الفصل السادس: جهاد الرسول

الفصل السادس
جهاد الرسول
1: 24- 2: 5

يتميّز هذا المقطع بسلسلة من الأفعال في صيغة المتكلّم المفرد: الآن أنا أفرح. صرت أجاهد. أريد أن تعرفوا. أقول هذا. هو الرسول يدخل في جسد المسيح، في الكنيسة، ويدعو الموافقين لكي يلاقوه في هذا "الوضع". ويكون اللقاء على مستوى الفرح مهما كانت الآلام والصعوبات والاضطهادات. كان قد دعاهم في 1: 12 إلى أن يشكروا الله بفرح، وها هو يبيّن لهم كيف يفعلون: "أفرح في آلامي". هي فرحة التطويبات الانجيليّة مع اتجاه رسوليّ خاص: الآلام التي أقاسيها لأجلكم. لا ينظر بولس إلى نفسه، بل إلى المؤمنين الذين جاؤوا من عالم وثنيّ، والذين بسببهم هو يتألّم. إنه رسول الأمم لأجل هذا اضطهده اليهود. ولأجل هذا هو الان في السجن. ولكن بولس لا ييأس من آلامه، بل يرى فيها علامة على أن السرّ الذي كان خفيًا حتى الآن تحقّق في الكنيسة.

1- التأليف
نجد قسمين في هذا المقطع.
أ- الرسول واعلان السرّ لكل انسان (1: 24- 29)
آ 24: أفرح
آ 26- 28 أ: أعرّف
غنى مجد السرّ
آ 28 ب: لنجعل كل انسان كاملا في المسيح
آ 29: ففي ذلك أتعب وأجاهد.
ب- الرسول وشرعيّة إيمان الكولسيين (2: 1- 5)
آ 1: أريد أن تعرفوا أيّ جهاد
آ 2 أ: تتشدّد قلوبهم...
آ 2 ب- 2: كل غنى
نحو معرفة سرّ... المسيح
آ 5: أفرح.
إن عودة الألفاظ عينها تدعونا إلى قراءة المقطع كسلسلة من المعلومات تأتي بشكل تصالب حول الجهاد الذي يقوم به بولس من أجل الكنائس. ولكن استعادة 1: 24- 29 في 2: 1- 5 لا يشكّل برهانًا لتوحّد المقطعين. ولماذا لا نرى في 2: 1 بداية قسم ينتهي في 2: 23؛ لأسباب عديدة. (1) بعد 2: 6، يخرج بولس عن المسرح ويترك الدور الأول للكولسيين. (2) السبب الثاني هو بلاغي وها نحن نقدّمه.
بعد توسّعات كرستولوجية نستشفّ من خلالها برهانا لاهوتيًا، نتساءل: لماذا انتقل بولس الى موضوع لا يتعلّق به مباشرة وهو أتعابه وآلامه من أجل الكنائس؟ لا شك في أنها ليست المرة الأولى التي فيها يتكلّم بولس عن نفسه في بداية رسائله (غل 1- 2؛ 2 كور 1: 15- 24؛ فل 1: 12- 26). ومع ذلك فهو لا يفعل فقط لكي يعطي أخبارًا عن نفسه: فإن تكلّم عن سلوكه أو عمله، فليدلّ على الأهميّة التي يعلّقها على الانجيل وعلى الذين يبشرّهم به. فآلامه وجهاده تدلّ على هدف هذا الحديث الذي يلي فيشكّل برهانًا ينطلق من الوقائع عن قيمة التعليم الذي يعلن: فإن قام بمثل هذا الجهاد، فإن مرّ بمثل هذه المضايق، فلانه يتطلّع إلى الانجيل وأمانته في بناء أولئك الذين يتوجّه إليهم. وهكذا نرى لماذا يشكّل 2: 4- 5 جزءًا من هذه الوحدة. فملحاحيّة الجهاد تظهر هنا في ملئها، لأن حقيقة الانجيل مهدّدة في كولسي. وفي أي حال، كل الاشارات (على مستوى النحو والألفاظ والموضوع) تدعونا إلى أن نربط هاتين الايتين بما سبق، لأن بولس يتكلّم فيها عن خدمته من أجل الكولسيين. هذا من جهة. ومن جهة ثانية إن 2: 4 تهيّئ القسم التالي. هذه الظاهرة (تهيئة الموضوع التالي) تتكرّر فتجعل الأقسام ترتبط بعضها ببعض لتكوّن براهين مترابطة ترابطاً عضويًا. إن آ 23 ب (أنا بولس، خادم الانجيل) تهيّئ القسم الأول (أ) الذي يبدأ في 1: 24 وينتهي في 2: 5. وإن 2: 3- 4 تهيّيء القسم الثاني (ب) الذي يبدأ في آ 6 وينتهي في 2: 23. وإن 2: 20- 23 يدشّن موضوع القسم الثالث (ج) الذي يبدأ في 3: 1 وينتهي في 4: 1.
ما يلفت النظر هو تكرار لفظة سرّ (مستيريون) التي تحلّ محلّ انجيل الذي استعمل حتى الآن (1: 5- 23). إذا كان الانجيل قد قيل ليعلَن على كل انسان إطلاقًا، فلماذا استعمال كلمة سرّ التي تجعلنا في عالم المتدرّجين؟ وما يلفت النظر أيضًا هو ألفاظ المعرفة (رج 1: 9- 10) المرتبطة بالسرّ. وها نحن نذكرها. "فاناروو": أعلن في 1: 26؛ 3: 4 (مرتين)؛ 4: 4؛ أف 5: 13؛ 1 تم 3: 16؛ "غنوريزو" عرّف، أعلم في 1: 27؛ 4: 7- 9؛ أف 1: 9؛ 3: 3، 5، 10؛ 6: 19. "ابيغنوسيس"، معرفة في 1: 9، 10؛ 2: 2؛ 3: 10؛ أف 1: 17؛ 4: 13. "ابيغينوسكو"، عرف في 1: 6؛ "غنوسيس" معرفة في 2: 3؛ أف 3: 19؛ "غينوسكو"، عرف في 4: 8؛ أف 3: 19؛ 5: 5. "سوفيا" حكمة في 1: 9؛ 1: 28؛ 2: 23؛ 3: 16؛ 4: 5؛ أف 1: 8، 17؛ 3: 10. "سيناسيس"، فهم في 1: 9؛ 2: 2؛ أف 3: 4. "أويدا"، عرف في 2: 1؛ 3: 24؛ 4: 1، 6؛ أف 1: 18؛ 5: 5؛ 6: 8، 9، 21. ولكن ما يلفت النظر أخيرًا هو غياب جذر "كشف" الذي نجده في أف 3 حيث يبدأ بولس فيكشف السرّ الذي أعطي له وللرسل القديسين والأنبياء.

2- التأويل
أ- الرسول وإعلان السرّ لكل انسان (1: 24- 29)
إذا نظرنا إلى نوعيّة العلاقات المصوّرة هنا، نكتشف منطقًا حقيقيًا في آ 24- 29.
أ- آلام بولس من أجل الكنيسة (آ 24)
ب- خدمة بولس في الكنيسة (آ 25)
ج- الموضوع: السرّ والأشخاص الذين يوجّه إليهم (آ 26)
ج ج- الموضوع: البعد المجيد للسرّ والأشخاص الذين يوجّه إليهم (آ 27)
ب ب- خدمة بولس الشاملة وغايتها (آ 28)
أ أ- آلام بولس (آ 29).
أولاً: أفرح الآن (آ 24)
هناك صعوبة. فهذه الآية تبدو وكأنها تعارض الخلاص (سوتيريولوجيا) الذي تمّ كما في الآيات السابقة (آ 13- 23)، وتقول إن آلام المسيح تحتاج إلى تكملة. ولكن حين نتبع النص اليوناني، نرى الأمور مختلفة.
* أجد فرحي في آلام (آلامي)
* من أجلكم
* وأتمّ ما ينقص من مضايق المسيح في جسدي
* من أجل جسده الذي هو الكنيسة.
لا نضع في عبارة واحدة "مضايق المسيح" من أجل جسده ونترك "في جسدي"، لأن بولس هو الذي يتألّم هنا ويدلّ على غائيّة آلامه (من أجل الكنيسة جسد المسيح). لا نترجم: "أكمّل في جسدي ما ينقص من مضايق المسيح"، بل "ما ينقص من مضايق المسيح في جسدي". إن مضايق (آلام) المسيح قد انتهت: إن كو تشدّد كل التشديد على الملء. على سموّ المسيح الممجّد (الآن مع الكليّة) الذي لا ينقصه شيء. ولا تقول كو أيضًا إن المسيح لم يتمّ ما وجب عليه أن يتمّه (1: 19- 20، 22؛ 2: 9- 10؛ 2: 13- 14؛ 3: 1)، كما لا تقول إنه لم يتألم بما فيه الكفاية ليُطلب من الرسول أن يتمّم الآلام الفدائيّة من أجل الكنيسة: حينئذ لا تكون وساطة المسيح كاملة، وهذا عكس ما تقوله الرسالة. فما ينقص بعد، وما يجب على بولس أن يكمّله هو مسيرته الخاصّة التي يسمّيها "مضايق المسيح في جسده" (في بشريّته، في لحمه ودمه)، والتي تستعيد مسيرة المسيح في طريقة حياته وألمه من أجل (أو بإعلان) اعلان الانجيل ومن أجل الكنيسة. بل يستحيل أن تلمّح "مضايق" آ 24 إلى موت المسيح، لأنها لا تعني أبدًا في الرسائل البولسيّة "آلام المسيح الفدائيّة" (رج روم 5: 3؛ 8: 35؛ 12: 12؛ 2 كور 1: 4، 6- 8؛ 2: 4... اللفظة اليونانية هي "تلبسيس").
ألمُ الرسول هو من أجل الكنيسة. إن عبارة "هيبار هيمون" (من أجلكم) تذكّرنا بمقاطع يقال فيها أن المسيح مات "لأجلنا". ولكن الرسول لا يريد أن يقول إنه يزيد بعض الشيء على عمل المسيح الوساطي والفدائي، لأن كو تقول للكولسيين: لا وسيط إلاّ واحد، وقد نالوا جميع نعمه. ولكن بولس يتألم لخير الكنيسة، لمتانتها، لثباتها، لنموّها في معرفة الكنوز التي أظهرها الله في ابنه: كل ما يفعله ويتحمّله هو "لأجلها" لأنها جسد ربّه وهو خادم هذا الجسد (دياكونوس). لا يفرح بولس في الألم مثل مريض، بل لأن ما يحتمله يفيد الكنيسة، ولأن المضايق هي جهاد ضروريّ لكي يستطيع جميع الأمم (كل انسان) أن يسمعوا الانجيل ويؤمنوا به ويصيروا كاملين في المسيح.
إن لفظة "اكليسيا"، هنا وفي آ 18 أ، لا تعني جماعات المؤمنين في منطقة أو مدينة، بل مجموعة المؤمنين المشتّتين في العالم، والذين يقول عنهم بولس إنهم يكوّنون جسد المسيح: منذ الآن يُنظر إلى الكنيسة ككيان شامل وكوني ومسيحاوي. وإن لم تربط الآيات التالية ربطاً واضحًا بين البعد الشامل للكنيسة والسرّ، فلا بدّ من البحث هنا عن منطق مستتر: فقد فهم بولس (بوحي، أف 3) أن مضمون الانجيل ليس فقط مسيرة المسيح ووساطته، بل أيضًا وبشكل خاص حضوره التام والنهائي "وسط الأمم"، وهو حضور شامل، وعامل تجميع ووحدة وحياة ونموّ، بحيث يجعل من المؤمنين كيانًا واحدًا، يحدّده المسيح (جسد المسيح): للمرة الأولى، نستطيع القول إن الكنيسة جزء من مضمون الانجيل.
ثانيًا: كنيسة صرت لها خادمًا (آ 25)
بعد أن تحدّث بولس بإيجاز عن آلامه، وبيّن غائيتها، ها هو يدلّ على خدمته وأصلها الالهي وغايتها التي هي ملء تحقيق كلام الله.
في الرسائل الكبرى، قال بولس عن نفسه إنه "خادم" الله، خادم العهد الجديد (2 كور 3: 6؛ 6: 4؛ 11: 23). ولكنّها المرّة الأولى يعلن فيها أنه خادم الكنيسة أو خادم الانجيل (1: 23). إن لقب خادم الكنيسة لا يدهشنا، لأن بولس (حسب 1 كور 3: 5- 17) قد فهم دومًا مهمته في التبشير وتأسيس الجماعة كخدمة. ولكن الموضوع كان خدمة الله ومسؤوليّته في هذه الخدمة. ولكن إذا كانت كو جعلت من بولس خادم الكنيسة، فلأسباب قلناها في آ 24 حول علاقة السرّ بالكنيسة. فكما أن الانجيل والكنيسة هما منذ الآن واقعان مرتبطان في شخص المسيح (كرستولوجيًا)، فمن صار خادم الواحد (آ 23) صار خادم الآخر (آ 25). ولكن ما يلفت النظر هو أن بولس لا يتحدّث عن "النعمة التي أعطيت له" بل عن "خدمة الكنيسة" حسب وظيفة (أويكونوميا، تدبير) أعطاني الله إياها. وهكذا استعادت لفظة "اويكونوميا" وجهة الخدمة التي نجدها في "دياكونوس" مع بُعد جديد هو بُعد المهمّة والواجب والالتزام. ما تشدّد عليه هذه الآية، ليس العطيّة المجانيّة، بل المسؤوليّة التي تتضمنها "الوظيفة" التي نالها من الله.
وغائية هذه المهمة تفسّر الإلحاح على الوظيفة: فنحن أمام كلام الله، أمام السرّ الذي يجب أن يتمَّم: ما دام الانجيل لم يصل إلى كل خليقة، فهو لم يكتمل. هذا هو البعد المكاني. وهناك بعد آخر، البعد النوعي: تتمة الانجيل هي ثماره وكمال كل مؤمن في المسيح.
ثالثًا: السرّ المكتوم (آ 26)
بعد أن تحدّث النصّ عن خدمة بولس (رسول السرّ)، ها هو يتوقّف على ما يعلن الرسول لا ليحدّد المضمون، بل ليدلّ على خصوصيّات تجلّيه. كان السر موضوعًا، فصار ذاتًا وتركّز كل شيء عليه:
الموضوع: السرّ
العمل: "كان مكتوماً فظهر
الزمان: خلال الدهور والأجيال الآن
الأشخاص: الدهور والأجيال قديسيه".
إن فعل "كتم" (ابوكريبتاين) يدلّ على أن وظيفة "الدهور والأجيال" ليست فقط زمانية، بل تدلّ على الأشخاص الذين كتموا، أخفوا (كما في أف 3: 5). إذن، وظيفة الزمن ووظيفة الشخص الذي يفعل.
"أعلن". نحن في صيغة الماضي. ولكن هذا الماضي قد بدأ: هذا الحدث الماضي بدأ يُعلن. و"الآن" (نين) تدلّ على الحقبة الأخيرة التي دشّنها حدث، المسيح، وتشير إلى الاسكاتولوجيا. وهكذا نستطيع أن نقول: "في هذا الزمن، زمن النهاية الذي نحن فيه، أعلن السرّ". لا تعني لفظة "الآن" أن البعد المقبل للسرّ قد اختفى، بل هي تشدّد على ما هو حاضر الآن، على وجهة ما تمّ وحصل.
هنا نتساءل: هل نحن في خلفيّة جليانيّة؟ وفعل "أعلن" هل يشير إلى نشر الانجيل بواسطة إرسال أو اعلان مباشر من عند الله؟ يرتبط الجواب بهويّة من يرسَل إليهم. ما معنى "قدّيسيه"؟ جميع المؤمنين كما في روم 1: 7؛ 1 كور 1: 2؛ 6: 1- 2... أو مجموعة محدّدة (أف 3: 5: رسله القديسين والأنبياء)؟ إذا عدنا إلى استعمال "أغيوي" في كو، نقول إن النصّ يعني المؤمنين بشكل عام. ولكن الكاتب لا يريد أن يقول إن جميع المؤمنين (القديسين) عرفوا السرّ بوحي مباشر من الله وبدون إعلان رسولي. وإذا عدنا إلى دا 2: 19، 22، 28، 29، 30؛ 10: 11- 35، معرفة الأسرار تتمّ في شكلين مختلفين: بوحي مباشر من الله (ابوكالبتاين) ثم بالاعلان والنشر (غنوريزاين): لا يكشف الله أسراره إلاّ للذين اختارهم، وهم بدورهم يعرّفون العالم بها. هكذا هو الأمر في كو 1: 26. فولْي الرسالة ولاسيّما 4: 4 يؤكّد هذا التفسير لأن بولس يطلب من الكولسييين أن يصلّوا لكي أعلن (= السرّ) كما يجب أن أتكلّم عنه: وهذا الاعلان هو التبشير الرسوليّ. أجل، بولس يعلن السرّ لقدّيسي كولسي وللكنيسة جمعاء. اختلف بولس هنا عن أف 3: 1- 13، فما تحدّث عن الطريقة التي بها أوحى الله إليه بالسرّ: ما يريد هو التشديد على مسؤوليّته وعلى تعبه في إعلان السرّ ونشره. هنا نفهم لماذا لم يستعمل الرسول "كشف". فالمعلّمون يدعون المؤمنين ليرغبوا في الرؤى والايحاءات. أما كو فدلّت على أن الرؤى (تمنح ايحاءات جديدة) غير مفيدة، لأن المؤمنين نالوا كل شيء في المعموديّة.
رابعًا: غنى مجد هذا السرّ (آ 27)
بعد أن أشار الكاتب إلى طريقة نشر هذا السرّ، بدأ يعطينا مضمونه الكرستولوجيّ. في آ 26 كان الفعلان في صيغة المجهول. (المجهول اللاهوتي، الله هو الذي أعلن، كشف). أما هنا فذُكر "الله" الذي به ترتبط كل مبادرة في إعلان هذا السرّ وتتوضح الأدوار:
أ- الموجّه: الله (الفاعل القدير)
ب- الموضوع: (1) المسيح مع تشديد على كرامته السامية (المجد). (2) اعلان السرّ هو تجلّي مجد الله. (3) ليس السرّ فقط مخطّط الخلاص الذي (على سبيل المفارقة وبشكل نهائيّ) اتخذ جسدًا في المسيح (1 كور 2: 1 ي؛ روم 16: 25- 27)، بل مخطّط الله الذي أراد أن يُعلن أع ويكون حاضرًا لدى الوثنيين أو لدى الأمم.
ج- الموجّه إليهم: القدّيسون أي المؤمنون.
كيف نترجم "إن هيمين"؟ "فيكم". وهكذا يشدّد بولس على حضور المسيح في كل مؤمن. ولكن معظم الشرّاح يقولون: بينكم، في وسطكم. لا ننسى أن السياق يتحدّث عن الكرازة (آ 28): كرازة بين الأمم، كرازة بين المؤمنين.
هناك من قرأ آ 26- 27 على أنّ "القدّيسين" ليسوا من يوجّه إليهم السرّ، بل من يحملون هذا السرّ، من يعرّفون بهذا السرّ، وسط الأمم (رج روم 16: 25- 26). ولكن بُعد "أعلم" عن "الأمم" يمنع مثل هذا التفسير. "إلى القديسين وصل السرّ". هو "السرّ بين الأمم". ورأى آخرون أن آ 27 تستعيد روم 9: 22- 24، لأن النصيّن يذكران مخطّط الله من أجل الأمم، ويريان في عمل الله هذا قمّة مجد الله في قوّته وغناه. لاشكّ في أن حضور الانجيل (= المسيح) بين الأمم هو التجلّي الأخير والذي لم يُسمع به. فالأمم الوثنيّة ما كانت تنتظر المسيح، لأنه كان عليها أن تصعد إلى أورشليم المدينة المقدسة. ولكن مع اعلان المسيح، جاء الخلاص إلى الأمم حيث هم ليبقى في وسطهم بشكل نهائيّ في تنوّع حضاراتهم. وهكذا تبقى الأمم "أممًا" ولا يصيرون يهودًا. هذا هو السرّ السامي. "المسيح بينكم": إن حضور المسيح وسط الأمم (وبالأخص في كولسي)، بالاعلان والحياة التي تنتج عن هذا الاعلان، يدلّ على أن مخطّط الله الخلاصي قد بلغ هدفه.
ونستشفّ منذ الآن لماذا استعملت كو "مستيريون" (رج 2: 2- 3). "السرّ" يوصف في عبارتين متوازيتين تشدّدان على المجد: سرّ وسط الأمم غنيّ بالمجد. المسيح عندكم رجاء المجد. إن التشديد على المجد المرتبط بالمسيح يتحدّد في خط المقدمة: في المسيح أعطي كل شيء، أعلن كل شيء. والمجد هو مجد المسيح القائم من الموت. إذن مجد الله، مجد نرجوه، مجد ينتظره جميع المؤمنين.
خامسًا: الانسان الكامل في المسيح (آ 28)
وينتقل بولس إلى صيغة المتكلّم الجمع. فقد يدلّ الضمير (نبشّر، نحن) على بولس وتيموتاوس (1: 1) وابفراس (1: 7) وسائر المشاركين في العمل بمن فيهم ابفراس (4: 10- 14). ولكنه يدلّ بشكل خاص على بولس الذي يملأ الساحة بحضوره في 1: 24- 2: 5.
هنا نستعيد مركبات "السرّ" الأربعة كما أعلنت في آ 26- 27:
* التبشير به (كاتانغالاين). اعلان رسمي. كرازة رسوليّة، "ننصح (نحرّض) كل انسان. نعلّم كل انسان". إذن، التبشير عمليّة طويلة تمرّ في التحريض والاصلاح والتنبيه والتعليم. يُعطى التعليم والاصلاح بكل الحكمة المطلوبة لئلاّ تكون النتائج سلبيّة، لئلاّ يقود إلى الضلال والقنوط.
* موضوع التبشير هو المسيح، لا حقيقة مجرّدة. هو شخص أحبّ جميع البشر، وقد تعلّم البشر أن يعرفوه ويقابلوه الحبّ بالحبّ.
* البعد الشامل للتبشير: البشريّة كلَّها. تتكرّر ثلاث مرات عبارة "كل انسان". كلهم مدعوّون إلى أن ينتموا إلى جسم القديسين الكنسي، أن يعيشوا فيه، أن ينموا فيه بمعرفة الله والسرّ، دون حصر ولا تمييز. والشموليّة جزء أصيل في السرّ: لهذا، لا ينحصر التعليم والنصح في مجموعة صغيرة من المتدرّجين، بل يُعرضان على الجميع. قالت الأسفار الحكميّة إن الحكمة هي في متناول الجميع. ولكن تختلف كو عن الأسفار الحكميّة، التي تقول إن هذه الحكمة التي فيها يعبَّر عن مخطط الله في كماله، ظلّت مخفيّة على جميع الدهور. وهذا ما يدهشنا.
* هي تُدهشنا. لا ندهش فقط حين نعلم أن الانجيل يمكن أن يُعاش في جميع الحضارات، بل ندهش حين نعلم أنه جُعل ليعلن في العالم كله، ومع ذلك لم يفعل الله شيئًا ليعرّف به البشر حتى مجيء المسيح. لا يقول المقطع لماذا أخفى الله السرّ كل هذا الزمن، ولكن الجواب غير المباشر نجده في لفظة "سرّ".
* غاية هذا التبشير: "نجعل كل انسان كاملاً في المسيح". غاية إعلان السرّ خلاصيّة في جوهرها وفي شمولها. ولكن أي كمال نعني؟ وهل يحصل الآن أم في القيامة الأخيرة؟ إذا عدنا إلى 3: 14 و4: 14 والقسم التحريضيّ كله، نفهم أن الكمال المذكور في 1: 28 هو على المستوى الخلقيّ. وهو يصدر عن تجدّد المؤمنين الداخليّ: كمال المؤمنين هو "في المسيح"، وهو يرتبط بملئه وغناه.
وموضوع كمال المؤمنين ليس بالجديد. فهو يجد جذوره في العهد القديم (تك 6: 9 ونوح؛ سي 44: 17؛ تث 18: 13؛ 2 صم 22: 26)، في العالم اليهوديّ (مثلاً، نج 3: 9- 10)، وفي الكنيسة الأولى (مت 5: 48؛ 19: 21؛ روم 12: 2؛ 1 كور 2: 6؛ 14: 20؛ فل 3: 15؛ يع 1: 4؛ 1 يو 4: 18). غير أن هذا الكمال الذي إليه يُدعى كل انسان في المسيح، هو ممكن منذ الآن: في كو 3: 14 يفترضه الكاتب ممكنًا، حين يطلب من الكولسيين أن يحبّوا برباط المحبّة (اغابي) الكامل. إذن، ليس الكمال حلمًا محفوظًا لبعض الناس لزمن آخر أو للملكوت الآتي، بل واقع يشارك فيه منذ الآن كل مؤمن، وينفّذ متطلّباته.
ليست المرة الأولى التي فيها تتكلّم كو في عبارة مشابهة عن كمال المؤمنين. لماذا هذا التشديد؟ لأن التبشير بالمسيح (المسمّى هنا مستيريون) غايته كمال جميع الذين تلامسهم هذه البشارة. ونلاحظ هنا دور المسيح. فإن لم يكن الأمر هكذا، يبقى علينا أن نبحث عن وسيط آخر.
سادسًا: أتعب وأجاهد (آ 29)
بعد أن أورد بولس مركّبات "السرّ"، كرّر أنه لهذا يتعب (كوبياوو: عمل الأيدي كما في 1 كور 4: 12، والعمل الرسولي لخير الجماعات، روم 16: 6، 12؛ 1 كور 15: 10؛ 16: 16؛ غل 4: 11؛ فل 2: 16؛ 1 تس 5: 12). ويجاهد (اغونيزوماي، ضد الأعداء والصعوبات). ولكنّه لا يشدّد على الجهاد بقدر ما يشدّد على أشكاله. هناك قوّة المسيح العاملة. وهكذا يذكّر بولس أن البشارة بالانجيل ليست ذات بعد بشريّ، وأنها تفشل إن لم تسندها قوّةُ المسيح. في 1 كور 4: 7؛ 6: 7؛ 12: 9؛ فل 2: 13؛ 4: 13... تشدّد النصوص على قدرة الله. أما هنا فتشدّد كو على قدرة المسيح.
هناك علاقة قويّة (لا يمكن أن نتجاهلها) بين الانجيل وبولس على مستوى المضمون: فإذا كان بولس قد جاهد، فلكي يبقى الانجيل كما بشّر به وأوصله. ولكن بولس لا يستعمل سلطته ليسند براهينه. فالسلطة (رج 2: 1- 5) هي معرفة السرّ وغنى المسيح الذي اختبره المؤمنون: إن الكرستولوجيا قائمة في ذاتها وهي تعطي بولس سلطته ولا تأخد منه قوّتها. الكرستولوجيا هي البرهان الوحيد النهائي في الرسالة.
ب- الرسول ومتانة إيمان الكولسيين (2: 1- 5)
إن القسم الثاني من المقطع (2: 1- 5) يبدو في تأليف دائري، ولكنّه في خدمة ما تبقى من البرهنة، لأنه يدلّ على أهداف ملموسة في معرفة السرّ، من أجل جماعة المؤمنين:
أ- جاهد بولس من أجل الكولسيين ومن أجل الكنائس (آ 1)
ب- من أجل تعزيتهم لكي يبلغوا إلى المعرفة (آ 2 أ ب)
ج- معرفة سر الله (آ 2 ج- 3)
ب ب- لتقاوموا الخطب المموّهة (آ 4)
ب- سهر بولس على متانة إيمان الكولسيين (آ 5).
أولاً: أي جهاد أعاني (آ 1)
وها هو بولس يشير مرّة ثانية إلى جهاده بطريقة بلاغيّة. يعلن أولاً أنه أراد التكرار الذي يوافق رغبته. ثم يقول إن الجهاد قاس عنيف، وكل هذا من أجلهم لأنهم ينتفعون منه. وأخيرًا يفهمنا أنه لا يجاهد فقط من أجل الكنائس التي اسَّسها وعرفها معرفة شخصيّة، بل أيضًا من أجل تلك التي ما زارها أبدًا، مثل كولسي ولاودكية وغيرهما. وهكذا دلّ على الجديّة التي بها يمارس مسؤوليّته كرسول للأمم ويهتمّ بالجميع.
وتدلّ هذه الآية حين نقرأها في سياقها الكنسيّ، أن الصعوبات التي واجهها الكولسيّون، قد امتدّت إلى المنطقة كلها. مثل هذا الخطر دفع بولس بلا شكّ إلى أن يتدخّل شخصيًا فيشدّد على تعلّقه بمن يكتب إليهم وجهاده الناجح، أكثر ممّا يشدّد على سلطته الشخصيّة.
ثانيًا: لتتشدّد قلوبهم (آ 2)
وتقدّم آ 2 أسباب جهاد بولس (وبالتالي هدف هذا الجهاد) من أجل الكنائس. نقرأ "باراكالاين"، شدّد، عزّى. نحن أمام التحريض والتعزية لا الاصلاح والتوبيخ (رج 4: 8). (1) سبق لبولس وعبّر عن فرحه حين علم بمتانة إيمان الكولسييين. (2) ذكر جهاد النصر الذي يفترض وضعًا صعبًا، وهذا لا معنى له إلاّ إذا توخّى تشجيع الكولسيين. وهناك فعل "سيمبيبازاين" (1 كور 2: 16) الذي يعني "علّم"، "عرف". والمعرفة قد تدلّ هنا على الوحدة "التأموا في المحبة". وتأتي عبارتين مع "إيس": من أجل كل غنى ملء الفهم، ومن أجل معرفة سرّ الله، المسيح. الموضوع هو معرفة السرّ. إن سرّ الله الذي فيه أخفيت كل كنوز الحكمة هو المسيح. رج 1: 27. إذا كان كل مسيحيّ يقدر أن يصبح كاملاً في المسيح، فلأن فيه يسكن كل الملء الذي يُعطى لجميع الذين يؤمنون. لا تزاحم بين "كمال المؤمنين" (1: 28) و"ملء فهم السرّ" (2: 22). فالهدف الأخير هو بلا شك كمال (خلقي) كل واحد في المسيح. ومع ذكر المعرفة الكاملة للسرّ، للمسيح، يشير الكاتب إلى أن كمال المؤمنين يجد أساسه ومضمونه في المسيح: فحين يدخلون بشكل أعمق في السرّ يستطيعون أن يعيشوا غنى طرق الله لهم، الذي لا ينفد.
الألفاظ المستعملة هي ألفاظ العالم الجلياني اليهودي كما في قمران. يبقى أن نحدّد وظيفة هذه الخلفيّة ونشرح لماذا فضّلت كو أن تتكلّم عن السرّ لا عن الانجيل كما في 1: 23 ب الذي أعلن القسم الذي ندرس.
ثالثًا: كنوز الحكمة والعلم (آ 3)
إن ملء الفهم الذي يجب على المؤمنين أن يبلغوا إليه، يرتبط ارتباطًا واضحًا بملء المسيح "الذي كُتمت فيه كل كنوز الحكمة والمعرفة". أجل، كل هذا يعود إلى المسيح كما في 1: 27- 28؛ 2: 2- 3، لاسيّما وأن كو تشدّد على أولويّة وغنى الحياة في المسيح (2: 9- 15).
ما يلفت النظر حول الكمال الذي تؤكده الآية عن المسيح، ليس أن له الحكمة والمعرفة وحسب بل في أنه يمتلك ملئهما: كل حكمة وكل معرفة. إذن يجب أن نذهب إليه واليه وحده لننال الحكمة والمعرفة. ثم إن الكاتب لم يحتفظ إلاّ بالحكمة والمعرفة، لأنه جعل نفسه في خطّ الكتاب المقدّس والعالم اليهوديّ ليضع صفات الله في المسيح، ويدعو المؤمنين ليعرفوا فيه الملء الذي بدونه سيضلّون ويُحرمون من خيرات الله عينها. في الواقع، إن الاقوال الكرستولوجية في 2: 2- 3 (تستعيد وتكمّل ما في 1: 27) تهيّئ البرهان اللاحق (2: 9- 23) الذي سيستعيدها ويستند إليها (2: 9- 15) فيدلّ على أن ملء الوحي في المسيح يعفي المؤمنين من خطب وممارسات نسكيّة وسرية يقدمها معلّمون مزعومون (رج 2: 24؛ 2: 23). إن الطريقة التي بها يقدّم النصّ هنا المسيح تتحدّد بتوسّع البرهان.
رابعًا: لا يغويكم أحد (آ 4)
"أقول هذا": قد تعلن ما يلي، أو تعيدنا الى ما سبق؟ نقدر أن نقول: "قلت لكم هذا لئلا يغويكم أحد". وهكذا تدل الآية على وظيفة 1: 24؛ 2: 5: تقديم الأسس الكرستولوجية التي عليها يرتاح إيمان الكولسيين وما تبقّى من البرهان. وتقدّم الآية أيضًا للكاتب سببًا حاسمًا ليكتب الى جماعة لم يزرها أبدًا. أجبرته الضرورة فكتب.
"كلام مموّه" (بيتانولوغيا). براهين قد تقنع أو تجعل الخطبة معقولة. لهذا فهي خطرة. لها ظاهر الحقيقة فتجذب الانسان وتهدّد باقناعه. والعودة إلى أساس متين يقدّمه السرّ (أو النظرة الكرستولوجيّة السامية)، تبدو ضرورية.
خامسًا: أنا غائب في الجسد (آ 5)
لا تزيد هذه الآية شيئًا جوهريًا على مستوى الأفكار، ولكن وظيفتها البلاغيّة هامة: تتوخّى أن تؤكّد للقرّاء اهتمام بولس بهم وتنبّهه المتواصل لوضعهم: ما استسلموا للتجارب فصحّ فيهم قول بولس حول متانة الايمان في المسيح. وهكذا يستطيع الكاتب أن يواجه في القسم الثاني (2: 6- 23) المسائل العالقة.

3- نظرة عامة
نجد هنا قسمين. في قسم أول (1: 24- 29) نعرف ارتباط الكولسيين بخدمة بولس رسول الأمم. وفي قسم ثان (2: 1- 25) نعرف هدفه ونواياه.
أ- ارتباط الكولسيين ببولس
* كان بولس في السجن، فما عاد يستطيع أن يخدم الانجيل فيكرز به في العالم الوسيع. فلا يبقى له إلاّ أن يخدمه بآلامه التي يتقبلها بفرح. فالآلام التي يتحمّلها بسبب الكرازة، تنتمي، شأنها شأن الكرازة، إلى خدمته كرسول الأمم وتعمل على فاعليّتها. قد يستصعب الكولسيون أن يفهموا كيف أن آلامه في سجن بعيد قد تفيدهم. ليعرفوا أن يروا فيها وجهة من الخدمة التي يقوم بها الرسول من أجل الكنيسة كلها.
"وأتمّ في جسدي...". نحن لا نقول إن بولس "يكملّ" الخلاص الذي كان ناقصًا. إن المسيح حين أتمّ العمل الفدائي لاقى معارضة العالم. اصطدم بمقاومة دلّت آلامُه على عنفها. عرف المضايقَ وسيعرفها تلاميذه بدورهم وللأسباب عينها (مت 10: 24- 28؛ يو 15: 18؛ 21: 16- 33). ولكن بولس لا يرى في ضيقاته ضيقات كل تلميذ وحسب، بل يربطها بضيقات المسيح باسم الطابع الفريد لرسالته كما يعيها. فهو، بدعوته، رسول الأمم (روم 1: 5- 14: 15: 15- 16؛ غل 1: 15- 16؛ 2: 7- 8). وارتداد الأمم هو حدث حاسم في نهاية الأزمنة (روم 11: 25- 26) والنهاية الحقيقيّة للمخطط الفدائي في تاريخ هذا العمل.
في هذا المنظار الاسكاتولوجيّ، ترتدي ضيقات بولس في نظره أهميّة فريدة. فإن وجب عليه أن يتألم بعد المسيح، وإن كانت هذه الآلام الرسوليّة تضاف إلى آلام المسيح، فلأن عمل المسيح لم يصل بعد الى هدفه. فالانجيل لم يُكرز به بعدُ على جميع المسيحيّين، وكنيسة الله لم تجتمع بعد، ونموّ جسد المسيح لم ينته (2: 19؛ أف 4: 12- 13، 16). ما ينقص للبلوغ إلى هذا الهدف هو أن يواصل بولس الكرازة بالانجيل للوثنين فيتألم في هذه الخدمة الفريدة ما يجب عليه أن يتألم. لقد تيقّن بولس كل اليقين أن الله يستعمل آلامه كرسول الأمم لكي يقود الكنيسة إلى قامتها النهائيّة.
* بما أن الكولسيين ينتمون إلى جسد المسيح، فهم يفهمون أن بولس السجين في البعيد يستطيع أن يتكلّم عن فرحه لأنه يتألّم من أجلهم بعد أن صار "خادم الكنيسة". وتابع بولس كلامه: "حسب مخطط الله الذي كلّفتُ بتنفيذه في ما يخصّكم ". لم يتعدَّ بولس على صفة "خادم الكنيسة" التي منحه الله إياها في إطار المخطط الفدائي الذي يواصل تحقيقه مع هدف خاص في ما يتعلّق بالكولسيين: "تتميم كلمة الله" أي الكشف عن كل معناها وكل فاعليّتها. فهذا الانجيل قد كُرز به في كولسي (آ 2- 6: 23) وهو يعمل فيها (آ 6). غير أن الكولسيين لا يدركون كل مضمونه إدراكًا واضحًا من أجل تصرّفهم الحاضر (آ 9 ب، 10، 11)، أو من أجل مصيرهم الأبديّ (آ 5، 12، 23 ب). في هذين الاتجاهين أظهرت كلمة الله "فجوات" (هستاريماتا، 1 تس 3: 10) قد تستفيد منها دعاية الهراطقة، إن لم يردمها بولس فيعرّف بكل نعمة كلمة الله ومتطلّباتها.
* ويتوقّف بولس مطولاً عند كلمة الله فيشرحها: هي السرّ المكتوم منذ الدهور الذي لم يعرفه أحد من قبل، بل لم يستشفّه. أما الآن، ولأن الحدث المركزي في تاريخ الخلاص قد حصل، فقد كُشف هذا السرّ لقدّيسي الله أي للمؤمنين، للكنيسة. ولكن لا يكفي أن نتكلّم عن هذا السرّ، بل يجب أن نعرف "غنى مجده" (آ 27) الذي سُرّ الله أن يعلنه لا في قلب الشعب المختار، الذي احتفظ حتى ذلك الوقت بالوحي (روم 3: 20)، بل وسط الوثنيين الذين ظلّوا حتّى ذلك الوقت مفصولين فصلاً جذريًا عن شعب الله وغرباء عن عهده. ففيهم يشعّ الآن مجد "السرّ" الذي كُشف، والحدث الاسكاتولوجيّ الذي تحدّد منذ القديم في مجلس الله، والذي حصل الآن.
حينئذ يحدّده بولس بالنسبة إلى الكولسيين، الذين هم وثنيون في الأصل. وقد امتدّ عليهم نوره منذ زمن قصير: "المسيح في وسطكم رجاء المجد". فالواقع غير المنتظر، هو أن المسيح حاضر في كنيسة كولسي، يحمل إليها غفران الخطايا والتقديس والفداء. ونعمته الحاليّة تحمل فيها رجاء تتمّتها في يوم الربّ، "رجاء المجد". كان الكولسيون في الماضي وثنيين. وها هم "يشاركون في نصيب القديسين في النور" (آ 12). ذاك هو بالنسبة إليهم "الغنى" و"مجد" السرّ الذي تمّ الآن في المسيح وكُشف للكنيسة.
* وبعد المعترضة المكرّسة للحديث عن "السرّ"، عاد بولس إلى رسالته: هو المسيح الذي يبشّر به فينبّه كل انسان ويعلّم كل انسان في كل حكمة. يبشّر بالمسيح أي يعلن الحدث الفدائي في خدمة الكلمة من تنبيه وتعليم. فإن اكتفى الرسول بإعلان الانجيل ثم ترك المرتّدين الجدد وشأنهم، يكون وكأنه عرّضهم لأن يعودوا إلى الوثنيّة التي خرجوا منها، أو لأن ينجذبوا إلى أشكال منحرفة في المسيحيّة. فإن كانت عبارة "المسيح فيكم" قد أشارت إلى الوجهة الجماعيّة في الحياة المسيحيّة، فهذه الحياة تجد ينبوعها في المؤمن الذي دُعي دعوة شخصيّة ويبقى مسؤولاً على هذا المستوى. لهذا، لا بدّ من تنبيه كل مؤمن من الضلال والتجارب والسقطات التي تهدّد خطواته الأولى في الحياة المسيحية، وتعليمه بما ينتظر الله منه، وبالغلبة التي يمكن أن يحرزها، وبالنعمة التي يمكن أن يستند إليها. وهذا "في كل حكمة" (آ 9)، لأن معرفة طرق الله في المسيح ونعمته ومتطلباته، تتيح للرسول بأن يُسمع كلَّ واحد "التنبيهات" و"التعاليم" الضروريّة لتجعل كل انسان كاملاً في المسيح.
يعتبر بولس أنه لم يُنه مهمته تجاه الذين ربحتهم كرازتُه. يبقى عليه أن يجعل من كل واحد منهم مسيحيًا مكمّلاً، وقد وصل إلى نضجه الروحي، وتأهّل ليتحمّل مسؤوليّة حياته وشهادته كمسيحيّ. هو لا يتوخّى أن يقوده إلى كمال "ملائكي" يتعدّى قوى الانسان. ولكن إلى كمال "في المسيح". ففي المسيح فقط يبلغ المؤمن إلى نضجه الروحي، وفي الايمان بيسوع المسيح وعمل نعمته.
* وفي النهاية يذكر بولس معنى عمله الرسولي الذي هو جهاد حقيقي لا يتجاسر على القيام به لولا يقينه، في وسط عمله لكي يجعل من الكولسيين مسيحيين جديرين بالاسم المسيحي، من أن المسيح يعمل فيه بقدرة فيؤمِّن فاعليّة مجهوده وينصره في حربه.
ب- هدف بولس ونواياه (2: 1- 5)
* حتّى الآن تكلّم بولس بشكل عام عن الخدمة التي كلّف بها لدى الكولسيين (1: 24 أ، 25 ب)، والتي جمعت الكرازة إلى الاهتمام بالنفوس (آ 28)، وفرضت مجهودًا مناسبًا للقدرة التي جعلها المسيح في خادمه (آ 29). وها هو يعود الآن إلى موضوعه. يريد أن يعرف الكولسيون الجهادَ الذي خاضه لأجلهم، ولأجل الإخوة الذين في لاودكية، وبشكل عام لأجل الذين لا يعرفونه معرفة شخصيّة. فهو يحمل "همّ جميع الكنائس" (2 كور 11: 28). وذكرُ كنيسة لاودكية يجعلنا نفكّر بأن كنائس وادي ليكوس هي موضوع اهتمامه الرعائي. فهي تتعرّض للخطر. وهو يجاهد لأجلها في الصلاة، ويوجّه إليها في الرسائل، التنبيهات والتعاليم.
* هو يجاهد أولاً (آ 2) لكي يتقوّى قلب إخوته الذين لا يعرفهم، فيتشجعّوا في مقاومتهم لدعاية الهراطقة، موافقين على كلام رسولهم وما يقدّمه إليهم من سند. إن بولس يريدهم أيضًا "متّحدين في الحب" ليصلوا إلى المعرفة الكامل لـ "سرّ الله". هناك علاقة بين المحبّة والمعرفة، لأنه يجب على الجماعة أن تدرك "كل غنى ملء الفهم". وهي لا تبلغه إلا إذا شارك كل عضو في الغنى الذي يشارك فيه الجميع. وموضوع هذه المعرفة الكاملة هو "سرّ الله، المسيح". رج 1: 27 مع موضوع السرّ أي مخطّط الفداء الذي تمّ في المسيح وكُشف به فتضمّن مشاركة الوثنيّين في الخلاص.
* وغنى هذا السرّ هو عظيم بحيث إن "جميع كنوز الحكمة والمعرفة" قد وُجدت "فيه". فالبحث في موضع آخر سراب باطل ووهم رديء. لا معرفة دينيّة لها قيمتها خارجًا عن المسيح. وهذه المعرفة هي كلها فيه وهي تشمل مجمل الطرق التي يتبعها الله ليحقّق مخطّطه بالنسبة إلى الكنيسة والبشريّة (حكمة). هكذا نعرف المسيح، نعرف الله الذي يكشف فيه عن ذاته وعن النعمة التي يقدم (معرفة). وهذه الكنوز هي مكتومة، مخفيّة، لأن الناس في هذا العالم لم يعرفوا بحضورها في المسيح، فلا تصل إليها إلاّ معرفة الايمان فتحتاج إلى التأمّل والخبرة والشهادة لدى كل أعضاء الكنيسة من أجل امتلاكها.
* في آ 2- 3، حدّد بولس بشكل إيجابي هدف تدخّله في كنيسة كولسي. وها هو الآن يحدّدها بشكل سلبيّ. "أقول لهذا لئلا يغرّكم أحدًا" (آ 4). إن الخطر الذي يهدّد الكولسيين يُذكر هنا للمرة الأولى. كانوا معرّضين لدعاية الهراطقة الذين يريدون أن يجعلوهم يقبلون بأن "كل كنوز المعرفة" ليست في المسيح وحده ويقدّمون لهم كنوزًا أخرى. كانت هذه الدعاية خطيرة وقد استعملت براهين تقدر أن تقنع سامعين غريبين فتضلّهم. ولكن إن كان بولس غائبًا (آ 5) "فهو مع الكولسيين بالروح". لا يريد أن يقول فقط إن فكره هو دومًا في كولسي، بل إن روح الله يوحّده توحيدًا وثيقًا بإخوته البعيدين الذين يعرف وضعهم بدقّة بعد أن أعلمه به ابفراس وبالتالي يستطيع أن يعينهم بتوجيهاته. ويضيف الرسول حالا: إن. كان يعرف الخطر الذي يهدّدهم، فهو يفرح بثباتهم في الايمان. فالخصوم لا يقدرون عليهم وقد تعلّقوا بالمسيح وحده تعلقًا لا ضعف فيه.

خاتمة
لماذا استعمل بولس لفظة "مستيريون"، سرّ؟
لاحظنا أهميّة الكرستولوجيا وإلحاح الكاتب على تقديم إعلانه للمسيح كسرّ. إن وجود اللفظة في 1: 26- 27؛ 2: 2 يرتبط بوجودها في الرسائل الكبرى للدلالة على الانجيل (روم 11: 25؛ 1 كور 2: 1؛ 4: 1؛ 13: 2؛ 14: 2؛ 15: 51). ماذا نكتشف من مركّبات هذه اللفظة في الرسائل البولسيّة؟
- أصل السرّ هو الله. هو موضوع مخطّط الله القدير، وهو مخطّط لم يتبدّل مع أنه لم يُعرف إلا في الزمن الحاضر.
هو موضوع وحي من عند الله. والانسان، وإن مؤمنًا، لا يستطيع أن يعرفه. والذي يُكشف له (مثل بولس) يعرّف به أولئك الذين يرسله الله إليهم. فالله يريد أن يُعرف سرُّه (أو: أسراره أو مخططاته).
- الذين يعرفونه ليسوا حكماء العالم الذين لا يقدرون أن يعرفوا طرق الله في المسيح، بل المؤمنين الذين يقدرون، بواسطة بولس، أن يدخلوا دخولاً أفضل في مخطّط الله من أجلهم.
- السرّ يدهشنا. إنه يعبّر عن طابع لا يُسبَر لمخطّط الله، ويُبرز تحقيقه بشكل لم يسمع به أحد. أن تكون حكمة الله قد أرادت أن تمرّ بجنون الصليب (1 كور 1- 2)، أن يكون الله قرّر أن يكشف عن عظمة قدرته في موت يحمل ظاهر الضعف، موت مسيح مصلوب، من كان يقدر أن يتوقّع مثل هذا؟ هذا مع العلم أنه حتى بعد موت المسيح على الصليب، يرفض العالم أن يؤمن. ونجد ذات المخرج اللامتوقّع في روم 11: 25، لأن "السرّ" الذي أعلم به بولس، ليس خلاص اسرائيل الذي أعلنه الأنبياء وانتظره كل يهوديّ تقيّ، بل رفض اسرائيل الأمين للشريعة بأن يؤمن بالمسيح يسوع الناصريّ باسم الشريعة عينها. ولكن هذا الرفض ليس إلى الأبد، بل هو يخدم مخطّط الله الخلاصي. ونجد عنصر الدهشة هذا أيضًا في 1 كور 15: 51 حيث يقول بولس إن الأحياء أنفسهم يتحوّلون في أجسادهم عند مجيء الرب ليشاركوا في المجد الأخير.
- في 1 كور 1- 2 وفي روم 16، موضوع السرّ هو كرستولوجيّ.
- نحن في إطار اسكاتولوجي في روم 11: 25 و1 كور 15: 51.
لا نجد هذه المركّبات في كل المقاطع وبالقوّة عينها. فهناك "أسرار" مختلفة وايحاءات متنوّعة وصلت إلى بولس. ولكننا لا نجد كلامًا عن الانجيل على أنه "سرّ الله" إلاّ في كو وأف اللتين توحّدان الاستعمال البولسي حول المركبَّة الكرستولوجيّة. وهكذا تتكلّم كو عن السرّ على مثال الرسائل الكبرى، فتعطيه طابعًا كرستولوجيًا وتوسّعه وسع الانجيل نفسه. وسببُ هذا الاستعمال هو وضعُ هذه الكنائس الجديد في أكثر من مجال: يستطيع الانجيل أن يُعاش في كل حضارة ولدى جميع أمم الأرض التي لا تحتاج أن تبدِّل هويّتها (تبقى "أمم"). وهذا التنوّع يترافق مع وحدة قويّة في المسيح بحيث سمّيت الكنيسة جسده.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM