوا "الصامتين".

2- المراجع
حين كتب مرشال مقاله عن الأسيانيّين، سنة 1934، قال: "لا نمتلك أيّ وثيقة مباشرة تركها لنا الأسيانيّون". لهذا نعود إلى أشخاص كتبوا عنهم مثل فيلون الإسكندرانيّ، وفلافيوس يوسيفوس المؤرّخ اليهودي، وبلينوس الأكبر، المؤرخ الرومانيّ.
تحدّث فيلون عن الأسيانيّين في كتابه "كلّ كتاب صادق"، وذلك في نصّ ورد في أوسابيوس القيصريّ (التهيئة الإنجيليّة، 8: 12). واحتفظ أوسابيوس أيضًا في التهيئة عينها (8: 11) بمقطع من فيلون في كتابه "الدفاع" (وهو اليوم قد ضاع) عن هذه الشيعة. وقد يكون فيلون كتب عن حياة الأسيانيّين اليوميّة كتابًا ثالثًا يقابل "حياة المشاهدة".
ونجد عن الأسيانيّين مقاطع عديدة في "الحرب اليهوديّة" (1/3: 5؛ 2/7: 3؛ 2/8: 12-13) و"العاديّات اليهوديّة" (13/11: 2؛ 15/10: 4-5؛ 18/1: 5) لفلافيوس يوسيفوس الذي عاش خلال القرن الأول المسيحيّ وشارك في الحرب ضدّ الرومان قبل سقوط أورشليم سنة 70 ب.م. يقدّم نصّ "الحرب" الخبر الأساسيّ والمفصّل عن هذه الشيعة التي قد يكون يوسيفوس عرفها. أما نصّ "العاديّات" فقد لخّص المرجع السابق وزاد عليه بعض التفاصيل.
وكرّس بلينوس للأسيانيّين نبذةً قصيرةً فأُعجب بهم. ويبدو أنه أستقى من يوسيفوس أو من مرجع عاد إليه يوسيفوس. ونذكر أيضًا من الكتّاب المسيحيّين هيبوليتُس (ضدّ الهراطقةً 1/9: 18-38)، وأوسابيوس في التهيئة الإنجيليّة (8: 11-12)، وإبيفانيوس (ضدّ الهراطقة 1/1: 10) الذين استقوا من فيلون ويوسيفوس.

3- تاريخ الأسيانيّين
تبدو معلوماتنا حقيرة عن أصل الأسيانيّين ونموّهم ونهايتهم. قال يوسيفوس إنه منذ زمن طويل وُجدت ثلاث شيعَ هي: الفريسيّون والصادوقيّون والأسيانيّون. وتحدّث عن هذه المجموعات للمرة الأولى في أيام يوناتان حوالى سنة 150 ق.م.، كما ذكر اسم رجل أسيانيّ اسمه يهوذا في عهد أرسطوبولس الأول (105-104). وهكذا يعود الأسيانيّون إلى منتصب القرن الثاني. وهم يرتبطون بجماعة الحسيديم، جماعة الأتقياء، الذين تكوّنوا في أيّام عزرا (القرن الخامس ق.م.) وتمرّدوا على يهوذا المكابيّ، ثم انفصلوا عن الفريسيّين. كانوا أقليّة حارةً في تقواها، فرفضت سياسة الحرب ومنطق الجدالات. تركت جماعة الفريسيّين واحتفظت لها باسم الحسيديم. وكان عدد أفرادها أربعة آلاف، كما يقول فيلون ويوسيفوس. حدّد بلينوس موقع هذه الشيعة في الشمال الغربيّ للبحر الميّت، فوق عين جدي. وتحدّث فيلون ويوسيفوس عن أسيانيّين أقاموا في مدن وقرى فلسطين لكي يؤمّنوا لإخوتهم المسافرين مضافًا يوافق نوعيّة حياتهم. ويبدو أن هذه الشيعة سارت في طريق الزوال سنة 68 ب.م. فقبل أن يصل الرومان إلى أورشليم، احتلّوا خرائب قمران وقتلوا من قتلوا من قاطنيها، وهرب الباقون جاعلين كتبهم في مغاور اكتُشفت، سنة 1947 وما بعد، على يد شاب ينتمي إلى عشيرة التعامرة.
إن الأسيانيّين الذين أثاروا إعجاب الناس واحترامهم بحياتهم النسكيّة، انعزلوا عن العالم وعاشوا في جماعات خضعت لتنشئة متدرّجة تمتدّ على ثلاث سنوات. ثم كانوا يتعهّدون بطريقة احتفالية، كما في نذر رهبانيّ، بأن يتبعوا التأديب المعمول به، وأن يحافظوا بشكل مطلق على تعاليمهم السريّة. ومن تجاوز هذا التأديب ناله العقاب والطرد من الجماعة. قُسم "الناذرون" إلى أربع طبقات حسب أقدميّة كل واحد ونظام التصدّر (من يمشي في المقدّمة، ومن يتبعه). في هذه "الديورة" التي يديرها رئيس تنتخبه الجماعة، كانت الأموال مشتركة. كان لباس "الرهبان" أبيض وبسيطًا. ويرأس مائدتهم كاهن يتلو الصلاة قبل الطعام وبعده. فيأخذ الطعامُ طابعًا دينيًّا. ولهذا لم يكونوا يشاركون فيه إلاّ بعد أن تتأمّن الطهارة الطقسيّة. وكانوا يستعبدون عنه كلَّ غريب عن الشيعة. ممّ كانوا يعيشون؟ من عمل الحقل وبعض الصناعات. أما التجارة فكانت ممنوعة. وإذا وقعت منازعاتٌ داخليّة حلَّتها محكمة محلّية، حفاظًا على السلام داخل الجماعة.
وانطلق تعليمهم من العالم اليهوديّ فاشتمل على عبادة الله واحترام اسمه القدّوس. لهذا كان يعاقَب التجديف بالموت. إستسلموا للعناية الإلهيّة وخضعوا لمقاصد الله، دون أن يرتبطوا بالحتميّة والقدَر. إعتادوا أن يصلّوا في الصبح ووجههم إلى الشمس التي يرون فيها تمثلاً لنور الله. آمنوا بالملائكة الذين احتلّوا مكانةً هامّة في تفكيرهم، كما آمنوا بخلود النفس والقيامة. كانوا يرسلون تقادمهم إلى الهيكل، ويرفضون تقديم الذبائح فيه. حافظوا بدقّة على راحة السبت واختاروا من بينهم كهنةً يعودون إلى هارون أو لا يعودون.

4- علاقة الأسيانيّين بقمران

أ- عودة إلى التاريخ
نستطيع القول، في الوضع الحاضر للأبحاث، إن أهل قمران هم جماعة من الأسيانيّين. فخربة قمران التي هي، على ما يبدو، سكاكة المذكورة في يش 15: 61، ودرج النحاس في المغارة الثالثة، هي مركز الجماعة. وهذا ما يتوافق كل الموافقة مع نبذة بلينوس الأكبر وما تركته لنا المخطوطات من نصوص.
من أين جاء الأسيانيّون؟ هنا لا بدّ من العودة إلى الوراء. فخلال الحقبة الهلنستيّة (أي بعد دخول الإسكندر إلى الشرق، 333 ق.م.)، سيطر السلوقيّون الآتون من أنطاكية على فلسطين. وبدأ أنطيوخس الرابع إبيفانيوس يضطهد اليهود، كما أنه أعلن قرارًا يمنع شعائر العبادة في الهيكل. حينئذ تنظّمت حركة مقاومة قادها الحسيديم كما يقول سفر المكابيّين. بدأت هذه الحركة حوالي سنة 170، فضمّت مجموعات مختلفةً وحّدتها معارضتها المشتركة لسياسة أنطيوخس الرابع. ولكن في أيام يوناتان المكابيّ (160-143) انشقّت مجموعة الأتقياء إلى إثنين: جماعة الأسيانيّين وجماعة الفريسيّين.
تمّ الإنشقاق، سنة 152 ق.م.، ساعة عُيّن بوناتان عظيمَ كهنة على حساب الذي كان عظيمِ كهنةٍ في ذلك الوقت والذي كان من عائلة يونيا (1 مك 10: 20 ي). سُمّي هذا الأخير "الملفان الشرعيّ" أو "معلّم البّر"، في النصوص التي اكتُشفت في قمران. فذهب إلى المنفى في البريّة مع عدد من المؤمنين "ليكفّر عن خطايا البلاد ويهيّئ غرسًا أبديًّا هو الهيكل المقدّس".
إن "الميثاق الجديد الذي عُقد في أرض دمشق" لا يشير إلى بابلونية ولا إلى قمران، بل إلى الأرض الواقعة في عبر الأردن والتي إليها لجأ عددٌ من الأتقياء مع عائلاتهم. فموقع قمران لم يكن يقدر أن يستقبل عددًا كبيرًا من الناس لمدّة طويلة. وإن استطاعت بعض الأسر أن تعيش في واحة عين الفشخة، جنوبي قمران، كما تشهد على ذلك البقايا الأركيولوجيّة وبعض القبور في المدفن الكبير، فقد تأكد الباحثون، تقريبًا، من أن أهل قمران كانوا غير متزوجين.
إن "قاعدة الجماعة" لا تتحدّث أبدًا عن النساء والأولاد. ثم إن أقوال يوسيفوس وبلينوس الأكبر تشهد على أن أهل قمران مارسوا العزوبيّة.
عرفت إقامة الأسيانيّين في قمران ثلاث حقبات رئيسيّة. في حزيران 68، دمّرت الفرقة الرومانيّة العاشرة الموقع قبل أن تصعد إلى أورشليم التي سقطت سنة 70. حينئذ أخفى الأسيانيّون كتبهم في الملاجئ المجاورة قبل أن يبدأوا القتال ويهربوا إلى البرّيّة. بعضهم لجأ إلى مصعدة ومعه بعض الأدراج (أو اللفائف) فمات سنة 73. وقد يكون البعض الآخر انضمّ إلى جماعة يوحنا الإنجيليّ فترك بعض آثاره في تدوين الإنجيل الرابع، ولا سيّمَا في ما يتعلّق بالنور والظلمة، بالكذب والحقّ...

ب- إرتباط الأسيانيّين بمخطوطات قمران
نقدّم اعتبارين إثنين يدلاّن على ارتباط الاسيانيين بمخطوطات قمران. الاعتبار الأول هو موضع إقامة هذه الجماعة حسب بلينوس الأكبر. والاعتبار الثاني هو صورة عن مسيرة قبول الطالبين، في مؤلّفات يوسيفوس، وفي "قاعدة الجماعة" التي اكتُشفت في المغارة الأولى سنة 1947.
حدّد بلينوس موضع الجماعة بين أريحا وعين جدي ("تحت" تعني إلى الجنوب، حسب وجهة تصوير الأماكن). فالواحة الوحيدة بين أريحا وعين جدي هي عين فشخة. والحفريات في قمران قد دلّت على أنه كان هناك موقع منذ منتصف القرن الثاني ق.م. حتى الاحتلال الرومانيٌ -مع انقطاع بسيط-. إن حقبة الإقامة في قمران توافق الحقبة التي فيها يذكر يوسيفوس الأسيانيّين.
ثم، نجد توافقًا بين ما يقوله "نظام الجماعة" وما يقوله يوسيفوس عن الأسيانيّين. فهذه الجماعة لا يمكن أن تكون قد أقامت إلاّ في قمران. والتوافق الأهمّ هو طريقة قبول الطالبين في الجماعة.
وهناك أيضًا المشاركة في الأموال والممتلكات التي يتحدّث عنها فيلون ويوسيفوس كما يتحدّث "نظام الجماعة" فيقول: "وكل المتطوّعين المتعلّقين بحقيقته يحملون كلَّ فهمهم وكلَّ قواهم وكلَّ خيراتهم إلى جماعة الله، لكي ينقّوا فهمهم في حقيقة فرائض الله" (1: 11-12). "والطالب الذي أتمّ سنة في الجماعة يقدّم خيراته ومدخول عمله في يد مراقب المداخيل" (6: 18-20). وهناك العزوبية والعلاقات بالهيكل والأفكار والمعتقدات الدينيّة والاغتسالات المتواترة.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM