الفصل الرابع عشر الكهنوت في أدب قمران ونصوص أخرى

الفصل الرابع عشر
الكهنوت في أدب قمران ونصوص أخرى

1 - قمران
إن تاريخ جماعة قمران يرتبط بتاريخ الكهنوت. فسواء تحدّثنا عن أصل حزب "أبناء صادوق" أو عن تنظيمه أو عن فكره، تواجهنا مسألةُ الكهنوت.
أ- أصل جماعة قمران والكهنوت
ما زال الخلاف قائمًا حول التاريخ الذي فيه تأسّس الحزب الديني الذي جاء يقيم في قمران. ما هو معروف هو أن الإقامة على شاطئ البحر الميت لم تتمّ قبل النصف الثاني من القرن الثاني ق.م. ولكن لا شيء يبرهن على أن القطيعة التي قادت إلى تكوين الحزب، لم تتمّ قبل ذلك الوقت. في أي حال، لا نستطيع أن نعود إلى ما قبل يوناتان، وإن عاد بعضهم إلى منلاوس، وألكيمس. سمِّي يوناتان عظيم كهنة سنة 152 بفم الاسكندر بالاس، فأخذ بالكلندار القمريّ الشمسيّ كما في العالم الهلنستي، وتخلّى عن الكلندار الليتورجي التقليديّ. وجمع ألقاب عظيم الكهنة والقائد والحاكم. وهذا ما كان سبب استياء في بعض الاوساط الكهنوتيّة. هل كان هو الكاهن المنافق (أو الشرير) الذي وقف بوجهه معلّم البرّ؟ ولكن سمعان ويوحنا هركانس يمكن أن يكونا أفضل منه ذاك الكاهن المنافق. ومهما يكن من أمر، نلاحظ أهمية وجه الكاهن المنافق ومعلّم البرّ في بداية هذا الحزب وتكوينه. وهكذا تغرز الجماعة جذورها في أزمة أثّرت تأثيرًا عميقًا في المحيط الكهنوتي ساعة كانت البلاد تدخل في الحضارة الهلينيّة.
هناك فرضيّة تقول بأن كتاب نظام الجماعة هو نتيجة إضافات متلاحقة على نواة أولى. فنحن نجد في هذه النواة آثار سيطرة الكهنوت ساعة تكوين المجتمع. فإن 8: 1 يعلن أنه "حسب برنامج الجماعة يكون اثنا عشر رجلاً وثلاثة كهنة، كاملون في كل وحي...". في الأصل، هناك مجموعة بأكثريّة كهنوتيّة مع دور مركزيّ للكهنة: "وحدهم أبناء هارون بحكمون على مستوى الحقّ والخير، وبحسب رأيهم تخرج القرعة لكل ترتيب يخصّ أهل الجماعة والخيرات" (9: 7- 7). في الأصل، صوِّر الحزبُ كجماعة طاهرة، كجماعة هيكل حيث يُحتفل بشعائر العبادة التي ترضي الله، ساعة كان الكاهن المنافق يواصل في أورشليم عبادته اللاشرعيّة. وانتظروا "مجيء النبي ومسيحَي هارون واسرائيل" (9: 101). هاتان المسيحانيتان تدلاّن على مقاومة عنيدة لتجميع السلطتين الدينيّة والسياسيّة في يد الكاهن الأعظم.
وعرفت الجماعة القمرانيّة على مدّ تاريخها تطوّرًا في نظمها. شارك في تدبير الجماعة أشخاصٌ غير الكهنة (ف 5). ويدعو "النظام" أعضاء الجماعة لأن يسلّموا نفوسهم "إلى قرار أبناء صادوق، الكهنة الحارسين للعهد، وإلى قرار مجلس رجال الجماعة" (5: 2- 3). ولكن يبقى أن الجماعة كلها ظلّت تعيش من أصولها المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بأزمة الكهنوت. وأن الكهنة الموجودين فيها نعموا دومًا بسلطة اعترف بها الجميع.
ب- نصوص حول الكهنوت
أولاً: منحولات العهد القديم
هناك وصيّة لاوي الآرامية أو منحول لاوي. وُجد النصّ في المغارتين الأولى والرابعة من مغاور قمران، وقد دُرس في الفصل السابق. هو يتجذّر في الأوساط اللاويّة المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالهيكل. وقد يعود إلى سنة 200 أو 150 ق م.
ووُجد في قمران كتاب اليوبيلات في أجزاء نقرأها في اثني عشر مخطوطًا. هذا ما يدلّ على علاقة بين هذا الكتاب وجماعة قمران. ومهما يكن من الأصل القمراني لهذا الكتاب، نستطيع القول إنه شاهد (جاء بعد وصيّة لاوي الآراميّة) على تيار كهنوتي ورعيّ تركّز بشدّة على طهارة الكهنوت وعظمته، فكان من ثمار هذا التركيز تكوين حزب دينيّ في قمران. والكلندار (364 يومًا) الذي نجده في يوب، هو الذي أقرّ به قمران كالذي يستطيع وحده أن ينظّم حياة ليتورجيّة ودينيّة ترضي الله.
والنصوص حول ملكيصادق (ومنها "رؤى عمرام") تدلّ على أن ملكيصادق احتلّ مكانه هامة في اللاهوت القمرانيّ. فقد صوِّر مثل كائن سماوي ومخلّص اسكاتولوجيّ بعيد عن الصورة الكهنوتيّة التي نجدها في تك 14: 18- 20 (ما عدا منحول التكوين حيث يقال عنه في 22: 15 "كاهن الله العليّ"). هذه النصوص عن ملكيصادق تساعدنا على التعرّف إلى التوسّعات التي عرفها هذا الوجه في الحقبة السابقة لمجيء المسيحيّة. ونلاحظ أن صاحب الرسالة إلى العبرانيين لم يواصل الحديث عن الوجه "الملائكي" لملكيصادق، بل بحث عن مدلول سرّ وجهه الكهنوتي كما في تك 14.
ثانيًا: الأدب الاسياني
نتوقّف بشكل خاص عند النصوص المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بموضوع الكهنوت.
. وثيقة صادوق أو وثيقة دمشق
يحتلّ فيها معلّم البرّ مكانة كبيرة. كان منظّمَ هذا الحزب الديني، فمات ساعة دوّنت وثص. قال عنه أدوار كوتنيه: كاهن "ابن صادوق"، هذا ما يفترض الأهميّة المعطاة "لبيت هارون" "ولأبناء صادوق" في وثص. بشّر بالعودة إلى شريعة موسى (15: 9؛ 16: 1- 5)، وكوّن تلاميذه في الممارسة الدقيقة (4: 8). وهكذا أقام "العهد الجديد". تلقّى ألقابًا لها معناها: "المعلّم" (م ح و ق ق). "دارس الشريعة" (دورش. هـ ت و ر ه، 6: 7). به حفرت "بئر المياه الحيّة" حياة الشريعة (3: 16؛ 6: 3). فقد كشف "الخفيّات حيث ضلّ اسرائيل كله: السبوت، الأعياد المجيدة... طرق الله الحقيقيّة" (3: 13- 15). وعارض بشكل خاص تبديل الكلندار، وفرض على أخصّائه الأمانة للكلندار التقليدي، الذي هو الشرط الذي لا غنى له لشرعيّة الكهنوت (6: 18- 19؛ 16: 2- 4؛ 11: 22- 12؛ رج نج 10: 8). كان رجل العناية (6: 8)، فاستحقّ لقب "معلّم البرّ" (1: 11)، "معلّم الجماعة" (20: 1- 14). بنى الله بواسطته "بيتًا زمنيًا في اسرائيل" (3: 19)". لقد تمّت القطيعة مع كهنوت أورشليم الذي لم يعرف أن يميّز الطاهر من النجس، الذي ترك المعبد ينجّس (4: 17- 18؛ 6: 15- 17؛ 8: 5؛ 9: 17- 18؛ 11: 18- 21؛ 12: 19- 20). ولكن هذا الحزب لم يتخلّ عن مبدأ الذبائح.
في القوانين التي تشكّل القسم الثاني من وثص، يحدَّد دورُ الكهنة وصلاحياتّهم. نلاحظ أولاً: اختيار قضاة الجماعة ("أربعة من قبيلة لاوي وهارون، وستة من اسرائيل"، 10: 4- 10). ثانيًا: دور الكهنة في الجماعة المحليّة (13: 2- 7). ثالثًا: الوظائف في الجماعة المقسومة أربع فرق، ولاسيمّا "الكاهن الموكّل على رأس الكثيرين" (14: 13- 12).
لا نتوقّف عند طبيعة المسيحانيّة في وثص. بل نشدّد على القول بأن هذه الوثيقة لم تجعل من معلم البرّ "شخصًا مسيحانيًا" بل اعتبرته "النبي" السابق (20: 1؛ ق نج 9: 11).
. ملحق نظام الجماعة
اهتمّ الكاتب بأن يحافظ في كل شيء على أولويّة الكهنة، ولا سيمّا الذين ينتمون إلى السلالة الصادوقيّة. وفي المقطع حول اللاويين (1: 22- 25) نلاحظ أن "بني لاوي يقفون. كل في مكانه، بإمرة أبناء هارون ليلعبوا دورًا ثانويًا". وإذا توقّفنا عند التراتبيّة، نلاحظ أن "الكاهن يأتي على رؤساء كل جماعة اسرائيل، ثم إخوته كهنة هارون" (2: 12- 13). وبعد ذلك، يأتي ممسوح اسرائيل ورؤساء قبائل اسرائيل. وأخيرًا، في الوليمة الاسكاتولوجيّة التي تختتم منج نقرأ: "لا أحد يمدّ يده إلى بواكير الخبز والخمر قبل الكاهن". فممسوح اسرائيل لا يمد يده إلى الخبز إلاّ بعد الكاهن (2: 18- 20).
. مجموعة المباركات
تلفَ المخطوطُ فضاع جزء من مضمونه. هو يفترض مباركة لعظيم الكهنة (1: 21- 3: 21). يبدو أننا نستطيع أن نميّز عدّة مباركات. الأولى تتوجّه إلى المؤمنين. تلك التي تصل إلى 3: 21 تتوجّه إلى القائد الأول للكهنة. والتي تبدأ في 3: 22 تتوجّه إلى الكهنة الصادوقيين. والتي نقرأها في 5: 20- 29 تتوجّه إلى أمير الجماعة، مكرّس اسرائيل. لا نعرف إن كانت هناك مباركات أخرى للكهنة غير الصادوقيين، للاويين... مهما يكن من أمر، هذه المباركات تعكس رؤية "تراتبيّة" داخل الكهنوت، وتعلّقًا أكيدًا بسلالة صادوق.
. الزهيرات والشواهد
تلفت "الزهيراتُ" انتباهنا إلى المكانة المعطاة لأصل داود. ينطلق النص من 1صم 7: 11- 14 (المغارة الرابعة، زهيرات 1: 10- 13) فينبئ بأن أصل داود يقوم مع "دارس الشريعة". هذا الأخير هو عظيم الكهنة الذي كان محرّرًا سياسيًا وموجّهًا دينيًا. ونستطيع أن نذكر في هذا المجال المغارة الرابعة (161: 17- 24) حيث المسيح الملكي يحيط به الكهنة فيستشيرهم ليتّخذ قراراته. أما "الشواهد" فتنطلق من سلسلة من الإيرادات الكتابيّة التي تضمّ مقاطع من تث إلى مقاطع من عد (تث 5: 28- 29؛ 18: 18- 19؛ عد 24: 15- 17؛ تث 33: 8- 11) لتعبّر عن الرجاء بمجيء نبيّ يأتي بعد موسى، بمسيح ملك ومسيح كاهن.
. نظام الحرب
ما يميّز هذا الكتاب هو أنه يتضمّن إيرادات عديدة من الكتاب وتلميحات إلى النصوص. فما يقال فيه عن الكهنوت والطهارة ودورها، يستقيه الكاتب من التوراة ويورد نصوصها بشكل واضح.
في حرب أبناء النور ضدّ حرب أبناء الظلمة، يأخذ الكهنة المواقع المحدّدة لهم. وخلال الإعداد للحرب يكون "قوّاد الكهنة اثني عشر بعد عظيم الكهنة وثانيه، في خدمة دائمة أمام الله" (2: 1- 2). هناك 26 رئيس فرقة لا 24 كما في 1أخ 24: 3- 19. واللاويون أيضًا لهم 12 رئيسًا، ويقسمون فرقًا مع رئيس لكل فرقة.
ويصوَّر بالتفصيل دورُ الكهنة في قيادة العمليّات العسكريّة (7: 9ي). لباسهم المصوّر على اساس تك 41: 42؛ لا 16: 4؛ خر 39: 28- 29؛ 26: 1 (أو 36: 8) هو لباس حرب لا يسمح لهم بالدخول إلى المعبد. يشارك الكهنة واللاويوّن في القتال، وينفّذون العمليّات المصوّرة بدقة والمنظّمة على النفخ بالأبواق. يُلقي الكاهنُ الرئيس خطبًا ليحثّهم على البطولة (10: 1ي)، ويقرأ صلاة زمن الحرب يحيط به إخوته الكهنة واللاويون وجميع أناس النظام (15: 4ي). وفي ساعة الشكر بعد القتال، يتوالى الكاهن الرئيس والكهنة واللاويون وأناس النظام وأمير الحرب وقوّاد صفوف المجنّدين (19: 11- 12). إذن نرى أن دور الكهنة أساسيّ في هذا الكتاب. وقالت أني جوبير: "تسير كل الحرب حسب ليتورجيا حقيقيّة حدّدت مسبقًا... هذه النظرة الكهنوتيّة إلى الحرب المقدسة تمثّل تضخيمًا كبيرًا بالنسبة إلى النصوص البيبليّة التي تُبرز دور الكهنة في القتال: تحريض الكاهن في تث 20: 2؛ أبواق الكهنة في 2أخ 13: 12 أو يش 6 (إضافات كهنوتيّة على الاستيلاء على أريحا).
ونشير أخيرًا إلى أن مجمل نظام الحرب يشدّد كثيرًا على مسائل الطهارة والنجاسة بحسب الشريعة (7: 2- 6؛ 9: 8-10؛ 41: 2- 3) مع استناد إلى الكتاب المقدس.
. درج الهيكل
في مجمل السلوكيات (هلكوت) المعروضة، في التصوير الدقيق للأعياد والذبائح، يلامس "الدرج" مسألة الكهنوت، وقواعد الطهارة، والوظائف والمهمّات والحقوق. من المعلوم أن هذا الكتاب يبدِّل تبديلاً جوهريًا في نصوص البنتاتوكس (= الأسفار الخمسة) فيضيف أو يلغي أو ينسّق. أمّا في ما يخصّ موضوعنا فهو يمنح اللاويين وضعًا أرفع من العادة (21: 1- 22: 12؛ 23: 9- 24: 11؛ 29: 12- 16؛ 40: 14؛ 44: 3- 14). فاللاويون هم الذين يصنعون الذبيحة في العبادة العادية: "يذبح بنو لاوي الضحايا، ويرش الكهنة بنو هارون الدم على المذبح من كل جهة" (23: 4- 5). ففي نهاية حقبة الهيكل الثاني، كان الكهنة هم الذين ينحرون الضحايا للذبيحة. واذ عيَّن "الدرجُ" للاويين وظيفة كهنوتيّة، جدّد. وجدّد أيضًا حين منحهم كتف الضحيّة المذبوحة. الكهنة "يقتطعون من الكباش والحملان ليهوه: الفخذ الأيمن، صدر الاقتطاع كحصّة أولى، الرجل الأماميّة والوجه والكرش. هذا يكون حصّة الكهنة حسب القاعدة. ويُعطى للاويين الكتف" (22: 8- 10؛ رج 11: 7). راح "الدرج" هنا أبعد من التوراة التي تفرض حصّة للاويين ولا تحدّد (تث 18: 1؛ 2أخ 31: 4؛ نح 12: 44). في درج الهيكل رُفع اللاويون إلى مرتبة تفصلهم عن العوام بعد أن عيِّنت لهم واجبات عباديّة كان يقوم بها الكهنة حصرًا حتى ذلك الوقت.
2- مزامير سليمان
يعود هذا الكتاب إلى سنة 80- 40 ق م، وهو يرتبط بأحداث طبعت بطابعها نهاية الحقبة الحشمونية مع وصول الرومان إلى فلسطين. يتّفق الشرّاح على القول بأنه وُلد في محيط فريّسي.
أمّا في ما يخصّ الكهنوت، فنلاحظ الاهتمام الحار بالهيكل وشعائر العبادة. فالكاتب (أو الكتّاب) يدلّ على عداء كبير تجاه السلالة الحشمونيّة لأنها قادت البلاد إلى انحطاط ديني وأخلاقي، كما إلى خسارة الاستقلال بسبب تدخّل الرومان. في هذا الأطار نحدّد الانجذاب العميق بالقدسيّات والهيكل. فيلاحظ مز سل 2: 20 أن الأمّة المقدسة قد داستها الأمم الوثنية، أن الهيكل نجّس وديس بالنعال. طالب بنهاية كل كفر وكل تهامل مع الشريعة على أرض اسرائيل، وذلك من قبل اليهود كما من قبل الغرباء، فافترض في نظرته ضرورة كهنوت مقدَّس ومعبد طاهر.
وتركّز الرجاء المسيحاني كله على الوجه الملكي. انتظروا من المسيح أن يطهّر أرض اسرائيل من الأشرار (17: 27). يصير رئيس الأمم التي تخدم تحت نيره (17: 32- 39). لا يُذكر في هذا الكتاب وجه مسيحاني من الخط الكهنوتي. وهكذا نكون على طرف نقيض مع الادب القمراني.
3- وصيّة موسى
النسخة اللاتينيّة التي بقيت لنا من وصيّة موسى رجعت إلى ترجمة يونانيّة لأصل عبراني أو أراميّ. هي أجزاء، لا نصّ كامل. فلا تعطينا إلاّ لمحة عن مجمل الكتاب. تبدو بشكل خطبة (بشكل وصيّة) موسى الذي كلّف يشوع بالشعب، وتنبأ له بالتاريخ كله. يتوقّف أفق الكاتب التاريخيّ مع تدخّل فاروس (4 ق م) الذي يسميّه "ذاك الذي يحرق جزءًا من الهيكل ويصلب عددًا كبيرًا منهم" (6: 9). ويتنبّأ الكاتب عن أبناء هيرودس "الذين يكون حكمهم أقصر من حكم أبيهم" (6: 7). ولكن الوقائع ستكذّب هذه النبوءة، لأن فيلبس حكم 38 سنة وانتيباس 23 سنة. إذن، يبدو أن الكاتب لم يصل إلى نهاية حكمهما. لهذا، يحدَّد زمنُ تدوين هذا الكتاب في السنوات التي تلت عزل أرخيلاوس (6ب م).
كان الكهنوتُ صاحبُ الاتجاه الهليني الذي سيطر في الحقبة السلوقية، موضعَ انتقاد عنيف. سيقترف اليهود الإثم، ويستسلمون إلى عبادة الأوثان، ويدنَّس مسكنُ الرب. "لن يكون كهنتهم كهنة، بل عبيدًا أبناء عبيد" (5: 5). ولم يوفّر الكاتب السلالة الحشمونيّة: سيخرج ملوك يسمّون نفوسهم "كهنة الله العلي" ويقترفون الكفر في قدس الأقداس. "والملك الوقح الذي يخلفهم والذي لا يكون من نسل كهنوتيّ" هو هيرودس. ويحدّد النص في موقع آخر طول حكمه: 34سنة (6: 6). أما حريق "قسم من الهيكل وصلب العديدين" فيرتبط بتدخّل فاروس بعد موت هيرودس، سنة 4 ق م.
هناك من ظنّ أن ف 8- 9 نُقلا من موضعهما. ولكن ليس الأمر بواضح، وإن عادا إلى الحقبة المكابيّة. فقد يكون الكاتب استند إلى نبوءات حول الشؤم المقبل، إلى مواد تصويريّة أخذها من الأدب المكابي. ومهما يكن من أمر، نلاحظ في ما يخصّ موضوعنا، أن "تاكسو" الذي يدفع أبناءه إلى "الموت على أن يتجاوزوا وصايا ربّ الأرباب" هو رجل من قبيلة لاوي (9: 1- 7).
4- فيلون المزعوم والعاديات البيبليّة
لا يتفّق الشرّاح على الأهميّة التي يعطيها فيلون المزعوم للهيكل وشعائر العبادة. لخصّ شارل بيرو مختلف المواقف. بعضهم يشدّد على عدم اهتمام هذا الكتاب بالهيكل والذبائح، وهذا يتيح لهم أن ينسبوه إلى وسط اسياني. ولاحظ آخرون غياب طقس الحمل الفصحيّ. وقالت فئة ثالثة باهتمام العاديات البيبليّة بالكهنة والعبادة والهيكل. وقالت آني جوبير: "إن اكتشافات قمران تبرز السمة الكهنوتيّة التي نجدها في العاديات البيبليّة وذلك مع وفرة لائحة الأنساب والمكانة المحفوظة لكهنوت فنحاس. فالدور المعطى لصموئيل بأن يوزّع النور لشعبه وللأمم (51: 4- 7) يدلّ على موضوع الكاهن النور في قمران وفي وصيّة لاوي. وإن كان كتاب "العاديّات" توقّف عند شاول، فهذا يدلّ على الاهتمام بالمسيح الداوديّ، ساعة كان صموئيل يستطيع أن يلعب دور السابق والكاهن والنبي". ولكن تساءلت جوبير نفسها: "كيف أن هذا الكتاب ذات الاتجاه اللاوي لا يهتمّ إلا قليلاً بالهيكل"؟ ورأى آخرون دور الكهنة فاعتبروا الكتاب اسيانيًا.
يجب أن نلاحظ أن هذا الكتاب يهتم بأواني العبادة والملابس الكهنوتيّة، ويبيّن أن موسى صنعها بأمر من الله. "اهتمّ بكل لباس الكهنة، وبالحزام أيضًا والقميص، وبالتاج وصفيحة الذهب ثم بالإكليل المقدّس. وقدّسَ الزيت لمسحة الكهنة كما قدّسَ الكهنة أنفسهم" (13: 21). لا نجد في "العاديات" انتقادًا للهيكل ولا للذبائح وقيمتها. لكنه يندّد بالكهنة العاجزين "الذي نجّسوا المعبد" (53: 9) على مثال "ابني عالي اللذين لم يسلكا طرق أبيهما" 52: 1)، وهو الذي قال لهما: "إذا سلكتما الطريق المعاكس وما توقفتما عن أعمالكما الشريرة، فأنتما تخسران: يصبح كهنوتكما كلا شيء، ويُحسب تقديسكما وكأنه ما كان". ويقال حينئذ: "هل أفرخت عصا هارون باطلاً"؟ أو: "ما إن وُلدت زهرتها حتى نزلت إلى العدم" (52: 2)؟
ويُذكر هارون في 9: 9؛ 12: 2- 3؛ 17: 2؛ 20: 8؛ 22: 9؛ 51: 7؛ 53: 9؛ 61: 5.
ويشدّد الكاتب على أهميّة معبد شيلو مع حضور ألعازر بن هارون الكاهن (17: 8- 9). ففنحاس بن ألعازر الذي مُسح كاهنًا في شيلو، كان له هو أيضًا موضعٌ مختار (51: 2). ويتحدّث النصّ طويلاً عنه. وسيهيِّئ الرب له مكانًا في "دَنابن على الجبل": "أسكن فيه عددًا كبيرًا من السنين. وأنا أعطي أمرًا لنسري فيطعمك حيث أنت: لن تنزل إلى البشر إلى أن يأتي الزمن الذي فيه تحتمل المحنة في الزمن المحدّد. حينئذ تُغلق السماء. وبكلمة من فمي تُفتح. ثم ترتفع أنت إلى الموضع الذي إليه ارتفع أباؤك. وتبقى هناك إلى أن أتذكّر العالم. حينئذ آتي بك وتذوق ما هو من أمر الموت" (48: 1). عرف فنحاسَ قنازُ والأنبياء كذلك الذي له سلطان الكلام. "تكلّم يا فنحاس. فهل لأحد أسبقيّة الكلمة على الكاهن الذي يحفظ وصايا الربّ إلهنا، ولا سيمّا حين تخرج من فمه الحقيقة ومن قلبه نور ساطع" (18: 3)؟
تُذكر الخيمة، ويُذكر بشكل خاص معبد شيلو، "المركز الوحيد الذي فيه سُمح بالعبادة قبل بناء الهيكل" (كما قال شارل بيرو). ولكن هيكل أورشليم الذي لم يكن بُني بعدُ حين توقّف الخبر، ليس موضوع اهتمام. لا تُستعمل لفظةُ هيكل سوى مرّتين: مرة عن هيكل عالي (53: 2). ومرّة عن هيكل داجون (55: 3). هذا لا يعني بالضرورة أن "العاديات" دونّت بعد سنة 70 ب م. فلو أن الهيكل كان مدّمرًا، لكان ذُكر كثيرًا، لأن الناس يتكلّمون أكثر ما يتكلّمون عن الغائب . وهذا الامر صحيح بالنسبة إلى رؤيا عزرا ورؤيا باروك مع العلم بأن 2 باروك يرخي الضباب على الهيكل المقبل والعبادة الاسكاتولوجيّة، وأن 4 عزرا لا يهتمّ كثيرًا بإعادة شعائر العبادة في نهاية الأزمنة. في الواقع، لا يلفت الهيكل وشعائر العبادة، اهتمام المصلّين في المجامع. إذن نستطيع القول إن الذين يؤمّون المجامع لا يكنّون بغضًا خاصًا لكهنة الهيكل. ولكن الانتباه يتوجّه نحو الشريعة لا نحو الطريقة التي بها تقدَّم الذبائح.
ويتّفق الشرّاح بشكل عام على القول بأن الاسكاتولوجيا عند فيلون المزعوم تتركّز على الله. فلا مسيح بشريًا. لا شكّ في أن سمات من النمط المسيحي تظهر في وجه قناز (21: 5)، وداود في علاقته مع مسيح الربّ (53: 4)، وصموئيل الكاهن والنبيّ الذي يهيئّ نور الأمم: "موسى وهارون هما بين كهنته وصموئيل في وسطهم. ها قد تمّت الكلمة، والنبوءة حصلت، ويكون الأمر هكذا إلى أن يُعطى القرنُ لمسيحه، وتنضمّ القوّة إلى عروش ملكه. ليقف ابني هنا ليخدمه إلى أن يأتي نور هذه الأمّة" (51: 6). هي حنة (أم صموئيل) تتكلّم، ونور الأمم يعني داود. ولكن يبقى أن صموئيل ليس المسيح، لا هو ولا سائر الوجوه التي يذكرها الكتاب فالله وحده هو الذي يعطي خلاصه.
5- رؤيا باروك ورؤيا عزرا
يعود هذان الكتابان إلى ما بعد سنة 70، لأنهما يعنيان دمار الهيكل والمدينة المقدسة. ماذا يجب أن يفعل الشعب بعد أن زال الهيكل الذي كان بشعائر عبادته في قلب الديانة اليهوديّة؟ وتعامل الكتابان مع الأزمنة كل بطريقته. فالألم الذي سبّبه دمار أورشليم، قد أحس به صاحب باروك وصاحب عزرا. فإن 4 عز لا يتحدّث إلا قليلاً عن الهيكل والعبادة مع أن أورشليم المشخّصة في سمات امرأة فقدت ابنها الوحيد، تحتل فيها مكانًا هامًا في الكتاب (9: 38-10: 55). في 2 با كانت نهاية الهيكل سندًا للبرهان ودفعًا. أما في 4 عز فهي واقع لا يضع له حدًا إلاّ الدهرُ المسيحاني. ففي نظر رؤيا باروك، سبب سقوط أورشليم ليس الأعداء بل الله الذي يوجّه التاريخ. نزل الملائكة وأشعلوا النار، ونزل واحد منهم على قدس الأقداس ليحمل "الحجاب والافود المقدّس والتكفير ولوحي الوصايا وملابس الكهنة المقدسة ومذبح البخور والحجارة الثمينة الثمانية والأربعين التي يلبسها الكاهن وكل أواني الخيمة المقدسة" (6: 5؛ رج80: 2). كل هذه الأواني سوف تُحفظ إلى نهاية الأزمنة، وهكذا يحلّ تدبيرُ إرادة الله مركِّزًا على الشريعة، محلّ تدبير مركّز على الهيكل والذبائح . وهذا التبدّل في التدبير يرتبط بخطيئة البشر، ولاسيمّا الكهنة منهم . ويعلن الرثاءُ العظيم: "وأما أنتم أيُّها الكهنة، فخذوا مفاتيح المعبد وارموها نحو أعالي السماء وسلّموها إلى الرب وقولوا: حامِ أنت عن مسكنك، فقد وجدنا وكلاء كذبة" (10: 18).
اهتمت هذه الرؤيا بالتشديد على أهميّة الشريعة. أما إعلان الأزمنة المسيحانيّة فلا تشكّل نقطة جوهريّة، وإن احتلّت حيّزًا هامًا. اسكاتولوجية هذه الرؤيا هي من الخط الفريسي. ومسيحانيتها لا تحمل شيئًا من الخط الكهنوتي. في هذا الإطار، ماذا يكون من أمر أورشليم والهيكل؟ لا شك في أن المدينة المقدسة تتجاوز تحقيقها الملموس والأرضي. هي توجد كنمط أولي (4: 1- 16) وتحمل مستقبلاً اسكاتولوجيًا. ولكننا لا نعرف شيئًا عن الهيكل وتقادمه ومحرقاته. لا يقال شيء عن دوره في المستقبل.
أما في رؤيا عزرا فلا يُذكر الهيكل مرارًا. كان باروك في أورشليم. أما عزرا ففي بابلونية (3: 1). ودمار المدينة والهيكل هو حدث من الماضي. هكذا يعتبره الكاتب. فالمقاطع قليلة التي تتحدّث عن دمار الهيكل (3: 24؛ 7: 108؛ 10: 21؛ 10: 45- 46؛ 12: 48). واهتمت رؤيا عزرا بإعادة بناء أورشليم الجديدة. سيكون موضعًا مباركًا وجهازًا أساسيًا في الملكوت المسيحاني. ولكن الكاتب لايهتمّ بعودة شعائر العبادة. ومسيحانية عزرا ليست مسيحانيّة كهنوتيّة. وما زال الجدال حول تفسير "المسيح المائت" (7: 29) الذي يمكن أن يكون عمل يد مسيحيّة. ولكن هناك خلافًا. يبقى أن هذه المسيحانيّة ظلّت في خط مسيحانيّة من النمط الفريسي والوطنيّ المتطرّف، وأنها تستعمل صورة المسيح الملكي وابن داود (12: 32؛ رج 13: 12- 36). والتعليم الذي نجده هنا يشدّد على تحرّر نهائيّ يكون نعمة من الله. ولكنه يبقى مرتبطًا بروح دينية ووطنية متطرفة وذلك بنظرته إلى المسيح الملكي أو بالدور المعطى لأورشليم والأرض المقدسة، أو بالتشديد على جمع القبائل الاثنتي عشرة. وهكذا يلتقي بتعليم مزامير سليمان.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM