الفصل التاسع الكهنوت في النصوص الكهنوتيّة

الفصل التاسع
الكهنوت في النصوص الكهنوتيّة

ميّزت توراة حزقيال بوضوح بين الكهنة واللاويين، واحتفظت بالكهنوت لأبناء صادوق. وثبّتت النصوصُ الكهنوتيّة هذا التمييز، مع العلم أن الكهنوت صار في نظرها امتياز هارون وأبنائه. نشير هنا إلى أن النصوص الكهنوتيّة تغطّي قسمًا كبيرًا من البنتاتوكس الحالي. ونحن نميّز فيها "شريعة القداسة" (لا 17- 6) والشرعة الكهنوتيّة (مع النصوص الملحقة).
هناك فرضيّة تعتبر الشرعة الكهنوتيّة حصيلة مدرسة ناشطة منذ زمن أحاز، واستطاعت أن تفرض نظرتها في أيام حزقيال. كان ذلك في زمن انهيار مملكة الشمال. حينئد اصطدم كهنة المعابد المحلّية الذين جاؤوا إلى الجنوب، بمطامح كهنوت هارون الذي ساندته الشريعة. فكان صراع تشير إليه ثورة قورح كما في عد 16. خلال حكم منسّى، كاد هذا الإصلاح يموت. ولكنه "قام" مع توراة حزقيال التي استعادته ولكنها ناقضته. ولكن جاء من عارض هذه النظرة.
ومهما يكن من أمر، لا يكفي أن نتحدّث عن تاريخ مجموعة أدبيّة لنحدّد في التاريخ، النظمَ التي تتحدّث عنها. فكتاب الطقوس هو محافظ على القديم. والنص المتطوّر قد يحتفظ بتقاليد قديمة. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، تلقّت هذه التقاليد إضافات وملحقات. فالنقد الأدبيّ ودراسة التقاليد يدلاّن على أن كل نصّ هام يعالج الكهنوت، يعكس حقبة من تاريخه. نبدأ كلامنا مع شريعة القداسة، ثم تعود مطوَّلاً إلى الشرعة الكهنوتيّة آخذين بعين الاعتبار التطوّر الذي نكتشفه في النصوص.
1 - الكهنوت في شريعة القداسة
إن شريعة القداسة هي ردّ كهنة أورشليم على تث الذي كاد يُنسى لو لم يكتشفه حلقيا في عهد يوشيا. فانهيار آشورية جعل الناس ينظرون إلى توحيد البلاد حول السلالة الداودية وهيكلها. لهذا كانت شريعة القداسة تجميعًا لنصوص (كان لكل منها تاريخه) ضمَّت مواد قانونيّة وإرشاديّة. والنقد الأدبي يتيح لنا أن نكتشف عناصر كهنوتيّة متفرّقة ستدخل فيما بعد في المجموعة الكبرى للنصوص الكهنوتيّة.
لا تتحدّث شريعة القداسة عن اللاويين. وإذا جعلنا جانبًا المقدمة (17: 2: قل لهارون وبنيه) ومقطعًا يُنسب إلى المرجع الكهنوتي (24: 3- 9)، فالشريعة لا تذكر هارون إلاّ حيث يكون الكلام مباشرة عن الكهنوت (ف21- 22). فلفظة "ك هـ ن" ترد سبع مرات خارج هذين الفصلين: في الذبائح يصبّ الكاهن الدم على مذبح الرب ويقتّر البخور كرائحة رضى (17: 5-6). يدور الحديث على المذبح الذي هو على مدخل خيمة الاجتماع (أو اللقاء)، كما في المرجع الكهنوتي. في 19: 22، يقدّم الكاهن طقس التكفير. فإن 19: 10- 22 هو نتاج تدخّل ثانوي. وفي طقس الحزمة الأولى (23: 10- 11)، وفي طقس عيد الأسابيع (23: 20)، يقوم الكاهن بعمل التقدمة فيحرّك القربان ويرفعه.
ويُعالَج موضوعُ الكهنوت في ذاته في ف 21- 22. فإن توجّهت خطبة الرب إلى موسى، فعلى موسى أن يكلّم هارون (21: 17)، هارون وأبناءه (22: 1)، الكهنة أبناء هارون (21: 1). ويُضمّ إليهم بنو اسرائيل في 22: 18. ولكن الأمر بالتكلّم إلى هارون وبنيه، غاب من 22: 26.
هذه الوحدات الصغيرة تتحدّث عن الكهنوت. ومفهوم القداسة هو في أساس النظرة إلى الكهنوت. هذا ما يشدّد عليه التحريض الأخير، ولا سيّما في 22: 32 (لا تدنّسوا اسمي القدوس، فأبقى مقدسًا فيما بين اسرائيل، أنا الرب الذي يقدّسكم). يجب أن لا ندنِّس اسم الرب القدوس (20: 3؛ 22: 3؛ حز 36: 20). يجب أن يتقدسّ يهوه في وسط بني اسرائيل. أما حزقيال فتحدّث بالاحرى عن تقديس على عيون الأمم (حز20: 41؛ 28: 22، 25؛ 29: 27؛ رج 36: 23: 38: 16). وتحدّد الوثيقة الكهنوتيّة التقديس بالمجد (خر 29: 34)، وهو مدلول غائب من شريعة القداسة. الربّ هو الذي يقدّس. واسم الفاعل (مقدّس) الذي يطبّق على يهوه، يعود مرارًا في لا 21- 22 فيتوزّع على مختلف المقاطع (21: 8، 15، 23؛ 22: 9، 15، 32). وإذا خرجنا من شريعة القداسة، فلا نجده إلاّ في حزقيال والمرجع الكهنوتي. يهوه قدوّس وهو يقدِّس. وبما أن الكهنة يخدمون في المقدس، ولأنهم يقتربون من التقادم المقدسّة ويتّصلون بالأواني المقدسة، عليهم أن يكونوا في حالة من القداسة مقابلة. يجب أن ينفصلوا عن الدنيوي ويتجنّبوا كل نجاسة. هذه المتطلّبة الأساسيّة في الكهنوت، تتيح لنا أن نفهم مختلف فرائض الشريعة.
إذا حللّنا ف 21- 22، نكتشف بدون شك عدّة طبقات تدوينيّة في هذا النصّ الذي يتحدّث بشكل خاص عن الكهنة، ولكنّنا نكتفي بأن نلفت الانتباه إلى ثلاث نقاط.
أ- إن وظائف الشريعة تكشف الوظائف الخاصّة بالكهنوت. فالكاهن يقرّب (ق ر ب) طعام (ل ح م) الله (21: 8). وزادوا على هذه اللفظة القديمة "وقائد" في 21: 6 و21: 21. هو يرتبط بالمذبح لأن عاهة تمنعه من الاقتراب. في هذه الحال، لا يستطيع أن يأتي أيضًا إلى الحجاب (21: 23).
ب- تتحدّث شريعة القداسة بشكل واضح عن عظيم الكهنة. ولكنّها تعرف "الكاهن الأعظم بين اخوته" (21: 10). ليس هذا لقب عظيم الكهنة في ما بعد المنفى. لأن عبارة "بين اخوته" تُضعف العبارة. صار واحدًا منهم. صارت العبارة اذن تصويرية وما عادت لقبًا. وأضيفت عبارة "على رأسه صُبَّ زيت المسحة". هي تفترض أن كتاب الطقوس حول "رسامة" عظيم الكهنة صار كاملاً (لا 8).
ج- احترام قداسة الكهنوت هو ما يبرّر الإجراءات الملموسة التي اتّخذها المشترع في مجالات الاتصال بميت والزواج والنظافة (ق حز 44: 18ي). إن المحافظة على قداسة الكهنة هي ثابتة في النصوص الكهنوتيّة، ونلاحظ متطلّبات أكبر "للكاهن الأعظم من اخوته". واللافت هو ظهور الموانع للكهنوت (12 مانعًا) (21: 18- 20). ستدخل في شروط الدخول إلى الكهنوت.
2 - الكهنوت في الشرعة الكهنوتيّة
تركت الشرعة الكهنوتيّة مشاكل الملكيّة التي انهارت، واهتمّت بتنظيم حياة عباديّة تتأسّس على حدث سيناء. منذ الآن تمر الوساطة بالكهنوت الذي صار المؤسّسة العظمى، وحدِّد وضعه في تدوينات متلاحقة. وبما أن الكهنوت ارتبط بالمعبد، فبالنظر إلى المعبد نقدّم الأشخاص المقدّسين. إذن ندرس (أ) المعبد والكهنوت. (ب) هارون في الشرعة الكهنوتيّة. (ج) الكهنة الهارونيون في الشرعة الكهنوتيّة. (د) اللاويون في الشرعة الكهنوتيّة.
أ- المعبد والكهنوت
تعبّر الشرعة الكهنوتيّة تعبيرًا قويًا عن العلاقة بين الكهنوت والمعبد. فهناك طرق عديده لإبراز وظيفة تشييد المعبد في المرجع الكهنوتي. اختلفت الشرعة الكهنوتيّة عن توراة حزقيال، فما تكلّمت عن الهيكل، بل عن المسكن أو خيمة اللقاء (الموعد). عبارتان متساويتان، وقد تحلّ الواحدة محلّ الأخرى. "خيمة اللقاء" كانت مؤسّسة قديمة في الديانة اليهويّة. نحن بالاحرى أمام لقاء من النمط النبويّ (رج حز 33: 7- 11). توصّل المرجع الكهنوتي فأدرجها في مشروعه مبدّلاً وظيفتها الأولى. وتساءل الشراح إن كان الكتّاب الكهنوتيون فكّروا أن المعبد الذي يُحمل وحده يليق باليهويّة، وبالتالي يعارض فكرة الهيكل. ومهما يكن من أمر، فعبر الملكيّة وهيكلها، أراد الكهنوتي أن يشدّد على الأصل الموسوي للمؤسّسات العباديّة، وأن يجذّرها في وحي سيناء.
في نظر الكهنوتي، لا عبادة ولا كهنوت قبل تشييد المعبد. والرب هو الذي كشف عن المشروع (كما في ديانات الشرق القديم). وتوسّعت الشرعة الكهنوتيّة في لاهوت حزقيال (حز 43: 4- 5) حين رأى مجد يهوه يتجلّى في بناء يوافق مشروع الله (حز 40: 34- 35)، وحيث يقوم كهنوت شرعيّ بالطقوس المفروضة (لا 9: 6- 23). وهكذا ارتبط المعبد بسيناء (حز 24: 15ب -18 أ). فمجد يهوه هو الذي يشرّع العبادة التي دُشِّنت حديثًا. أجل، إن مجد يهوه يلعب دورًا كبيرًا في العبادة وفي التاريخ.
حين نقرأ التصوير الطويل في الشرعة الكهنوتيّة، نظنّ للوهلة الأولى أن علاقتها ضعيفة بفكرة الكهنوت. ولكن هناك من بيّن تماسكه المؤسِّس على فكرة القداسة التي يشاركون فيها بدرجات مختلفة. ويظهر هذا "التدرّج" بأشكال متنوّعة. مثلاً، نظروا إلى تقنية النسيج في تدرّج تناقصي: ح ش ب. ر ق م .أرج (حز 35: 35). ألوان مختلفة: البنفسجيّ والأرجواني والقرمزيّ. ومزيج الألوان يدلّ على قداسة أكبر.
وحين يرتفع "شيء" في سلّم القداسة، يجب على الإنسان أن يضاعف مجهوده ليجمّله. مثل هذه التحليلات تتيح لنا أن نبُرز دوائر من القداسة متراكزة. يبقى أن نعرف كيف يدخل الهيكلُ في هذه القداسة التي تظهر في درجات.
ب- هارون في الشرعة الكهنوتيّة
في تدرّج قداسة الأشخاص، تعود المكانة الأولى لعظيم الكهنة. إن لقب "هـ ك هـ ن. هـ ج د و ل" لا توجد في البنتاتوكس إلا في مقطع تأخّر تدوينه (عد 35: 25، 28 وربما آ 32؛ رج مقطعًا قربيًا في يش 20: 6). في الحقبة التي تلت إعادة البناء بعد المنفى، وحتى في الحقبة المكابيّة، لم يكن هناك (على ما يبدو) تسمية وحيدة محدّدة لـ "عظيم الكهنة". فمن خلال شخص هارون الذي تتحدّث عنه الشرعة الكهنوتيّة بشكل منتظم، نستشف صورة الذي سيُسمّى عظيم الكهنة. وإن أضافت النصوص الكهنوتيّة "وأبناءه"، فمع ذلك ننطلق منه لندرك إدراكًا أفضل الطقوس والوظائف الخاصة بالكهنوت.
أولاً: تكريس هارون
أعطي الأمر بتكريس هارون وبنيه بالطقوس الخاصة في خر 29. ونفّذ الأمر في لا 8. ويصوَّر الدخول في الوظيفة في لا 9. اختلف النقد الأدبي حول هذه الفصول. ومع ذلك اعتبروا أن لا 8 هو الأقدم. ولكن أضيف إليه بعض الشيء فيما بعد. مثلاً آ 10- 11 (مسح المسكن وتقديسه أو تكريسه)؛ آ 25ب، 26ب (ذكر "الكتف اليمنى")؛ آ 33- 35 حول سبعة أيام الاحتفال؛ وآ 30 التي توصل إلى بني هارون مسحة أعدّت في الأصل لهارون. ولكن النقد الأدبي وحده لا يكفي. فلا بدّ والحالة هذه من دراسة الأشكال الوضعيّة والسرديّة للنصوص ومقابلتها. إن كان لا 8 أقدم من خر 29، فإن في خر 29 أخبارًا طقوسيّة قديمة أعيد تفسيرها في خطّ طقوس الذبائح. ودخلت هاتان المجموعتان في رسمة تتحدّث عن الأمر وتنفيذ الأمر.
يجري الاحتفال أمام الجماعة الملتئمة عند مدخل خيمة اللقاء. وموسى هو الشخص الرئيسيّ. وتتضمّن "الرسامة" ثلاثة طقوس: التطهير، ارتداء الملابس، المسح بالزيت. ثم تقدّم ذبائح: عجل كذبيحة عن الخطيئة. كبش كمحرقة. وكبش كذبيحة "الرسامة". نتوقّف هنا عند ثلاثة عناصر: مفهوم التكريس والقداسة. ارتداء الملابس. وذبيحة الرسامة.
. التكريس والقداسة
مفهوم القداسة مهمّ في توراة حزقيال وشريعة القداسة، وقد ارتبط ارتباطًا مباشرًا بممارسة الكهنوت. فنحن نجد مرارًا لفظة توحّد الجذر "ق د ش" (قدّس) مع فعل "ك هـ ن" مارس الكهنوت ليهوه (لي). يتحدّث خر 28: 3 و40: 13 عن هارون. و29: 24؛ 30: 30 عن هارون وبني هارون. و28: 41؛ 29: 1 عن بنيه.
في الكهنوت البيبلي، لم يعد مدلول الطهارة هو الأهمّ كما في كهنوت الشرق القديم. فالكهنوت هو أولاً تكريس، إقامة في نظام القداسة.
. ملابس هارون
إن ارتداء الملابس (يُلبس هارون ولا يلبس هو نفسه) عمل مهمّ. فهو يرتبط ارتباطًا مباشرًا بممارسة الكهنوت (خر 28: 4؛ 31: 10؛ 35: 19؛ 39: 41). وقد جُعل بين التطهير والمسح بالزيت (خر 39: 4- 7؛ لا 8: 6- 12؛ رج 11: 3 كنصّ أضيف). فكيف نستطيع أن نسكب الزيت على رأس هارون بعد أن تكون وضعت عليه العمامة. وانتقال سلطة هارون إلى ابنه ألعازر يتمّ بالارتداء وحده في عد 20: 26. وقال الأب كازيل حول عد 20: 22- 29: "يجب أن ننسب إلى التاريخ الكهنوتي الانطلاق من قادش، موت هارون في هور الجبل، وانتقال سلطته حين ألبس ألعازر".
ارتدى هارون ثمانية ملابس. الأربعة الأولى خاصة به. هي الافود (يتميّز عن افود العرافة في أولى مراحل الكهنوت) والصدرية ورداء الافود وتاج الذهب الذي يوضع على العمامة. يزاد عليها قميص الكتّان، عمامة من كتان، حزام (خر 28: 39) مع سراويل الكتّان التي يرتديها هارون وبنوه.
لا ندخل في تفاصيل صنع هذه الملابس. ولكن نكتفي بملاحظتين. الأولى: إن صنع ملابس هارون يدخلها في تدرّج القداسة الذي يميّز المجموعة كلها. فالافود مصنوع بالذهب ويتضمّن ثلاثة ألوان: البنفسجيّ والأحمر والقرمزي. وهو صنع "ح ش ب". الثانية: هذه الصورة تُلقي بعض الضوء على الوظيفة الرمزية التي تجعلها الشرعة الكهنوتيّة لهارون. ووظيفته كممثّل اسرائيل يشير إليها حجرا الافود واثنا عشر حجر الصدرية التي عليها أسماء بني اسرائيل. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، تدلّ بعض التفاصبل على أن هارون يأخذ الميراث الملكي أو أقله جزءًا منه. فصدريّته تذكّرنا بتلك التي كان يلبسها الفراعنة وملوك أنطاكية. أما قبّعته فتستعيد بعض العناصر الملكيّة: العمامة يلبسها الأمير في خر 21: 31. وأصل اللفظة يعود إلى مصر. وزهرة الذهب حلّت محلّ الحيّة الذهبية التي كانت على جبين الفرعون.
. ذبيحة الرسامة
هذه الذبيحة هي شيء خاص بهذا الاحتفال. فاللفظة (م ل ا ي م) تنطبق على حجارة ترصَّع (خر 25: 7؛ 35: 9- 27؛ 1أخ 29: 2). وهي تذكّرنا بعبارة تقنية "ملأ اليد" قرأناها للمرة الأولى ساعة تولّى الكاهن خدمة معبد ميخا (قض 17: 5- 12). هو كبش الرسامة يقدَّم (خر 29: 22، 26، 27). الحركة الأولى هي وضع الايدي يقوم بها ذاك الذي يرتسم. والمسحة المميزّة هي وضع الدم على شحمة الأذن اليمنى، على باهم اليد اليمنى وباهم الرجل اليمنى. هذا الطقس قديم جدًا ولا مدلول تكفيريًا له. ويختلف المدلول في لا 14: 14 عند تطهير الأبرص. فالكاهن المكرّس ينال سلطة العمل داخل المكان المقدّس (الحرم). يُرَش جزء من الدم على المذبح. في طقوس العهد (خر 24: 3- 8) يرشّ نصف الدم على المذبح والنصف الثاني على الشعب.
ثانيًا: وظائف هارون
إن هارون في تكريسه هو الشخص الذي يشارك القداسة في أعلى درجاتها. لقد صار جديرًا بممارسة أسمى الوظائف المقدسة. في بداية خدمته، يبرز في الدرجة الأولى نشاطه الذبائحيّ. إن هذه الطقوس تمثل بلا شك حالة أقدم ممَّا نجد في لا 1- 7. وما نلاحظه هنا هو أن هارون ينحر الضحايا (لا 9: 8، 12، 15، 18). ثم نجد مشاركة الكاهن في الذبيحة وهذا أمر عاديّ. هو مكلّف بشكل خاص بتحريك الدم ووضعه على قرون المذبح وقاعدته. كما أنه يقتّر الشحم. ويشير النصّ بشكل عابر إلى نشاط ألحق سريعًا بالكهنة، هو المباركة. ففي نهاية الاحتفال، بارك هارون الشعب (آ 22). باركه مع موسى (آ 23). وقبلَ يهوه هذه الذبائحَ الأولى التي قدّمها كهنوت حقيقيّ (9: 23 ب- 24).
وصنعُ ملابس عظيم الكهنة ليس قضيّة زينة فقط. بل هو يعّبر عن بعض وظائفه. فوظيفة العرافة (أقوال الله) والقضاء (في يد هارون) قد أدخلت في لباسه. يُضمّ إلى الصدرية الاوريم والتوميم (الذي أخذ من الكهنوت القديم). ويكون نصّ خر 28: 29- 30 أكثر وضوحًا حين يتحدّث عن "صدريّة القضاء". فحتى حين غاب الاستقلالُ السياسيّ، حافظ الكهنوت على وظيفة قضائيّة في الجماعة الدينية. وزهرة الذهب النقي على العمامة (مع عبارة: مكرّس للرب)، تشير إلى رضى الله عن اسرائيل. هارون هو عربون العلاقة المميّزة بين يهوه وإسرائيل. وهكذا يتسلّم بعضًا من الوساطة الملكيّة.
وذكر الشرّاح ثلاثةَ أعمال رئيسيّة يقوم بها هارون داخل المعبد: يقتِّر البخور المعطّر (خر30: 7). يهتّم بالمصابيح (خر30: 8؛ لا 24: 1- 4؛ عد 8: 1- 4؛ أما خر 27: 2 فيضيف "بنيه"). ويكلّف بترتيب خبز التقدمة على المائدة (لا 24: 5- 7. ولكن لا ننسى عد 4: 7). حصروا هذه الوظائف بهارون دون أن ينسوا الصعوبات. فالأفعال هي في صيغة الجمع في خر 28: 34؛ 30: 20. وتنوّعت التقاليد بحيث امتدّت امتيازات هارون إلى سائر الكهنة. هذا يعني أن الشريعة تكيّفت مع الزمن.
وهناك عمل يُحفظ لهارون دون جدال. ففي يوم التكفير، يدخل مرّة واحدة في السنة خلف الحجاب ويضع البخور أمام يهوه (لا 16: 12- 13). حينئذ يلعب الكهنوت الدور الأساسيّ. أما طقوس هذا الاحتفال فهي متشعِّبة، ولا 16 يتركّب من عناصر مختلفة.
ج- الكهنة الهارونيون في الشرعة الكهنوتيّة
جعلت الشرعة الكهنوتيّة في هارون وعائلته الحقّ الحصري بممارسة الكهنوت. وضمّت إليه نصوصُ التكريس أبناءه الأربعة: ناداب وأبيهو، ألعازر وإيتامار (خر 28: 1؛ رج خر 6: 23؛ عد 3: 1- 4). وتحدّثت مرارًا عن "بني هارون" (خر 28 :1، 40؛ لا 8: 13، 24) الذين يشاركون أيضًا في تقدمة الذبائح الأولى (لا 9: 9، 12، 18). والطقس المميّز هو طقس ارتداء الملابس. ينالون القميص والحزام والعمامة، كما أمر الربُّ موسى (لا 8: 13). ويقول خر 29: 9: "الكهنوت يخصّهم بقرار أبديّ". أما النصوص التي تشير إلى المسحة لجميع الكهنة، فهي تنتمي إلى طبقة متأخّرة في الوثيقة الكهنوتيّة. ويجعل لهم كتابُ الطقوس الدم على شحمة الأذن اليمنى وباهم اليد اليمنى وباهم الرجل اليمنى.
ويقدّم لنا عد 18: 6- 7 بشكل موجر سبب وجود الكهنوت: يقوم الكهنة بخدمة المعبد والمذبح. ويقال: "جميع ما للمذبح وما في داخل الحجاب". فالكهنوت بموقعه في درجات القداسة، يكفل للشعب الاقتراب من الله ويبقى على قيد الحياة.
وتظهر الرظائف الكهنوتية في أرفع مستواها في شخص هارون. أما سائر الكهنة فيشاركون فيها. بما أن النصوص الكهنوتية (عكس تث 33: 8- 11) تشدّد على الوظائف العباديّة والذبائحيّة، وتهتمّ اهتمامًا خاصًا بمقولات المقدس والدنيوي، الطاهر النجس، يجب أن نقدّم بعض التفاصيل في هذا الاتجاه.
وظيفة الكهنة الرئيسيّة في الشرعة الكهنوتيّة، هي تقدمة الذبائح على المذبح الموجود في فناء الهيكل. فحركة تقديم القرابين أمام الرب هي جزء من ذبيحة الرسامة (لا 8: 25- 27). وتقوم هذه الوظيفة الرئيسيّة بنضح الدم وحرق بعض أجزاء الذبيحة. ونأخذ مثلاً طقس محرقة البقر (لا 1: 3- 9). لا يبدأ كهنة هارون عملهم إلاّ بعد أن ينحر مقدّم الذبيحة ضحيّته. حينئذ يقرّبون (ق ر ب) الدم ويرشّونه على جوانب المذبح. ويحملون النار على المذبح. ويهيّئون الحطب وأجزاء الضحيّة. والكاهن هو الذي يقتّر (ق ت ر) كل هذا على المذبح. توسّعت شريعة الذبائح في مثل هذه الفرائض (لا 1- 7)، وضمّت عناصر قديمة وان انتمت في تدوينها الحالي إلى النصوص الملحقة بالوثيقة الكهنوتيّة. فالذبائح العلنيّة لا يقوم بها بالضرورة عظيم الكهنة، وفي طقس عد 28- 29 (هو متأخر) لا يُذكر اسم هارون ذكرًا. ولكن هارون هو الذي يقدّم ذبائح اليوم الثامن في لا 9. ويتدخّل عظيم الكهنة أيضًا حين يجب أن يُجلب الدم إلى داخل الهيكل (لا 4: 3- 21؛ 16: 3- 25). ونلاحظ في مناسبة طقوس التكفير هذه، عبارة متأخّرة تدلّ على عظيم الكهنة: "الكاهن المقدَّس بالمسحة" (لا 4: 3، 5، 16؛ 16: 32).
وبجانب هذه الوظائف الذبائحيّة يحتفظ الكهنة الهارونيون بوظائف التعليم. فعليهم أن يقدمّوا التوجيهات خصوصًا في ما يتعلّق بالمقدّس والدنيويّ، بالطاهر والنجس. نجد العبارة واضحة في لا 10: 10 حيث يصوّر الفصل بين مجالين بفعل (ب د ل) الذي يكثر استعماله في النصوص الكهنوتيّة. وأوكل الكهنة أيضًا بأن يجعلوا الناس يرون (ي ر ه) أحكام يهوه. فشريعة الطهارة تستعمل مئة مرة ومرتين لفظة "ك هـ ن"، وهذا ما يدلّ على الدور الأوّلي الذي يلعبه الكاهن في هذا التشريع وفي كتاب الطقوس الذي يرافقه. ففي حالة البرص (لا 13)، الكاهن هو الذي يرى (راه، 22 مرة) ويعلن النجس (ط م ا، 13: 8، 11، 22، 25، 27، 30) والطاهر (13: 13-17...). وقد يجبر الكاهن أن يحجز (13: 4، 5، 26، 31، 33) المريض بانتظار فحص لاحق. والدور الذي يلعبه الكاهن أيضًا في طقوس التطهير هو مهمّ جدًا (39 استعمالاً للفظة كاهن في لا 14).
د- اللاويون في الشرعة الكهنوتيّة
لا يتحدث سفر اللاويين عن اللاويّين. ولا تتحدّث عنهم النصوص الكهنوتيّة إلا في سفر العدد وبمناسبة الحديث عن تنظم البرية. في نهاية الإحصاء، نقرأ في حاشية عامة لا نعرف تاريخها، أهمَّ وظائف اللاويين الذين لم يدخلوا في الاحصاء (عد 1: 47- 54). وتحدَّد هذه المعطيات في عد 3- 4 كما يميَّز الكهنة عن اللاويين. وفي عد 8: 5- 22 نجد طقوس تقديم اللاويين. ويعبَّر عن التمييز بين الكهنة واللاويين في النصوص الكهنوتيّة.
يتميّز اللاويون تمييزًا واضحًا عن الكهنة بني هارون، في النصوص الكهنوتية. هم لا ينتمون إلى ذات حلقة القداسة، وبالتالي لا يستطيعون أن يخدموا المذبح ولا وراء الحجاب. يقفون بين الكهنة والشعب، فيشكلون حلقة لا غنى عنها في الاتصال بالله. فالنصوص الكهنوتيّة تصل إلى النتيجة التي وصلت إليها توراة حزقيال، ولكن دون النبرة الهجوميّة. فاللاويون يؤمِّنون خدمة مسكن الشهادة (عد 1: 5- 53)، المسكن (عد 3: 9)، خيمة اللقاء (8: 15- 22، أو الاجتماع)، الخيمة (18: 3). قد تتبدّل الألفاظ، لأن الكتّاب الكهنوتيين يضموّن تقاليد تعود إلى عصور مختلفة. ولكن الواقع هو هو. خدمتهم لا تعني المذبح ولا ما وراء الحجاب (18: 5). والإشارة »كانوا مكلّفين بالمعبد« هي عبارة في غير محلّها (3: 28). في عد 18: 1- 7 يوضع السبب لوجود الكهنة ولوجود اللاويين، فيبدو الفصل بين الفئتين واضحًا. إن اللاويين يهتمّون بشكل خاص بنقل المسكن، بنصب الخيمة وفكّها.
تصوَّر رتبةُ "رسامة" اللاويين في عد 8: 5- 22. ليست احتفالية مثل رتبة الكهنة، ولا تتضمّن ارتداء الملابس ولا المسح بالزيت. يُفرز اللاويون (يوضعون جانبًا). يطهَّرون ويقدّمون مع التحريك (آ 9- 11؛ رج آ 15ب). أما وضع اليد بين الرتبتين فموضوع جدال. هناك من يميّز بين وضع يد يعبّر في الطقس الذبائحي عن التماهي بين الضحيّة ومقدّم الضحيّة (خر 29: 10، 15، 19)، ووضع اليدين الذي يعبّر (ما عدا في الطقس الذبائحي) عن انتقال شيء من شخص إلى آخر. ولكن ما هو مدلول عد 8: 10؟ سيكون لهذا الجدال بُعد كبير في العهد الجديد.
كيف يتمّ اختيار اللاويين؟ تستعمل لفظة "ن ت ن ي م" أي "المعطين" (رج 1أخ 6: 33). في فترة سابقة، أعطي اللاويون ليهوه. "فهم كمعطين يخصّون يهوه من أجل خدمة خيمة اللقاء" (عد 18: 6ب؛ رج 8: 16). وفي فترة لاحقة، قدّموا كمعطين لهارون وبنيه من أجل خدمتهم (عد 3: 9؛ 8: 19). هذا يدلّ على سلطة الكهنة على اللاويين. في عد 3: 11- 13 يفسَّر تكريسُ اللاويين على أنهم يحلّون محلّ الأبكار. وليس من تلميح لخضوع اللاويين للكهنة (رج خر 13: 1، 2؛ 11- 16؛ 22: 28؛ 34: 19، 20؛ عد 3: 40- 51؛ 8: 15، 19؛ 18: 15- 17؛ تث 10: 6- 9).
نقل سفر العدد أيضًا تقاليد تقدّم معلومات أوسع عن خدمة اللاويين، ولكنها لا تتوافق دومًا. مثلاً تمتد خدمة اللاويّ من 25 إلى 50 سنة في عد 8: 23- 26. ومن 30 إلى 50 سنة في عد 4: 2- 3. وغاب كل حديث عن الخلاف بين القهاتيين والهارونيين. أما في عد 4، فقهات هو في رأس اللائحة، ويلقى اهتمامًا أكبر. غير أنه من الواضح أن القهاتييين يتميّزون عن الهارونيين. هؤلاء يغطّون الأشياء المقدسة. وأولئك يحملونها، ولكنهم لا يحملون ما هو مقدّس مع التهديد بالموت (4: 15- 16).
إن عد 18: 8- 32 هو نقطة انطلاق صالحة لدراسة مداخيل الكهنة واللاويين (ق عد 3: 11-13؛ تث 18: 1- 8؛ حز 44: 28- 30؛ نح 10: 16- 40). ونجد عناصر هامة في لا 6- 7.
خاتمة
تلك كانت مسيرتنا في النصوص الكهنوتيّة. بدا التمييز واضحًا جدًا بين الكهنة واللاويين. وتبيّن أن الكهنة هم فقط أبناء هارون. وبرزت شخصيّة رئيس الكهنة وطريقة رسامته بشكل يشبه رسامة الملوك. تنظيم رائع. ولكن ماذا سيبقى من كل هذا بعد دمار أورشليم وإحراق هيكلها، وانطلاق ملكها وأعيانها إلى المنفى؟ هذا ما نكتشفه في فصل لاحق.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM