الفصل الأول وجه الفرعون في الكتاب المقدس

الفصل الأول
وجه الفرعون
في الكتاب المقدس

إذا كانت الأخبار البيبليّة لم تحتفظ لنا باسم الفرعون الذي يتحدّث عنه سفر الخروج، فوجّه الملك المصريّ يبقى وجه سلطة سياسيّة، قوية وقديرة. نودّ أن ننظر إلى هذا الوجه من خلال التاريخ، ونقدّم اعتبارًا حول حدود السلطة الملكية تجاه الله.

1- الفرعون في تاريخ شعب الله
الفرعون لفظة مصرية تعني "البيت الكبير" وتدلّ على القصر. والفرعون لقب يحمله ذاك الذي يملك على مصر. وقد يحصل في بعض المرات أن يتبع هذا اللقب تحديدٌ يقول "ملك مصر". نقرأ في تث 7: 8 عبارة ترد في خطبة موسى لشعبه على هضبة موآب: "فالله، لمحبّته ولمحافظته على اليمين التي حلفها لآبائكم، أخرجكم بيد قديرة وفداكم من دار العبودية، من قبضة فرعون، ملك مصر". ومع ذلك، فعبارة ملك مصر تكفي في ذاتها للحديث عن ذلك الذي يمتلك السلطة العليا على أرض مصر. ومن اللافت أن تكون البيبليا هي التي استعملت بشكل عاديّ لفظة "فرعون" التي لم تُستعمل يومًا كلقب يدلّ على ملك مصر. فنحن لا نجد هذا اللقب أبدًا في البروتوكول الرسميّ لملوك مصر.
وهناك سمة لافتة أخرى. لا يُذكر اسم الفرعون إلاّ مرارًا نادرة في النصوص البيبليّة. وأول اسم لملك مصر في البيبليا هو إسم شيشق الأول (945-924). فهذا الملك أرسل في نهاية حياته، جيشًا إلى أرض كنعان، فأجبر ملك يهوذا على تسليم كنوزه. نقرأ في 1 مل 14: 25-26: "وفي السنة الخامسة للملك رحبعام، صعد شيشق ملك مصر لمحاربة أورشليم. فنهب كل ما في خزائن هيكل الرب وقصر الملك". وسبق أن ذُكر هذا الملك المصري في مجال الحديث عن يربعام الذي ثار على سليمان. "وسعى سليمان إلى قتل يربعام، فقام يربعام وهرب إلى شيشق ملك مصر، حيث أقام حتّى وفاة سليمان" (1 مل 11: 40).
لقد لعب فرعون دورًا هامًا جدًا في تاريخ شعب اسرائيل. وما يدلّ على ذلك هو أن اللفظة ترد أكثر من مئة مرة في سفر الخروج. ففي الأخبار البيبلية، ليس الفرعون شخصًا ثانويًا. إنه يمثّل السلطة السياسيّة لدى شعب كبير. والوجه المرسوم عنه يجعل منه سلطة واثقة بنفسها. هو يفرض رؤيته للأشياء، ولا يودّ الخضوع لمشيئة سوى مشيئته. في هذا الوجه الملوكيّ، تتغلّب الوجهات السلبيّة على الوجهات الايجابيّة. لماذا؟ لأن الأخبار التي تتحدّث عن الخروج قد دُوِّنت بعد الأحداث، بزمن طويل. فتوخّت أن تدلّ القارئ على الحدّ الذي تستطيع السلطة السياسيّة أن تصل إليه حين تقبل بسلطة أعظم منها. بهذه الطريقة حكم الكاتب الحكم القاسي على كل سلطة سياسيّة، بما فيها سلطة الملك في اسرائيل أو في يهوذا.

2- أوامر الفرعون
إذا أردنا أن نكتشف وجه فرعون، نبدأ بقراءة سفر الخروج. ساعة كان نسل يعقوب، أبي الآباء في مصر، دوّن الراوي وما تردّد: "ولكن بني اسرائيل نموا وكثروا وعظموا حتّى امتلأت أرض مصر منهم" (خر 1: 7). فالوعد الذي أعطاه الله للآباء ابراهيم واسحاق ويعقوب قد تحقّق الآن: صار نسلهم شعبًا حقيقيًا. ولا ينقصهم كي يصيروا أمّة سوى أن يقيموا أحرارًا على أرض تُعطى لهم. ولكن ها إن ملكًا جديدًا صعد على عرش مصر، وحدّث شعبه بما يلي: "أنظروا كيف صار بنو إسرائيل أكثر وأعظم منّا. تعالوا نُحكم القبضة عليهم لئلا يكثروا. فإذا وقعت حرب ينضمّون إلى خصومنا ويحاربوننا ويسيطرون على أرضنا" (خر 1: 9-10). هذا الكلمات جعلت شعبين يتعارضان، فما رأت سوى علاقة بين قوتين لا تتحمّل الواحدة الأخرى، وخصوصًا في وقت الحرب. وجاءت الاجراءات الملكية واضحة: إضعاف الشّعب الذي يتكاثر بالعمل الشاق. تشييد المدن للفرعون. إستعباد هؤلاء السكّان وأبقاؤهم تحت نير العبوديّة.
يُقدَّم لنا ملكُ مصر هنا على أنه رجل سياسة مليء بالفطنة والحكمة. ولكن هذا سيكلّف غاليًا للذين يخضعون لأوامره. وهو في الوقت عينه يُقرّ بالواقع الذي سرده الراوي وهو أن بني اسرائيل كثُروا جدًا في مصر. وهكذا أكّد الفرعون بطريقته أن وعد الله للآباء قد تحقّق. نحن هنا أمام مثَل عن السخرية الذي نجد مثله الكثير في البيبليا. فالشخص الذي يعارض الله ومخطّطاته، يقول الحقيقة وكأنه ملهم من الله. وما توقّفت أوامر فرعون عند هذا الحدّ. حين رأى أن القابلتين (تمثّلان كل قابلة. هما اثنتان من أجل الشهادة) فضلّتا الطاعة لله، فتركتا أطفال العبرانيين الذكور على قيد الحياة ولم تقتلاهم (خر 1: 15-21)، حين رأى الفرعون ذلك "أمر جميع شعبه قال: إطرحوا في النهر كل ذكر يُولد لبني اسرائيل وأبقوا على كل انثى" (خر 1: 22). أمرٌ ظالم وكله استبداد. ولكن سوف تتجاوزه امرأة أخرى، هي ابنة فرعون، من أجل طفل سيكون موسى، مخلّص شعبه (خر 2: 1-10). بعد ذلك، وحين كبُر موسى، تدخّل حين رأى أحد المصريين يضرب واحدًا من إخوته. قتل المعتدي وأخفى جثته في الرمل وأجبر على الهرب. "سمع فرعون بهذا الخبر، فحاول أن يقتل موسى" (2: 15).
هكذا حين نقرأ سفر الخروج يصوَّر فرعون كذاك الذي يُعطي أوامر بالقتل، كذاك الذي يريد الموت لعبيده. نحن هنا أيضًا أمام انتقاد خفيّ للسلطة الملكية، لكل سلطة أينما وُجدت.

3- الفرعون وأمر الله
هذا في نظر الفرعون. أما في نظر الله، فالحياة أقوى من الموت. فأعطى أمرًا لموسى: "انطلق إلى فرعون، وأخرج شعبي بني اسرائيل" (خر 3: 10). ولكن تبيّن أن الأمر صعب التنفيذ. فهو يطلب أولاً من موسى أن يعود إلى مصر. وهذا ما فعل. قال لحميه: "دعني أرجع إلى بني قومي في مصر لأرى هل هم أحياء بعد" (خر 4: 18). هنا نفترض أن ملكًا جديدًا اعتلى العرش، غير ذاك الذي عرفه موسى وهرب من وجهه. ولكن الأمر الالهي يطلب من الملك أن يقبل بأن ينطلق الشعب ويترك أرض مصر. والخبر الطويل الذي نقرأه يتركّز على المواجهة بين موسى وفرعون، أو بالأحرى بين إرادة الله التي يتكلّم موسى باسمها، وبين إرادة الفرعون الذي يعاند ويرفض أن يُطلق بني اسرائيل.
والقارىء يشاهد هذه المواجهة التي تجري أمامه في زمنين. الأول، إن نقل أمر الله إلى فرعون في خر 5، كانت نتيجته التشدّد في الأوامر الملكية حول الأشغال الشاقّة المفروضة على بني إسرائيل: ما اكتفى فرعون بأن يطلب من شعب إسرائيل أن يصنعوا حجارة اللبن، بل فرض عليهم أن يلتقطوا القشّ الضروري لصناعة هذه الحجارة. ويشدّد الخبر أيضًا على المعاملات السيّئة التي تلقّاها الشعب. لهذا، يُتّهم الله الذي كان من المفروض أن يخلّص شعبه. غير أن موقف الملك دلّ على تشديد لا مثيل له، وهذا الموقف هو في قلب فشل أمر الله لموسى.
الثاني، على موسى أن يلتقي فرعون ويعلن له الضربة التي ستحلّ بمصر. في الواقع، ستحلّ سلسلة من عشر ضربات قبل أن يفرض الله مشيئته على ملك مصر. وخلال كل هذه الضربات المتتالية (خر 5-11)، يشهد القارىء امتحان القوى لدى الفرعون الذي لا يني يعود عن قراره بأن يُطلق شعب اسرائيل. وخلال اللقاء الأخير، هدّد الفرعون موسى بالقتل (خر 10: 28)، فأحسسنا وكأننا عدنا إلى نقطة الإنطلاق (خر 2: 15). وبالرغم من كل هذه التأجيلات والتسويفات، ستكون الكلمة الأخيرة لله فيخرج الشعب من مصر بعمل باهر. ومع ذلك، فملك مصر لا يستطيع أن يترك شعب اسرائيل يذهب دون أن يفعل شيئًا. فجمع مركباته وخيالته، وانطلق في إثر بني إسرائيل. ولكن العمل العسكري يصطدم هنا أيضًا بمشيئة الله. مرّ الشعب عبر الماء الذي غطّى مركبات الجيش الذي يلاحقهم. بعد هذا الحدث، لم يُعرف كلام عن فرعون إلا في مناسبة تسبيح الله وتمجيده. هذا ما فعله يترو حين التقى بصهره موسى: "تبارك الرّب الذي نجاكم من أيدي المصريين، من يدي فرعون، تبارك الرّب الذي نجّى شعبه من تحت أيدي المصريين" (خر 18: 10).


4- يوسف وأحلام فرعون
إذا توقفنا على مستوى البيبليا، نحسّ بالحاجة للعودة إلى الوراء، لكي نتذكّر خبر يوسف الذي أورده سفر التكوين، وهو خبر نموذجيّ يتدخّل فيه فرعون آخر.
كان يوسف الابن المفضّل ليعقوب أبي الآباء. باعه إخوته إلى المديانيين، فباعه المديانيون بدورهم إلى فوطيفار، في مصر (تك 37: 36). وكان وجود يوسف في بيت هذا الرجل المصري مجلبة للبركة الإلهية. وهكذا صار ليوسف وضع يُحسَد عليه: صار المسؤولَ عن بيت سيّده وأملاكه. غير أن هذا الوضع لن يدوم، لأن امرأة فوطيفار إتّهمت يوسف بأنه حاول أن يضاجعها، فتوصّلت إلى أن تضعه في السجن. وفي السجن تعرّف يوسف إلى موظفَين يعملان لدى الملك: رئيس السقاة ورئيس الخبّازين. كلاهما أخطأا تجاه سيِّدهما ملك مصر. وحلم كل واحد منهما حلمًا، ففسّره يوسف وتحقّق التفسير في التفاصيل: "ردّ الفرعون رئيس السقاة إلى وظيفته ليناول فرعون الكأس، وأما رئيس الخبّازين فعلّقه على خشبة، كما فسّر لهما يوسف" (تك 40: 21-22). ولكن رئيس السقاة نسي يوسف ولم يذكره لفرعون. وهكذا ظلّ يوسف في السجن.
غير أن وضعه تحوّل ساعة حلم الفرعون حلمين وحاول أن يفهمهما. ولكن لم يستطع واحد من حكمائه أن يفسّرهما له. عند ذاك تذكّر رئيس السقاة يوسف وقدرته على تفسير الأحلام. كلّم الفرعون عنه، فخرج يوسف من السجن بناء على دعوة الملك. وفسّر حلمَي فرعون، وقدّم له حلاً به تواجهُ مصرُ سبع سنوات الجوع بعد سنوات الوفر السبع. "فعلى فرعون أن يرى رجلاً فهيمًا حكيمًا يقيمه على أرض مصر" (تك 41: 33). عندئذ أجاب الفرعون يوسف: "أنت تكون وكيلاً على بيتي، وإلى كلمتك ينقاد كلُ شعبي، ولا أكون أعظم منك إلا بالعرش" (تك 41: 10). وانتزع الفرعون الخاتم من يده وجعله في يد يوسف، وألبسه ثياب كتّان وطوّق عنقه بقلادة من ذهب (تك 41: 42). وهكذا صار يوسف، بأمر فرعون، وكيلاً على مصر. وبفضله نجت الأرض من المجاعة، واستطاع إخوته أن يأتوا إليه كي يشتروا القمح.
في هذا الخبر، يبدو الفرعون في وجه جميل. ما تردّد في البحث عن معنى الحلمين. ووثق برجل جاء من السجن وليس بمصريّ. وحين أقرّ بسلطة هذا الرجل، سلّمه وكالة على البلاد. فالتعارض مع فرعون سفر الخروج يبدو لافتًا. إلا أنه يجب أن نشدّد على أن الخبر يُبرز حكمة يوسف الآتية من عند الله. فالرب، إله اسرائيل، هو الذي حمى يوسف ورافقه. هذا الاله هو الذي يقود الأحداث. وما وُجد بين حكماء مصر من استطاع أن يكشف حلمَي فرعون. هذا يدلّ على أن حكمة يوسف هي عطيّة من الله.


5- فرعون في نظر الأنبياء
ونتوغّل في التاريخ البيبلي مع الأنبياء في القرنين الثامن والسابع ق.م. استغاث ملك يهوذا ومستشاروه بمصر من أجل مساعدة حربية ضدّ الأشوريين، ثم ضدّ البابليين.
في نظر أشعيا النبيّ، يُطرح سؤال واحد: في من يجب على ملك يهوذا أن يضع رجاءه؟ فأجاب النبيّ: في إله اسرائيل. أما موظّفو الملك فجعلوا رجاءهم في دبلوماسية ناشطة يتبرّأ منها أشعيا. ففي أش 3: 1-5، تُشجب سياسة معاهدة تعارض مشيئة الله. فضّل المسؤولون في مملكة يهوذا الاستناد إلى "قلعة فرعون"، لا إلى الله، لهذا سيخيب أملُهم من شعب لا ينفعهم ولا يقدر أن يعينهم. "قال الربّ: إنطلقوا نازلين إلى مصر وما سألوا رأيي، ليتحصَّنوا بحصن فرعون ويحتموا بظل مصر. لكن حصن فرعون يكون لهم خزيًا، والاحتماء بظلّ مصر عارًا".
هذا اليقين نجده عند تلاميذ النبيّ. لهذا نقرأ هذا الحكم القاسي (أش 19: 11) الذي يقول ولا يتردّد: "ما أغبى أمراء صوعن، وما أسخف مشورة حكماء فرعون: كيف يجرؤون أن يقولوا لفرعون: نحن بنو الحكماء وبنو الملوك الأقدمين"! أجل لم يعد من حكماء في مصر رغم شهرة الحكمة في هذه البلاد. ونقرأ مثلاً آخر عن حكم نبوي. أعلن مرسل الملك الأشوري إلى الملك حزقيا في أورشليم سنة 701: "ها قد وضعتَ ثقتك على هذه القصبة المرضوضة (تستند إليها)، على مصر التي تغرز في كفّ ذاك الذي يستند إليها وتثقبه: ذاك هو فرعون، ملك مصر، لجميع الذين يضعون فيه ثقتهم" (أش 36: 6). إذن، من طلب الاستناد إلى فرعون، يبدو في نظر النبي، عائشًا في وهم سياسيّ.
وبعد سنوات عديدة، سنة 588، ظلّ حيًا الحلم بعون يأتي من مصر. أرسل الملك صدقيا يسأل إرميا النبيّ، فأجابه: "إن جيش فرعون الذي ترك مصر لكي يغيثك، سيعود أدراجه ويرجع إلى قواعده في مصر" (إر 37: 7). وبعد سقوط أورشليم سنة 587، سيُفرض على إرميا أن ينزل إلى مصر ويعلن اجتياح أرضها (إر 43). فإن نبوخذ نصر، ملك بابل، سيهاجم الفرعون وجميع الذين يلجأون إليه (إر 46: 25).
وقدّم حزقيال الذي عاصر إرميا وشهد الأحداث عينها من بابلونية، تعليمًا مشابهًا: هو أيضًا شجب اتكال الملك صدقيا على الفرعون وجيشه (حز 17: 17). وقال حزقيال أقوالاً قاسية ضد فرعون لأنه المسؤول السياسيّ في أرضه. "هو التمساح العظيم الرابض في وسط روافد النيل" (حز 29: 3). وفي حز 30: 20-26، قال حزقيال قولاً يعود إلى سنة 587، فيبدأ هكذا: "يا ابن البشر، كسرتْ ذراع فرعون ملك مصر، فما صدّها أحد ولا ضمّدها أحد حتى تُجبَر وتقبض السيف". إنّ صورة اليد المكسورة التي لا تستطيع أن تمسك السيف، تدلّ على أنّ القول يعني نهاية قدرة مصر العسكريّة.
في سفر الخروج، رأت الأخبار حدود السلطة الملكية تجاه الله. ولكنّها قدّمت لنا نظرة ناقدة ذهبت أبعد من اللحظة التاريخيّة فتجاوزت الزمان. في هذا الخط جاء كلام الأنبياء الذين نظروا إلى التاريخ بمنظار الله.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM