الفصل الثامن الكهنوت في سفر حزقيال

الفصل الثامن
الكهنوت في سفر حزقيال

مارس حزقيال مهمّته النبويّة لدى المنفيّين في بابل. كان كاهنًا في أورشليم فانتمى إلى هذا المحيط الذي لم يرضَ عن الإصلاح الاشتراعي، والذي عارضه إرميا. بدا كتابه على المستوى الايديولوجي والأدبي قريبًا من الكتابات الكهنوتيّة، قريبًا من شريعة القداسة، وسابقًا بعض الشيء للشرعة الكهنوتيّة. لا يتطّرق النبي إلى مسألة الكهنة واللاويين إلا في النصوص الأخيرة من كتابه (ف 40- 48) التي تطرح أسئلة خاصة. قبل أن نتطرّق إلى هذه الفصول، نتوقّف بعض الشيء علّنا نجد إشارات تساعدنا على فهم الكهنوت.
1- حزقيال والكهنوت
لا يتكلم حزقيال عن الكهنة إلاّ في مناسبتين. وفي الحالتين يشدّد على مسؤوليّة الكهنة تجاه "التوراة". نقرأ في 7: 26 ما يلي: "الكاهن يفقد الشريعة، والشيوخ الحكمة". رج إر 18: 18 (الشريعة لا تُحرم من كاهن سواه، ولا حسن المشورة من حكيم). حين يوبّخ حزقيال الكهنة لأنهم "عنّفوا" الشريعة (22: 26: كهنتها يخالفون شريعتي، ويدنّسون أماكني المقدّسة...) فهو يقدّم تفصيلين حول مضمونها: يجب الفصل (ب د ل) بين المقدَّس والدنيويّ والتعريف بالفرق بين الطاهر والنجس.
انطبعت لغة حزقيال بأصله، على مستوى المفردات كما أثّر قانون القدس على تعليمه (ف 14؛ 18؛ 33: 1- 20). فعلى الكاهن أن يعطي "إرشادات" في هذا المجال، وأن يعطي أحكامًا. لقد أراد حزقيال في كرازته أن يحمل هذه المعرفة التي أهملها الكهنة. وتعود مرارًا عبارة "يعرفون أني يهوه" في كتابه. وهذا الارتباط بين الكاهن والنبيّ في كتابه مهمّ جدًا. فإن حزقيال قد اكتشف كهنوته من جديد ساعة تلقّى النداء النبويّ. سقطت كل الأطر، ولكن حزقيال وقف عند الثغرة، شأنه شأن موسى (22: 30؛ رج مز 106: 23)، ولما أخصبت وظيفةُ الوساطة في الكهنوت، بالتقليد النبويّ، اقتنت بُعدًا جديدًا في قلب شعب الله.
2 - توراة حزقيال وخدمة حضور الله
تحتلّ ف 40- 48 مكانة فريدة في حز بأسلوبها وفنّها الأدبيّ واهتماماتها. هذه الشريعة (التي دوّنها حز) خضعت لتدوينات متعاقبة بحيث تكلّم الناس عن "مدرسة" حزقيال. هناك نقطة هامة لمعرفة الكهنوت حيث نكتشف الفرق بين ف 1- 39 وف 40- 48، هي فكرة القداسة. فعلى 115 استعمالاً لجذر "ق د ش"، نجد 50 استعمالاً في ف 40- 48. وقد بيّن الشراّح اختلافًا في النبرة بين المجموعتين. في ف 1- 39، ترتبط قداسة الربّ بواقع تاريخيّ يعيشه الشعب. أما في 40- 48 فموضوع القداسة يرتبط دومًا بالهيكل وبكل ما يتعلّق به في معارضة مع ما هو دنيويّ.
الهيكل هو موضع حضور الله. نجد تعبيرًا عن ذلك في مقطع يشكّل انتقالاً بين تصوير الهيكل وتنظيم مؤسّساته (43: 1- 12). هناك أولاً وصول مجد يهوه الذي يملأ الهيكل (43: 2، 4، 5). هذه الرؤية هي في بداية كلمة ستعود في تضمين، وهي تؤكّد أن يهوه يقيم إلى الأبد في وسط أبناء اسرائيل (43: 7- 9). وحين يكون للمدينة هيكلها ونظمها، تستطيع أن تُسمّى "يهوه هنا" (48: 35؛ رج 11: 1: أخذني من هناك).
في هذا الهيكل المثالي تكون الخدمة في جوهرها خدمة حضور الله، ومراعاة قواعد القداسة في ما يخصّ الأمكنة والأشياء والأشخاص. هذه الشريعة لا تقدّم قوانين حول مختلف نظم شعب الله على مثال تث. بل تتوقف عند اهتمامين: تميّز بين دور الأمير (أو الرئيس) ودور الكهنة. تميّز بين "الكهنة" وبين "اللاويين". هذا ما تجب دراسته بالنظر إلى توسّع التقاليد الأدبيّة.
3 - وضع الرئيس في الهيكل
في زمن الملكيّة كان الملك "سيّد" الهيكل، وكان الكهنة موظّفين لديه. وحاول تث أن يُخضع النظام الملكي لشريعة يحملها الكهنة اللاويون. فالتوراة المركّزة على شرائع العبادة لا تجهل ذاك الذي يقود الدولة. فتسمّيه "الرئيس" (ناسي، الأمير)، وتحدّد له موضعه في الجماعة الدينيّة. منذ بداية الفرائض، هي تهتمّ بتجنّب الأخطاء السابقة، بحيث لا تنجّس اسم الرب القدوس، فتفصل بين الهيكل ومنزل الرئيس (43: 7- 9).
حين حلّل الشرّاح التقاليد، عزلوا طبقة أدبيّة هي طبقة "ناسي" (الرئيس) التي نجدها خصوصًا في 44: 1- 3؛ 45: 21ي؛ 46: 1، 10، 12، مع مقاطع ثانويّة مثل 45: 8 ب- 9؛ 46: 16- 18. تشير هذه النصوص في جوهرها إلى فرائض ذبائحيّة وعباديّة. فالأمير يدخل إلى المعبد بالباب الخارجي من جهة الشرق (44: 1- 3؛ رج 46: 1، 8، 12). وهو يأخذ مكانه في الطعام العبادي. له ذيائح يقدمّها في عيد الفصح (45: 21- 24) وعيد المظال (45: 25) وفي يوم السبت والقمر الجديد (46: 1- 7). يقدّم المحرقة الطوعيّة وذبيحة السلامة كما في يوم السبت. وجاءت بعض النصوص وأضيفت إلى هذه المجموعة وهي: 43: 18- 27؛ 45: 18-20؛ 46: 13- 15. هذه الطقوس الأخيرة اجتذبت إليها أقوالاً حول المتوجّبات للرئيس والذبائح المكلَّف بها (45: 16- 17). للأمير مُلك خارج الحصّة المقدسة وحدود المدينة (45: 7؛ 48: 21- 22). فهذان النصّان الثانويان يتحدّد موقعهما على مستوى الواقع التاريخيّ. هو القول النبويّ الذي أضيف على قول يعلن أن الرؤساء لن يضايقوا شعب لله (45: 8ب- 9). فالقاعدة حول ميراث الأمير هي ملموسة بحيث تنطبق على وجه تاريخيّ.
هذا الكلام يبرز ظاهرتين اثنتين.
الأولى: إن تبديل البنية كان السبب في تبديل التسمية. لن يسمّى رئيس "الشعب" "ملك" بل أمير (ناسي، رئيس). ولا يعود من كلام عن الملوك في 43: 7- 8. "ناسي" هو وجه يعود إلى زمن القبائل، أي قبل الملكيّة. استعادت اللفظةُ بعضَ الاستعمال بعد سقوط الملكيّة، وهذا ما نراه في الوثيقة الكهنوتيّة.
الثانيّة: لم يعد للأمير أية وظيفة سياسيّة. فعمله يجري في مجال الهيكل وشعائر العبادة. هاتان الملاحظتان تدعواننا للتساؤل حول الوظيفة الحقيقيّة لهذا الشخص في نظام تيوقراطيّ ينظر إليه حزقيال وتلاميذه. هناك خط فكريّ أول يرى في هذا الامير "ملكًا" وملكًا من بيت داود. فلا مجال لرفض التماهي بين "أمير" "توره" و"داود" الأقوال المسيحانيّة (34: 23ي؛ 37: 24ي). والخط الفكري الثاني يرى انقطاعًا بين وجه الملك كما في ف 1- 39 وأمير التوراة. عندئذ يشدّدون على الانحطاط الذي دخل فيه. مسيحانيّة حزقيال هي حقيقيّة، ولكنها مسيحانيّة تعرف تبديلاً كاملاً، بسبب التحوّلات التي حصلت في العهد (17: 12- 21). هي أولاً مسيحانيّة بدون مسحة. حزقيال يهتمّ بأمر الليتورجيا، ولكنه لا يهتم بالطقوس الملكية كما لا يهتمّ بالملوك.
هذا الأمير الذي لا يُمسح بالزيت، يتعايش مع كهنوت بدون عظيم كهنة. وهذا الدور الدينيّ سيحدُّه شيئًا فشيئًا كهنوت يؤكّد ذاته تدريجيًا. فالطبقة "الصادوقيّة" ترينا صعودًا متدرجًا لأبناء صادوق. والاتحاد بين الطبقتين يعلن الوحدة اللاحقة بين الرئيس وعظيم الكهنة قبل أن يأخذ هذا الأخير كل السلطات. سيستعيد زكريا الأول المسألة من منظار آخر. وهكذا نكون في مقاطع تبدو بشكل مفاصل في تطوّر الكهنوت.
4 - الصادقيون واللاويون
طُرحت مسألة الكهنوت في نصوص نُسبت إلى الطبقة "الصادوقيّة". نجدها بشكل خاص في 44: 6- 31 (نحذف منه آ 13- 15، 17- 27، 31 كملحق). وهناك نصوص مماثلة: 40: 45- 46؛ 43: 19؛ 45: 4-5؛ 46: 24؛ 48: 11. إن تفحّص هذه النصوص المختلفة يدلّ على الطريقة التي بها توضّحت العبارات بشكل تدريجيّ.
أ- خدمة الهيكل وخدمة المذبح
هناك نصّ أول أدرج في تصوير الملحقات، يميّز فئتين من الكهنة (40: 45- 46أ ما عدا حاشية آ 46ب): هؤلاء الذين يؤمّنون خدمة الهيكل (البيت)، وهؤلاء الذين يؤمّنون خدمة المذبح. أصحاب الفئة الثانية يصوَّرون وهم يقتربون من يهوه في 42: 13. ويحدّد 42: 14 قاعدة حول استعمال اللباس الليتورجيّ. ونقرّب جزئين (46: 19- 20؛ 46: 21- 24) لا يبدوان في مكانهما الحقيقيّ. نحن أمام مطابخ الهيكل. الجزء الأول (46: 19- 20) يعني الكهنة. والثاني (آ 21- 24) خدّام الهيكل (آ 24؛ رج46أ). وهناك مقطع أخير أكثر وضوحًا نذكره في هذه المجموعة من النصوص: 45: 4- 5. المفردات مختلفة بعض الشيء. يقال عن الكهنة أنهم يقومون بخدمة المقدس (م ق د ش)، وأنهم يقتربون من الرب للخدمة. أما الذين يقومون بخدمة الهيكل فيتماهون بعد الآن مع اللاويين.
ب- اللاويون خدَمة الهيكل
وتحدّد وضعُ اللاويين في 44: 10- 14. في خر 32: 25- 29، بدا اللاويون المدافعين المتحمسّين عن اليهويّة (= التعلّق بيهوه). أما هنا فانحطّوا لأنهم ابتعدوا عن يهوه. يصعب علينا أن نحدّد أي فعل شرك قاموا به. لا يشير النصّ بوضوح إلى المشارف، بل إلى ضلال أمام الأصنام (ج ل ل ي م لفظة عزيزة على قلب حزقيال). هناك من تحدّث عن ذنوب من عبدوا الآلهة الغريبة وصورهم. ويُسأل: أما كان هناك انقسام داخل الكهنة خلال حكم منسّى؟ إن الحقبة المنفاويّة جعلت المؤمنين يفكّرون بمكان الغرباء في شعائر العبادة، وساعدت على التزاحم للوصول إلى الكهنوت.
إن امتيازات اللاويين هي الامتيازات التي قرأناها في الأجزاء السابقة: خدمة الهيكل التي كلّفوا بها (آ 11- 14). وتزيد آ 11: حراسة أبواب الهيكل (2مل 12: 10). وكلّفوا أيضًا بنحر المحرقات والذبائح للشعب (46: 24). بينما هذا التكليف يعود إلى مقدّم الذبيحة في كتب طقسيّة أخرى. أما الإجراء الهام فهو الاستبعاد: لن يقترب اللاويون مني لكي يمارسوا الكهنوت.
ج- الكهنة الصادوقيون وخدْمة يهوه
إن المقطع حول الكهنة يقدّم لنا عن الكهنة معلومات حول وضعهم، حول وظائفهم، حول وسائل عيشهم.
. وضع الكهنة
وافقت توراة حزقيال على مطامح اللاويين بالنسبة إلى الكهنوت. فشريعة الكهنة تستعيد عبارة "الكهنة اللاويين" كما في تث (رج حز 44: 15؛ رج إقحام 43: 19 في تكريس المذبح). في تث، كان لهذه العبارة بُعد معمّم. فأعطتها توراة حزقيال بُعدًا حصريًا، فحدّدت الكهنوت بأبناء صادوق. هذا التحديد قد جُعل أيضًا في بعض الحواشي (بني صادوق، 40: 46ب؛ 48: 11؛ زرع صادوق، 43: 19). ونلاحظ أن الكلام عن الصادوقيين في حصر المعنى، لا يبدأ إلاّ في 40- 48 حيث تركّز استعمال "بني صادوق" و"زرع صادرق". فالصادوقيّون الذين أخذ نفوذُهم يزداد منذ حزقيا (عبارة بيت صادوق في 2 أخ 31: 10)، جعلوا نظرتهم تسيطر في توراة حزقيال. يبقى أن نعلم كيف سيطبّق هذا البرنامج بعد العودة من المنفى ساعة تطالب مجموعات أخرى بحقوقها.
. وظائف الكهنة
هذا على مستوى وضع الكهنة. وعلى مستوى الوظائف، يلفت انتباهَنا عنصران في 44: 15-16. الكهنة الصادوقيون يؤمّنون وحدهم خدمة يهوه. فالافعال "ق ر ب" (قرب)، "ش ر ت" (خدم)، "ع م د" (وقف) ترتبط بيهوه (40: 46ب؛ 43: 19؛ 48: 11). ففي خط 40: 46، تحدّد هذه الشريعة أن الكهنة، أبناء صادوق، يقرّبون الشحم والدم (45: 19). وهكذا تظهر الوظيفة الذبائحية في المركز الأول في توراة حزقيال، بخلاف تث 33: 8- 11. وهناك شرائع جاءت من مصادر مختلفة واتخذت أشكالاً متنوّعة، أضيفت إلى 44: 15- 16 فقدّمت ملحقات مفيدة. فالكهنة يحتفظون بوظيفة التعليم ولاسيّما على مستوى المقدس والدنيويّ، على مستوى الطاهر والنجس (44: 23). ويحافظون أيضًا على الوظيفة القضائية (44: 24؛ رج تث 17: 8- 13). في هذا السياق نجد عددًا من الشروط يجب أن تنفّذ مراعاةً لقداسة الوظائف الكهنوتيّة.
. وسائل عيش الكهنة
عبر إضافة آ 17- 27، فإن 44: 28- 30 يرتبط بما في آ 15- 16. فهذا المقطع يتحدّث عن مداخيل الكهنة. فالتأكيد الاشتراعي الذي قال إن لا مُلك للكهنة ولا ميراث، يستعاد هنا. فالكاهن يعيش من التقدمات الذبائحيّة ومن أفضل البواكير والمداخيل. وتكمَّل هذه المعلومات بلائحة موسّعة في 45: 13- 15. فللكهنة تعود حصة من الأرض المقدسّة لكي يقيموا عليها بيوتهم (45: 4؛ رج 45: 5 من أجل حصّة اللاويين). في النصّ حول اقتسام الأرض، هناك جزء مقدَّس يُحفظ للرب.
د- كهنوت بدون عظيم كهنة
هذه الإشارة الأخيرة تلفت انتباهنا: فتوراة حزقيال لا تذكر عظيم كهنة. وهي في ذلك أكثر تحفّظًا من المراجع الملكيّة. والفريضة على الكهنة الصادوقييّن (44: 22)، تبدو قريبة من الفريضة التي تعني عظيم الكهنة في لا 21: 14 (هناك جدال حول اللفظة)، لا تلك التي تعني الكهنة. فالحضور الموازي للرئيس والكهنة الصادوقييّن، ليس بغريب عن هذا الوضع. ولكن الحالة ستتبدّل في النصوص الكهنوتيّة وفي تلك التي دوّنت بعد المنفى.
خاتمة
جاء حزقيال بين التقليد الاشتراعي والتقليد الكهنوتي، فثبّت أمورًا من الأول وهيّأ الطريق للنصوص الكهنوتيّة. معه انحصر العمل الكهنوتي في جماعة صادوق، وما عاد لللاويين من مركز في التنظيم الكهنوتي الجديد. صار الرئيس على مستوى الكهنة، بعد أن كان على رأسهم، بانتظار أن تُعطى كل السلطات لعظيم الكهنة في التقليد الكهنوتي. فلا يعود يُذكر "الرئيس". أما هذا الذي حدث في زكريا الأول ساعة غاب زربابل الذي هو من أصل داود وأخذ مكانه عظيم الكهنة يشوع الذي سمع الكلام الذي قاله الرب لداود في بداية الملكية: "إن سرت في طرقي وعملت بأوامري.." (زك 3: 6- 10)؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM