الفصل الرابع المزمور 104 ونشيد الفرعون اخيناتون للقرص الشمسي

الفصل الرابع
المزمور 104 ونشيد الفرعون
اخيناتون للقرص الشمسي

عندما نقرأ التوراة ونتعرّف بعض الشيء إلى الادب المصري، نرى التقارب بين الاثنين، مع العلم أن التوراة هي التي غرفت من عالم مصر: على مستوى سفر الامثال، في يشوع بن سيراخ، وفي المزامير. صلاة الملك قبل القتال، وفيها يهتف رعمسيس الثاني: "هل ينسى أب ابنه"، فيذكّرنا بما في مز 98: 27 واش 49: 15. وصلاة مريض يصرخ: "أمدحك فاسمع دعائي؛ أنا بار على الأرض. إذن، لا أستحق ما حصل لي"، فنتذكر مز 17: 3-4؛ 51: 7. ولكننا نتوقف هنا عند مز 104 الذي يبدأ بهذه الكلمات: "باركي يا نفسي الرب. أيها الرب الهي، لقد عظمت جدًا. جلالة وبهاء لبست"، ونقابله بمديح أخيناتون العظيم الذي وُجد مدوّنًا على جدار مدفن "آي" في موقع تل العمارنة، في مصر الوسطى. هو يبدأ بما يلي: "إنك تسطع جميلاً في أفق السماء، يا أتون (القرص الشمسي) الحيّ، يا بدء الحياة"!

1- مديح اخيناتون
أخيناتون (أو: أخناتون) يعني: خادم القرص الشمسي. هو اسم اتخذه أمينوفيس الرابع، وهو فرعون من السلالة الثامنة عشرة (1375-1354 ق.م.). كان أمينوفيس الرابع ابن أمينوفيس الثالث وزوج نفرتيتي. هذا الانسان الضعيف البنية الذي قابلوه بالنسوة، كان من أكبر المتصوّفين في التاريخ، ولا سيّما في ما يتعلّق بالديانة التوحيديّة التي فرضها على البلاد. رفض الديانة التلفيقية في الديانة الرسمية، وأدخل مصر في طريق "المونوتاويّة" أو عبادة الاله الواحد، فسبق الشعب العبراني بأجيال وأجيال. أعلن عناية الشمس الصالحة التي تولّد الحياة كل صباح. وهكذا حلّت ديانة أتون (أو القرص الشمسي) محل ديانة أمون (أو الاله الخفي الذي يصوّرّ بجسم انسان ورأس كبش...).
وقد وصلنا من أخناتون هذا، مديح وُجد في مدفن "آي"، وهو الفرعون الذي خلف توت عنخ مون، خلف أخناتون. يبدو أن هذا المديح للقرص الشمسي قد ألّفه أخناتون نفسه اكرامًا لالهه، حوالي سنة 1350، وذلك بعد أن فرض العبادة الجديدة على مصر، وترك "طيبة" وهياكلها وآلهتها وكهنتها. وتحدّث الشرّاح عن "ثورة مونوتاوية". في الواقع، كانت محاولات عديدة في اتجاه المونوتاويّة قبل هذا الملك. نذكر مديح أمون الذي يعود إلى سنة 1400 تقريبًا. أتون هو "الرب العظيم في الحب... سامع الصلوات". هو "رب الفكر والكلمة"، "ربّ العدالة" والسيادة على العالم.
أما "مديح أخناتون" فهو تمجيد لأعمال الاله- الشمس، أتون القرص الشمسي المشخّص، وتمجيد للخليقة التي يعطيها هذا الإله الحياة. ونلاحظ بعض التأكيدات العقائدية الهامة. الاول: أتون هو فريد: هو الاله الواحد الذي لا يشبهه آخر. الثاني: عمل خلقه وعنايته يشمل الكون: خلق ونوّع الاعراق والالسنة، وأعطى الحياة لكل بلد بضيائه وبالنيل الذي هو الوقت عينه نهر في مصر ومطر على المناطق الجبلية. الثالث: الملك هو ابن الله، وقد خرج من جسمه. وأتون بجماله يسيطر على جميع الشعوب من أجل الملك والملكة نفرتيتي. الرابع: الله حاضر في كل خليقته، ولكنه يظلّ سرّيًا للذين ينيرهم. وهكذا يحافظ هذا المديح، شأنه شأن سائر المدائح الشمسية، على التسامي الالهي.

2- نص المديح
وها نحن نقدّم نصّ المديح، مشيرين إلى التقارب مع سفر المزامير حين تدعو الحاجة.

أ- تقديم اله الكون
"انك تسطع جميلاً (كاملاً) في أفق السماء، يا أتون (القرص الشمسي) الحيّ في بدء الحياة. حين تشرق في الافق الشرقي (أو جبل النور)، تملأ الارض كلها بجمالك (بكمالاتك). أنت جميل. أنت عظيم. أنت تتلألأ عاليًا فوق الارض كلها. أشعّتك تغمر البلاد وكل شيء خلقته. أنت رَع (شمس الصباح). تخضع الشعوب حتى حدودها. تخضعها لابنك، لحبيبك (الملك). أنت بعيد، ولكن أشعتك على الارض. أنت على الوجوه، ونحن لا ندرك مسيرتك".
يشدّد النصّ على كمال الاله وجماله، على نوره الذي يحيط بالكون. يشرق على أرض مصر، بل على الأرض كلها. هذا ما نجده في التوراة. يقول الرب لابراهيم: "بك تتبارك جميع شعوب الارض". هي أرض فلسطين، وهي الارض المسكونة كلّها، ولا سيّما من الفرات إلى النيل. وهذا الاله الحاضر في مليكه وحبيبه، هو الذي يسود على الارض، بل لا نُدركه لأنه الاله المتسامي.

ب- تغيب الشمس فيرتاح البشر ويتحرّر الوحش في البرية
"حين تغيب في الافق الغربي، تكون الارض في الظلمة كما في الموت، فيستقرّ الناس في حجراتهم، وقد غطّوا رؤوسهم، ولا ترى عينٌ عينًا أخرى. اذا سلبهم سارق ما تحت رؤوسهم فإنهم لا ينتبهون. أما السباع فتخرج من حجورها، والثعابين تنسلّ وتلدغ. ويخيّم السكون على الارض لان خالقها استراح في أفقه (الغربي)".
هنا نقرأ في مز 104: 29: "تحجب وجهك فيَفزعون. تقبض أرواحهم فيموتون، وإلى ترابهم يعودون". وفي آ 20-21: "تجعل ظلمة فيكون ليل. فيه تدب جميع وحوش الغاب. تزأر الاشبال للافتراس والتماس طعامها من الله".

ج- الخلق عند شروق الشمس: نشاط البشر، فرح حيوان البرّ والبحر
"وتضيء الارض اذا ما أشرقتَ (انت) من أفقك، وسطعتَ، ايها القرص الشمسي، في النهار. حينذاك تبدّد الظلام وترسل أشعتك. يستيقظ الناس ويقومون على أقدامهم، لأنك أنت الذي تقيمهم فيغتسلون ويلبسون ثيابهم وترتفع أذرعتهم متعبّدين لشروقك، وتباشر الارضُ أعمالها. تفرح الماشية بمروجها، وتزدهر الاشجار والنباتات، وترفرف الطيور خارجة من أوكارها، فتسبّح أجنحتُها بحمدك. وتقفز الحيوانات على أقدامها. وكل طائر حي يقف على رجليه حين تشرق من أجله. تنزل السفن النهر وتصعد، وتنفتح الطرق حين تظهر. تقفز الاسماك أمامك على وجه النهر. وتنفذ أشعتك إلى أعماق البحر".
التقاربات عديدة مع مز 104. نقرأ في آ 22-24: "تشرق الشمس فتنحاز، وفي مآويها تربض. يخرج الانسان إلى عمله وإلى خدمتك حتى المساء. ما أعظم أعمالك يا رب". وفي آ 12: "عليها تسكن طيور السماء وتغرّد من بين الاغصان". وفي آ 25-26: "هذا البحر العظيم الواسع الاطراف. هناك دواب لا عدَّ لها، حيوانات صغار مع كبار. هناك تجري السفن".
ويتتابع هذا المديح: الله ينبوع الحياة، يعطي الحياة للأحياء الذين انتعشوا بنسمة أنفه (مز 104: 29). الله الواحد خلق كل شيء بحكمة، وهو يسهر على كل شيء (مز 104: 24-27؛ 147: 9؛ أي 38: 41). خلق "اتون" النيل على الأرض، كما خلق "نيلاً في السماء" تحمل مياهه الحياة. وخلق ألف شكل وشكل تصدر عن كائنه الخاص، وظلَّ الوحيد. خلق لئلا يبقى متأملاً ذاته، بل ليتأمل خليقته، ولكنه مع ذلك يبقى سرًّا (مز 104: 10 و29؛ 147: 8 و18). وينتهي مديح أخناتون هذا بصلاة الملك الذي هو حبيب الله وابنه ونبيّه: "أنت في قلبي. وما من أحد يعرفك سوى ابنك الذي أخبرتَه بمقاصدك وقدرتك. وُجدت الأرض بيدك لأنك خلقتها. حين تشرق يحيون، وحين تغيب يموتون. أنت في ذاتك الحياة، ولا حياة إلاّ بك".

3- المزمور 104
هذا المزمور هو مديح لله الخالق، وقد رأى فيه الشرّاح تشابهات عديدة مع مديح أخناتون الذي أوردنا مقاطع منه. هناك رسمة واحدة بين النشيد المصري والنشيد التوراتي: تصوير الخلق في وقتين: في الليل والنهار. ولكن للمزمور أصالته. فبعد الكلام عن الله الملك (104: 1-2)، يذكر بناء السماء والأرض (آ 3-9) وعطيّة الماء (آ 10-18)، وتنظيم الأوقات (آ 19-23)، وملء الأرض بالسكان (آ 24-30). وكل هذا ينتهي بإنشاد مجد الرب: "ليكن مجد الرّب إلى الأبد. ليفرح الرّب بأعماله. أرنّم للرّب مدّة حياتي. أشيد لله ما دمت. ليلذّ له تأملي. أنا أفرح بالرّب...باركي يا نفسي الرّب".
نُسب هذا المزمور إلى داود في السبعينية اليونانية وفي الشعبية اللاتينية. أما السريانية البسيطة فقالت:"لداود. حين ذهب ليسجد أمام تابوت العهد مع الكهنة. وهو يعلّمنا الشكر والصلاة. ويشير إلى بداية الخلائق ويبحث في الملائكة". في هذا الخط، زادت بعض المخطوطات:"في خلق العالم"، فشدّدت على العلاقات مع الفصل الأول من سفر التكوين. في اليوم الأول، خلق النور (آ 1-2). في اليوم الثاني، خلق السماء (آ 2-4). وهكذا دواليك. رج آ 21-22، 27-30؛ أما آ 24 فتستعيد القرار الذي نقرأه ست مرّات في تك 1: "ورأى الله أن ذلك حسن".

4- علاقات مز 104 مع مديح أخناتون
نبدأ فنشير إلى أن السياق الجغرافي في مز 104: 16-18 غيره في المديح. والإشارة إلى لاويتان (آ 26) لا مثيل لها في مديح أخناتون. ونسوق الملاحظات التالية:
الأولى: المزمور والنشيد يتمتّعان بمستوى شعري رفيع. هناك تفاصيل مشتركة، وأخرى مختلفة.
الثانية: نكتشف فيهما فكرة دينية واحدة: مديح لعمل الاله الذي يعتني كل يوم بخليقته. الذي يسهر على جميع أشكال الحياة.
الثالثة: ظلّ المديح المصري على مستوى الإله الذي يطعم الخليقة بعنايته، ويحمل إليها الحياة كل يوم بأشعته. أما المزمور فيُدخل هذا العملَ اليومي في سلسلة من التلميحات الواضحة إلى خلق الكون، وإلى نشيد الخلق كما نقرأه في تك 1.
الرابعة: إذا كان أتون (القرص الشمسي) خارجًا من الأرض التي يسود عليها، فالرّب خارج عن مجمل الكون، وهو يتميّز عنه تميّزًا مطلقًا. فالشمس في مز 104 هي جزء من الخلق. إنتُزعت عنها صفة الألوهة. غير أننا نرى الشمس التي هي فاعل الأفعال في آ 19 ب (الشمس عرفت غروبها) وآ 22 (تشرق الشمس).
الخامسة: نتذكّر هنا أن مديح أخناتون للإله أتون ليس فريدًا من نوعه، وقد أشرنا إلى ذلك أعلاه. لهذا نقول إن لا علاقة فقط بين هذه القصيدة المصرية والمزمور 104، بل هي علاقة بين هذا المزمور وتيار ديني عرفته مصر منذ العصور القديمة، فأثّر ولا شك في الأدب البيبلي.
السادسة: ارتبط مديح أتون ومز 104 بالتاريخ. ففي النشيد المصري تُذكر بنوّة فرعون، وفي المزمور يشار إلى الأعداء الذين يضعون البلبلة (آ 35) في خليقة الله. وفي آ 32 حيث يلمس الله الجبال فيجعلها تدخّن، نجد إشارة إلى عهد سيناء.
السابعة: نلاحظ حريّة كبيرة لدى الكاتب الملهم الذي كيّف، وهضم، وأدخل غنى الديانات المجاورة، فصارت جزءًا من تاريخه المقدّس.
الثامنة: ونقول هنا ما قلناه في ما قبل: لم يكن شعب اسرائيل أول من نادى بالمونوتاوية. وفي أي حال، بدأ مسيرته في تعدّد الآلهة مع ابراهيم واسحاق ويعقوب (يش 24: 2). وسوف يمرّ في الهينوتاوية التي تقول بإله يُعبد في شعب ولا ينفي وجود آلهة أخرى. ونحن سوف ننتظر زمن المنفى لتصبح وحدانية الله عقيدة واضحة بشكل خاص في أشعيا الثاني. غير أننا نزيد فكرة هامة تجعل التوراة بعيدة عن هذا التيار المصري. إن أتون يعطي الحياة والصحة والطعام، أما الله فيعطي نفسه، يعطي حياته. هذا ما يقودنا في نهاية المطاف إلى يسوع المسيح الذي سمّى نفسه الماء الحي الذي يجعل من يشرب منه لا يعطش.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM