الفصل التاسع: إرشادات أولى

الفصل التاسع
إرشادات أولى
3: 1- 9 أ

ونصل هنا إلى العمل الخلقيّ لدى المؤمنين (3: 1- 4: 1) مع فصول ثلاثة: ارشادات أولى (3: 1- 9 أ). من الانسان العتيق إلى الانسان الجديد (3: 9 ب- 17). علاقات جديدة بين المؤمنين (3: 18- 4: 1). ونبدأ بدراسة عامة لهذا القسم الثالث (3: 1- 4: 1)، بعد قسم أول (1: 24- 2: 5) حول جهاد الرسول، وقسم ثان (2: 20- 23) حول الأمانة للانجيل الذي تسلّمه الكولسيون. أما موضوع هذا القسم الثالث فقداسة المؤمنين.

1- التأليف
بعد أن بيّن الكاتب للكولسيين لماذا يجب عليهم أن يرفضوا ما يأمرهم به هؤلاء "المعلّمون"، ها هو يوسّع كلامه في كل أبعاد الحياة الخلقيّة. بعد مقدّمة (آ 1- 4) تعلن قسمين من الارشادات (آ 5- 17)، نقرأ هذه الارشادات بما فيها من تجرّد عن الانسان القديم لكي نلبس الانسان الجديد. وينتهي هذا القسم بسلسلة تحريضات تتعلّق بالحياة داخل "البيت" في المعنى الواسع (3: 18- 4: 1). ويأتي 4: 2- 6 فيختتم هذه الارشادات ويوسّعها.
تبدأ الارشادات الخلقيّة، على غير ما في الرسائل الكبرى، بموضوع: كرستولوجي: "قمتم مع المسيح، فاطلبوا ما هو فوق حيث يقيم المسيح جالسًا عن يمين الله". وإذ يفعل الكاتب هذا، يواصل كلامه في خطّ ف 2 حيث البرهان كان من الطبيعة عينها: كائن المؤمن الذي قام مع المسيح، هو الذي يحدّد طريقة العمل لدى المؤمنين.
والرسمة التي تلي تبيّن أن جسم هذا القسم بُني مثل 2: 8- 19: ما يسند التحريضات الجانبيّة ويجمعها هو تأمّل في الكائن الجديد في المسيح.
آ 5- 9 أ: تحريضات (رج 2: 8)
آ 9 ب- 11: أسباب كرستولوجيّة (رج 2: 9- 15)
آ 12- 17: تحريضات (رج 2: 16- 19).
وهكذا يشدّد القسم الخلقيّ بطريقته على أن الكرستولوجيا اجتاحت كل أبعاد الوجود المسيحيّ. ويبيّن بشكل خاص أن البعد الخلقي هو في نظر كو، بُعد ينكشف فيه ملءٌ تقبّله المؤمنون لكي يشاركوا فيه: العمل الخلقي لدى المؤمنين هو في الوقت عينه ثمرة ملء يعيشونه مع المسيح، والموضع الذي فيه يُقرأ هذا الملء.
والطريقة التي بها يبدأ الكاتب غريبة. يذكر أولاً قيامة المؤمنين مع المسيح (آ 1) ثم موتهم (آ 3). وأسباب هذه الغرابة هي أسلوبيّة ولاهوتيّة: ستعود تحريضات آ 1- 4 في شكل معاكس فيما بعد، لأن الكاتب يريد أن ينتهي من التوصيات الايجابيّة، ليبرز الطريقة التي بها يستطيع المؤمنون أن يحيوا الكيان القائم مع المسيح والملء الذي نالوه. وهكذا تبدو المقدمة (آ 1- 4) وجسم القسم (آ 5- 17) بشكل دائرة، قلنا في معرض كلامنا عن 2: 6- 23، إنها تميّز التحريضات البولسية:
(1) أ- سبب كرستولوجي: قمتم مع المسيح (آ 1 أ)
ب- تحريضات. معارضة بين
* السماوي الذي نرغب ونفكّر فيه (آ 1 ب- 2 أ): ما هو فوق.
* الأرضي الذي لا نفكّر فيه (آ 2 ب): ما هو على الأرض.
أ أ- سبب كرستولوجي: متّم مع المسيح، وحياتكم مستترة (آ 3- 4).
(2) أ- تحريض لنميت الانسان الأرضي (آ 5- 9 أ)
ب- السبب: خلعتم الانسان العتيق (آ 9 ب)
لبستم الانسان الجديد (آ 10- 11).
أ أ- تحريض لعيش الجديد في المسيح (آ 12- 17)
تحريض من أجل الحياة العائليّة (3: 18- 4: 1).

2- التأويل
بعد المبادئ العامة (آ 1- 4) نتعرّف إلى العمل الخلقيّ في تعابيره السلبيّة (3: 5- 9).
أ- المبادئ العامة (آ 1- 4)
أولاً: قمتم مع المسيح (آ 1)
يبدأ القسم (3: 1- 4: 1) بكلام عن الكائن القائم مع المسيح، ويدلّ بوضوح (مع "أون" إذن أو حرف الفاء في العربية) على أن العمل الخلقيّ لدى المؤمن يرتبط بوضعه الذي هو كائن يحيا من حياة المسيح نفسها. ولا حاجة إلى تصوير وضع المؤمن هذا، لأنه قد صوِّر في ف 2 (2: 12). لهذا، سيكون منطلقًا لتحريض الرسول. ومن المهمّ أن نرى كيف يربط الكاتب، في هذا القسم، عمل المؤمن بالمسيح: هل حين يتّخذ المسيح كمثال لعمله (إفعلوا كما فعل)؟ هل حين يطيع أقوال المسيح ووصاياه (إفعلوا ما يقول لكم)؟ وبالنظر إلى نمط من العمل معلن، هل يتوافق مع الحياة في المسيح (نبييِّن غنى قيامته وحياته)؟
واختار الكاتب أيضًا طريقة أخرى، فدعًا المؤمنين إلى أن ينظروا "حيث هو المسيح، عن يمين الله". أن يرغبوا في "ما هو فوق". نحن هنا في البداية، وسوف ننتظر جسم القسم لنعرف ماذا يجب أن نفهم بـ "اطلبوا ما هو فوق". فقد تُشير العبارة إلى هرب من واقع العالم، أو إلى خلفيّة يوتوبيّة لا يمكن ممارستها: هل على المؤمن أن يتأمّل في المُثل السماويّة لينظّم سلوكه بحسبها؟
فماذا تقول آ 1 أ؟ لا تقول إن على المؤمنين أن ينظروا المسيح الذي من تحت. بل: بما أنهم قاموا معه، فهو إذن معهم. فعليهم أن ينظروا أمور المكان الذي يقفون فيه، الأمور التي هي فوق. وتقدّم لنا آ 1 بداية الجواب حين تعلن أن المسيح "جالس عن يمين الله". فعليهم أن يوجّهوا سلوكهم اليومي ناظرين إليه. أي في الطاعة له. ولكن كيف نعرف إرادة القائم من الموت؟ هذا ما يجيب عليه القسم كله.
ثانيًا: اهتموا لما هو فوق (آ 2)
ويتابع الكاتب استعارته المكانيّة حتّى النهاية دون أن يحافظ محافظة تامّة على الألفاظ: ليس التعارض بين السماء والأرض. ولا بين فوق وتحت. بل بين فوق والأرض. ونفهم الآن لماذا لم يُقل للكولسيين (أو للمؤمنين) إنهم "في السماوات": فقد يظنون أنهم يُدعون لأن يعيشوا في الحلم. ولكن مع ذلك، يجب عليهم أن لا يفكّروا (فروناين) في "أمور الأرض" (رج 1: 20. ما هو ثقيل فيمنعنا من الانطلاق). ما هي "أمور الأرض" هذه؟ ستحدَّد في ما بعد. ولكن إذ يدعونا الكاتب مع هذه التوصية الثانية بأن لا "نفكّر" في أمور الأرض، فهو يعلن سلسلة التحريضات السلبيّة التي نجدها في آ 5- 9 (لا يكذب بعضكم على بعض...).
ثالثًا: متّم وحياتكم مستترة (آ 3)
قال الكاتب إن المؤمنين قاموا (هم قائمون مع المسيح) مع المسيح. إذن، هم أحياء. وها هو يضيف: "متّم، أنتم مائتون". لا يستطيع المؤمنون أن يفكّروا في أمور الأرض، لأنهم ماتوا عن أمور الأرض. ما عادوا متعلّقين بها. فينبوع قراراتهم ورغباتهم هو منذ الآن في المسيح.
إن فعل "أميتوا" لا يحمل المعنى الذي نجده في "نكروس" (2: 13) الذي أشار إلى الموت الروحي. بل هو يشير بالأحرى إلى الدفن كما في 2: 12. قد يقال أننا أمام تناقض: إذا كان المؤمنون قد ماتوا، فكيف يمكن أن يكونوا بعدُ مائتين؟ هنا نتذكّر أن الفعل هو في صيغة الماضي وهو يعود بنا إلى المعموديّة: فالمسيحيّون مرّوا في الموت، مثل المسيح، لكي يدخلوا في حياة القائم من الموت ويحيوا من حياته (رج 6: 9). فالموت الذي تتكلّم عنه الآية، هو "موت عن" كما في روم 6: 2، 8، 10 (بهذا المقطع ترتبط كو 2: 13 و3: 1- 2). ويدلّ النصّ في موضع آخر كيف يجب أن يُقرأ، لأنه ينتقل من صيغة الماضي (سبق وماتوا) إلى الحياة الحاضرة: "حياتكم قد استترت مع المسيح في الله" (نحن أمام وضع بدأ في الماضي ويتواصل حتى الآن: كانت حياتكم مستترة ولا تزال).
وهكذا حصل الموت في الماضي. أما الحياة فتميّز الحاضر. فإن ذكرَ الكاتبُ الموت، فلكي يُبرز الوحدة بين المسيح والمؤمنين، وهويّة مسيرتهم. فكما أن المسيح مات وقام، ولكنه يبقى مستترًا (غير منظور) عن أعين الجسد، كذلك المؤمنون الذين ماتوا وقاموا معه، لا يظهرون أيضًا في المجد معه، إلاّ حين يظهر هو كذلك.
رابعًا: ومتى ظهر المسيح (آ 4)
هذه الآية هي امتداد للآية التي سبقتها، ولا علاقة لها في الظاهر مع التحريضات الخلقيّة، ولكنها في الواقع تشير بشكل ضمنيّ إلى الرباط بين حياة المؤمنين الخلقيّة والمجد المقبل: خُلق المؤمن للمجد، وهو لا يستطيع أن يعيش حياته الخلقيّة وكأن الأمر ليس كذلك (لا تقول هذه الآية إن المجد المقبل يرتبط بالعمل الخلقيّ لدى المؤمنين).
ولكن الكاتب يؤكّد بشكل خاص على أنه يكون للمؤمنين تجلّيهم المجيدُ، وأن هذا التجلّي يرتبط بالتجلّي الأخير، تجلّي المسيح: فالحياة مع المسيح التي بدأت في المعموديّة، لا تنتهي. وهكذا يماهي الكاتب بين المؤمنين والمسيح في ثلاثة أحداث في حاسمة: الموت، القيامة، المجد.
إن الفعل الذي عبّر عن تجلّي المسيح المجيد والنهائي هو "فانرون" الذي استُعمل في 1: 26 (رج 4: 4) ليدلّ على تبشير الرسل بالسرّ. نحن نرى لماذا استعمل الكاتب ذات الفعل: (1) في 1: 26 و2: 4 نحن أمام تجلّ (2) رسميّ. يدركه الجميع (3) للمسيح الذي كان من قبل مستترًا. وكما أن السرّ يدلّ على مجيء المسيح وحضوره بين الأمم، كذلك يكون التجلّي الأخير تجلّي المسيح وجميع المؤمنين معه. مصيرهم يرتبط كله بمصيره. وكان 2: 13 قد أتاح لنا أن نشير إلى الاختلاف بين روم وبين كو حول قيامة المؤمنين (ما تمّت بعد في روم 6، ولكنها تمّت في كو 3: 1).
المسيح هو "حياتكم". رج غل 2: 20؛ فل 1: 21. نفهم اللفظة في طريقتين: (1) المسيح هو مثال حياة المؤمنين. (2) حياته كقائم من الموت هي الحياة التي ينالها المؤمنون في العماد، والتي تنعشهم في كل شيء، على المستوى الكنسي والاجتماعي والخلقيّ. يبدو أن السياق لا يقبل بالطريقة الأولى. ومن خلال طريقة الكلام عن حياة المؤمنين، نلاحظ التدرّج من 2: 13 إلى 3: 4. في 2: 13، قال الكاتب فقط إن الله أحياهم مع المسيح. إن عبارة "مع المسيح" دلّت على القرب، لا على التماهي في الحياة: هنا حياة المؤمنين هي حياة المسيح (وليست فقط قريبة من حياة المسيح).
صوّرت آ 1- 4 حياة المؤمنين في علاقتها بالمسيح، فشدّدت كيف أنهم نالوا كل شيء فيه ومعه. يبقى أن نرى كيف أن حياة المسيح هذه التي نالوها، تدفعهم إلى العمل.
ب- العمل الخلقي في تعابيره السلبيّة (آ 5- 9)
نذكّر أن آ 5- 9 قد أشارت إليها آ 2 ب: "لا أمور الأرض"، وأنها القسم الأول في جسم القسم (3: 1- 4: 1). نحن هنا أمام رسمة عرفتها الرسائل الكبرى:
- لائحة الرذائل: آ 5- 8؛ رج 1 تس 4: 3- 6 أ؛ غل 5: 19- 21 أ؛ أف 4: 31؛ 5: 3- 4.
- إشارة إلى دينونة الله: آ 6؛ رج روم 1: 32 أ؛ غل 5: 21 ب؛ 1 كور 6: 9 أ، 10 ب؛ أف 5: 5؛ (1 تس 4: 6 ب).
- تعارض بين العمل السابق (في الماضي، من قبل، بوتي) السلبي، والعمل الحاضر (الآن، نين) الايجابي: آ 7- 8؛ رج غل 5: 24؛ 1 كور 6: 11؛ أف 5: 8.
- يقابل هذا لائحة فضائل: آ 12؛ رج غل 5: 22- 23؛ أف 4: 32؛ 5: 9.
مع لائحة الرذائل والفضائل، نحن في فنّ أدبيّ على المستوى الخلقي، مع لائحة تساعد على الحفظ في الذاكرة، على التعليم والتحريض، وقد تأثّرت بالفلسفة الرواقيّة (وربّما بالعالم اليهوديّ).
أولاً: أميتوا أعضاءكم (آ 5)
تستعيد هذه الآية آ 2 ب (في المقدمة) وتبدأ الجزء الأول من التحريضات. إن هذا التحريض يناقض في الظاهر الأقوال السابقة: إذا كان الانسان العتيق مات في المعموديّة، فلا يبقى على مستوى المبدأ أيّ شيء نميته. إذا قرأنا روم 6: 1 (إحسبوا أنفسكم أمواتًا للخطيئة أحياء لله في المسيح يسوع)، نجد أن العمل يجب أن يتوافق مع الكيان. أما كو 3: 5، فيبدو وكأنه يقول إن ما تمّ في المعمودية يجب أن يتمّ أيضًا. ولا تشرح كو لماذا عملُ الموت (عن الخطايا) والقيامة مع المسيح، الذي تمّ في المعموديّة، يجب أن يتحقّق أيضًا بشكل تدريجيّ في الحياة اليوميّة.
ولكن هذا الجزء التحريضيّ ليس مقالاً حول العلاقة بين الكيان مع المسيح (في صيغة الحاضر- يصوَّر) والعمل الخلقيّ (صيغة الأمر، إفعل). ثم يجب أن لا نفهم التحريض كما لو أن انسان الخطيئة العتيق ما زال حيًا في المؤمن، لأن آ 9 تناقض هذا القول. في الواقع، إن السياق اللاحق يتيح لنا أن نفهم التوصية كطلب لكي لا نعود إلى الحالة السابقة للارتداد: لا تتصرّفوا الآن كما كنتم تتصرّفون من قبل.
ماذا يعني الكاتب بعبارة "أعضائكم الأرضية"؟ هل أعضاء الجسد في الانسان (مثل العين واللسان واليد والرجل...)؟ هل أعضاء الكنيسة الذين يسيئون التصرّف؟ هل الأعمال السيّئة؟ إن السياق اللاحق يدلّ أننا أمام الأعمال السيّئة التي تقابل الأعضاء التي بها نفعلها. لا يطلب الكاتب من المؤمنين أن يقلعوا عيونهم ويقطعوا لسانهم، بل أن يزيلوا كل عمل تقوم به هذه الأعضاء، وهو لا يليق بالحياة مع المسيح.
إن لائحة الرذائل الخمس لا تشير إلى طرق حياة معروفة في كولسي، بل إلى فوضى جنسيّة اعتبرها العالم اليهوديّ وبعده العالم المسيحيّ نموذجيّة في العالم الوثني. "بورنايا" (الزنى). تدلّ على كل علاقة جنسيّة محرّمة. "اكترسيا" (النجاسة، واللاطهارة): تدلّ على سلوك جنسي لاأخلاقي (روم 1: 24). "باتوس" (الاهواء): تدلّ على الأصل الداخليّ، على ينبوع الفوضى الجنسيّة. "ابيتيميا" (الشهوة). هي رديئة لأنها تريد أن تضع يدها على ما يملكه الآخرون ولا سيّما الجسد. "بليوناكسيا" (الطمع، الجشع): تجعل الانسان عبدًا، عابد أصنام (المال) ولبعده عن الله.
تنطلق هذه اللائحة من النتائج إلى الأسباب، فتبرز بإيجاز سلوكَ الذين لا يعرفون الله فصار وضعهم ميؤوسًا منه.
ثانيًا: غضب الله (آ 6)
ويتبع لائحةَ الرذائل (كما عند بولس وفي العالم اليهوديّ) ذكرٌ للدينونة المقبلة في لغة تقليديّة. إن آ 6 ب (ضد أبناء الكفر) لا توجد في البردية 46 ولا في الفاتيكاني. ولكن الطابع التقليديّ للنصّ لا يتعارض مع السياق وقد يدلّ على أصالته. وسواء أبقينا عليه أو تركناه، فمعنى الآية لا يتبدّل.
عادت بنا العبارة إلى دينونة الله، فدلّت على أن الله في الدينونة الأخير لن يترك الشّر إلاّ ويغلبه فيظفر من اللابرّ والجور. وقد سمّى أولئك الذين يتحمّلون الغضب (أورغي) كما في العالم اليهودي: "أبناء المعصية".
ثالثًا: سلكتم من قبل (آ 7)
"في هذه الرذائل أنتم أيضًا سلكتم حين كنتم عائشين فيها". إن "سلك" (باريبتاين) يقابل "عاش" (زين). في الواقع أراد الكاتب أن يشدّد على أن العمل الخلقيّ الشرّير يعبّر عن حياة اعتادت أن تكون رذيلة. هذا إذا تركنا جانبًا آ 6 ب وأخذنا بالنص القصير. أما إذا أخذنا بالنص الطويل نقول: "الأشرار الذين بينهم سلكتم أنتم أيضًا في ذلك الزمن". أو: "وأنتم أيضًا سلكتم في الوقت بشكل رذيل حين عشتم وسط الاشرار".
إن صيغة الاحتفال تدلّ على أن هذه الحياة المرتبطة بالرذيلة هي جزء من الماضي، وعلى أن الكولسيين تركوا سلوكهم الوثنيّ. ولكن، إن كان الامر هكذا، فلماذا يقول لهم بولس أيضًا أن يرذلوا الأرضي الذي سبق لهم ورذلوه؟ هل نحن أمام صورة أسلوبية أم هل يعني هذا أن المؤمنين الذين جاؤوا من الوثنيّة ما زالوا يحتاجون إلى بعض الوقت ليجعلوا تعلّقهم السخيّ والصادق بالانجيل أمرًا واقعًا على المستوى الأخلاقي؟ في الواقع، إذا كان تكرار الرذائل التي يهرب منها المؤمنون سببه أنهم يعيشون في عالم ما زال يجتذبهم ويجرّبهم، فهذا التكرار يعبّر بشكل خاص عن يقين يقول إن على الايمان بالانجيل أن يتجلّى على المستوى الخلقي من خلال رفض كل عبادة أوثان. وهكذا تظهر أهميّة الحياة الخلقيّة كأنها البرهان بأن الخلاص يعمل في المؤمنين.
رابعًا: اطرحوا كل هذا (آ 8)
تجاه حياة ماضية (بوتي) في الخطيئة، نجد "أما الأن" (نين دي) لحياة بحسب الانجيل. إن "الآن" يتعارض مع "من قبل" (آ 7)، فيدلّ على أن التبدّل لن يؤخّر إلى الزمن المقبل. ولكن ما يدهشنا هو أن النصّ لا يقدّم حالاً سلسلة من المواقف الايجابيّة، بل لائحة أخرى من خمس أو ست رذائل (رج آ 9 أ) يجب على المؤمنين أن يرذلوها، وهي تتعلّق خصوصًا بالكلام فتدمّر كل علاقة حقيقية: الغضب، السخط، الخبث، الشتيمة، الكلام القبيح، والكذب. من خلال هذه الرذائل نجد كل أنواع المواقف الشرّيرة. أما الترتيب فقد أملاه منطق العلاقة: انطلق الكاتب من ردّات الفعل العنيفة لاساءة ينالها الانسان (غضب، سخط) فانتقل إلى الشّر الناشط الذي يظهر بالكلام. وإذا كانت لائحة آ 5 تشير إلى رغبة في امتلاك الآخر، فلائحة آ 8 تشير إلى الرغبة في تدميره.
اعتبر بعض الشرّاح أن ما نقرأ في آ 5- 8 يعود إلى اللوحة الثانية في الوصايا العشر (زنى، سرقة، شهادة زور، رغبة في امتلاك مال القريب). ولكن إن قابلنا هاتين الآتين مع خر 20؛ تث 5، لا نجد سوى لفظة واحدة مشتركة بين النص. لهذا يجب أن نرى في هاتين اللائحتين بقايا فقاهة قدِّمت لوثنيين يريدون أن يدخلوا إلى الكنيسة، فاستلهمت ما قاله الفلاسقة والعالم اليهوديّ في ذلك الزمان.
خامسًا: لا يكذب بعضكم على بعض (آ 9 أ)
تنتهي الوحدة التفسيريّة مع آ 9 أ وفعل الأمر: لا تكذبوا. "بعضكم على بعض"، تدلّ على أعضاء الكنيسة. فهل هذا يعني أنه يحقّ لنا أن نكذب على الذين في الخارج، الذين ليسوا أعضاء الكنيسة؟ كلا. ولكن بما أن الانجيل هو "كلمة الحق" (1: 5)، فالمؤمنون لا يستطيعون أن يعيشوا فيما بينهم في الكذب. وإلاّ كانت حقيقة الانجيل في خطر.

3- نظرة عامة
* مات الكولسيون مع المسيح (2: 11- 20). فقطعوا بشكل جذريّ كل علاقة بالعالم الذي لا قيمة لديانته مهما كانت مشغولة في نظرهم. فهم مع المسيح قد قاموا أيضًا إلى حياة ليست من هذا العالم، بل نالوها من المسيح ونالوها ليعيشوها له. ويحدّد بولس الاتجاه بفعل في صيغة الامر، وحيد وايجابي، يتعارض مع المحرّمات العديدة التي يغرق فيها الهراطقة: "أطلبوا ما هو فوق" حيث المسيح جالس عن يمين الله (آ 1). لسنا أمام أمر بل أمام تذكير بمتطلّبات الوضع الجديد، التي هي قبل كل شيء نعمة. بعد أن قاموا مع المسيح، كيف لا يكون قلبهم حيث المسيح هو؟ كيف يقدرون أن يضعوا أمامهم غاية أخرى سوى ارضاء الرب والعمل بمشيئته؟
* هذا الاتجاه الجديد في حياة الكولسيين، يتعارض تعارضًا مطلقًا مع اتجاههم السابق، أو مع الاتجاه الذي طبعته الهرطقة بطابعها. لا مساومة ممكنة: حين يتعلّق قلب الكولسيين بالخلاص، ينفصل في الوقت عينه عن هذه "الأشياء الأرضيّة" التي هي مناسبة خطيئة ونجاسة، والتي سيطرت على الهراطقة (آ 2).
إن استحالة طلب "الأشياء التي على الأرض" هي بالنسبة إلى المؤمنين نتيجة موتهم مع المسيح (2: 11- 12 أ، 20). فهم بالنسبة إلى هذه الأشياء موتى ودّعوا والديهم وأصدقاءهم وأموالهم. ومع ذلك فهم أحياء. ولكنّهم أحياء بحياة جديدة، بحياة تفلَّتت من نظر البشر لأنها "مستترة مع المسيح في الله" (آ 3). تقبّلوها من المسيح وعاشوها من أجله (كور 5: 15)، فصارت في ملئها المسيح ذاته. لهذا في زمن الكنيسة، ما زال المؤمنون عائشين بعدُ في العالم، فهم: "مستترون مع المسيح في الله" (لا تُرى حياتهم العميقة).
فعلى المسيحيين الذين قال لهم الرسول "قمتم مع المسيح" أن لا ينسوا هذا أبدًا. فبالايمان وبالايمان وحده، يستطيعون (ويتوجّب عليهم) أن يعتبروا نفوسهم "قاموا مع المسيح"، وهم الذين ما زالوا عائشين في العالم الحاضر والذين سيموتون في يوم من الأيام. ولكن، وإن كانت حياتهم "مستترة مع المسيح في الله"، فهي لا تخسر شيئًا من واقعيّتها. بل هي في منأى عن عنف البشر وتقلّبات تاريخ هذا العالم. هي في موضع أمين حتّى يوم ظهور الربّ.
* فالكولسيون لن يكونوا دومًا في وضع أناس لا واقع لحياتهم (بما فيها من مفارقة)، إلاّ من أجل الإيمان ومن أجل الرجاء (آ 4). فالذي هو حياتهم، لن يظلّ دومًا "مستترًا في الله". فالكنيسة تنتظر مجيئه الذي سيكون تجليًا للعالم. ففي ذلك اليوم، يتجلّى أيضًا المؤمنون لأنه حياتهم. فيكونون ملء ما هم منذ الآن في الرجاء (روم 8: 23- 25). ولن يكون هناك توتّر بين وجودهم في بشريّتهم وفي العالم وبين حياتهم المستترة مع المسيح في الله. لأن هذه الحياة المستترة ستظلّ وحدها؟ وتتفتّح في هذا "المجد" الذي هو منذ الآن جسد المسيح الذي يشاركون فيه (روم 8: 17- 18).
* بدأ الإرشاد مع التحريض في 2: 2، 6، 7 الذي يمكن أن يتلخَّص في هذه الكلمات: "عيشوا في نعمة المسيح الذي به تؤمنون". ولكن وجب على الكولسيين ألا يصبحوا فريسة الهرطقة التي تستعبدهم لأشكال من التقوى البالية. من هنا كان التنبيه في 2: 8 ي. يبقى على الرسول الآن أن يذكّر الكولسيين بمتطلّبات الحياة المسيحيّة في وجهتها السبيّلة أولاً (اقطعوا كل علاقة مع أشكال الخطيئة المتنوّعة). ثم في وجهتها الايجابيّة (عيشوا في المحبّة التي توحّدكم بالاخوة، وبالشكل الذي يجمعكم إلى الله بالمسيح يسوع).
ربط الكاتب التحريض الذي يبدأ هنا (آ 5) بواقع أشار إليه في آ 3- 4: لقد مات المؤمنون عن العالم. فليستخلصوا النتائج (إذن) متخلّصين من خطايا البدن والجشع التي هي بقايا حياتهم الوثنيّة. ما هي هذه الأعضاء الارضية التي نميتها؟ أعضاء الانسان التي قال عنها يسوع بأنها سبب عثار (مت 5: 23- 30). أو نشاط الإنسان الخاطئ. وهناك محاولة أخيرة تجعل من "الأعضاء" أشخاصًا يتوجّه إليهم الرسول: "أيها الاعضاء، أميتوا الأشياء الأرضيّة مثل الزنى...". لا شكّ في أن المؤمنين، أعضاء جسد المسيح، قد ماتوا عن الخطيئة مع المسيح (2: 11، 20، 23). ولكق يبقى عليهم أن يشهدوا بشكل ملموس على أنهم قطعوا كل علاقة بالخطيئة. هم لا يميتون جسدهم، وهذا ما لا يدهشنا بعد شجب التقوى الزهديّة (2: 16- 23)، بل "الأشياء التي على الأرض"، بل كل أشكال الخطيئة بدءًا بالزنى والنجاسة...
إن تعداد الخطايا الجنسيّة، ينتقل من العمل إلى الشهوة التي تلد الخطيئة. أما "الجشع" (أو الطمع) الذي جعله الرسول مع الخطايا الجنسيّة، فهو الأكثر انتشارًا لدى الوثنيين. وهو عبادة أصنام. ويلي هذا التعدادَ ذكرٌ لدينونة تحلّ بالذين يقترفون مثل هذه الخطايا (آ 6).
* هذا التذكير جاء في وقته بالنسبة إلى الكولسيين (آ 7) لأنهم هم أيضًا، شأنهم شأنهم المسيحيّين الآتين من العالم الوثنيّ، قد عاشوا في هذه الخطايا التي ندّد بها الرسول. "ولكن الآن" (آ 8). في الوضع الروحيّ الجديد الذي صار لهم بالمعموديّة، عليهم هم أيضًا أن يتخلّصوا من الخطيئة بكل أشكالها. لا من الخطايا التي ذُكرت في آ 5 وحسب، بل من "الغضب والسخط...". أي الخطايا التي نقترفها ضدّ القريب بحيث تصبح الحياة الجماعيّة صعبة إن لم نقل مستحيلة.
وبين الخطايا التي نقترفها باللسان، يشدّد بولس بشكل خاص على الكذب (آ 9) الذي يسمِّم العلاقات بين المؤمنين أنفسهم. لا يستطعون أن يغشّوا بعضهم بعضًا بعد أن خلعوا الانسان العتيق مع كل أعماله.

خاتمة
تحدّثنا هنا عن الحياة كمشاركة في حياة المسيح مع النتائج التي تستتبع هذه الحياة. على المستوى السلّبي (2: 20- 23) نرفض "وصايا البشر". وعلى المستوى الايجابي (3: 1- 4) يدعونا النصّ لكي نطلب الخيرات العلويّة حيث يقيم المسيح. لكي "نهتم" لما هو فوق لا "لما هو على الأرض". بالمعموديّة متنا مع المسيح عن كل هذه الفرائض المتعلّقة بطهارة الأطعمة، واتحدنا بالمسيح. وإن ظلّت مشاركتنا في المسيح خفيّة، إلاّ أنها ستنكشف في كل بهائها عند تجلّي المسيح. عند ذاك تبدأ الارشادات حول حياة مسيحيّة في خط المعموديّة، ارشادات لنلبس الانسان الجديد ونخلع الانسان العتيق.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM