الفصل الرابع: سرّ المسيح

لفصل الرابع
سرّ المسيح
1: 15- 20

تشكّل آ 15- 20 مديحًا يُنشد عظمةَ المسيح في الكون. على مستوى الخلق ثم على مستوى القيامة. نصّ مسيحي يستلهم كتب الحكمة. فالمسيح، شأنه شأن الحكمة. هو صورة الله. هو موجود قبل كل خليقة، ويشارك مشاركة فعّالة في الخلق، ويقود البشر إلى الله. هكذا يعظَّم المسيح كرأس الكون. فينطلق المديح من حدث تاريخيّ هو حدث الصليب، فيوحّد بين الفداء والخلق، بين الاعتراف بالمسيح الربّ والمسيح المخلّص.
ندرس التأليف والتأويل قبل أن نصل إلى النظرة العامة.

1- التأليف
نطرح سؤالاً أول: هل نحن أمام قصيدة مديح أم اعتراف إيمان؟ نقول أولاً إن آ 15- 20 تشكّل وحدة مستقلة نستطيع أن ندرسها وحدها. هل نستطيع أن نتكلّم فقط عن مديح؟ ولكن لا نستطيع أن ننسى اعلان الايمان بالمسيح وسيط الخلق والفداء حتى على مثال اعترافات إيمانيّة نقرأها في العهد القديم والكتابات اليهوديّة. أن يستند المديح في العهد القديم والعهد الجديد إلى وحدانيّة الله، وبشكل خاص إلى مثنّى الخلق والخلاص، فأمر معروف. وهذا نستطيع أن نتحدّث عن مديح في خطّ العهد القديم، حيث ألقاب الله تتداخل مع تبرير هذه الألقاب.
وقد رأى الشرّاح في هذه الآيات (آ 15- 20) مديحًا كرستولوجيًا (قد يكون ألّفه المصلّون في كولسي) حول سموّ ووساطة المسيح القائم من الموت، على الكون. هذا المديح هو ردّ على قلق الانسان اليوناني الذي تواجهُه قوى الطبيعة التي تحرّكها قوّات روحيّة معادية. هنا نكون أمام موقفين. إن آ 15- 20 تهيّئ البرهان الكرستولوجي في ف 2. إن آ 15- 20 تشكّل نشيدًا مستقلاً يدلّ على عبادة صاحب كو للمسيح.
وقسم الشرّاح هذا النشيد إلى بيتين (آ 15- 17 ثم آ 18- 20). إلى ثلاثة أبيات (آ 15- 16 هـ+ 16 وز- 18 أ+ 18 ب- 20). إلى أربعة أبيات (أ: آ 15- 16+ ب: آ 17 أ ب+ ب ب: آ 18 أب+ أ أ: آ 17 ج- 20). إلى خمسة أبيات (15- 16 أ ب+ 16 ج- 16 و+ 17- 18+ 19: 20 أ+ 20 ب ج). يستند الشرّاح إلى "هوس استين" (الذي هو، آ 15، آ 18 ب) و"هوتي" (إذ، آ 16). وهكذا تكون القسمة كما يلي:
أ- الذي هو (آ 15)
ب- إذ هو (آ 16- 18 أ)
أ أ- الذي هو (آ 18 ب)
ب ب- فيه (هوس) (آ 19- 20).
تتحدّث آ 15- 17 عن وساطة المسيح في الخلق. وآ 18- 20 عن وساطته في الفداء. ونلاحظ غياب "الله" (تيوس). إذن، لا يشدّد النشيد على الله الذي يعمل، بل على الوسيط الوحيد الذي بفضله صارت هذه الأعمال ممكنة، الذي به وله قد تحقّقت. وهكذا يتركّز كل شيء على العلاقة بين "هو" و"كل شيء". ولكن اختلف هذا النشيد عن مقاطع أخرى في العهد الجديد (فل 2: 6- 11؛ 1 بط 2: 21- 24؛ عب 1: 3- 4) تتحدّث عن عمل الله. فأبرز الوساطةَ مع حروف الجر: من، ب، ل: ترتبط جميع الخلائق بالمسيح على كل المستويات.
نحن هنا أمام الابن الحبيب (مع اسم الموصول) ككلمة غير مخلوقة وكلمة متجسّدة كما قال آباء الكنيسة (ايريناوس، اوريجانس، ترتليانس). بالابن خُلق كل شيء. وهو الذي أحلّ الأمان بدم صليبه ورُفع في المجد. ويعطي هذا النشيد للابن الأزلي الذي وُلد ومات وقام، ألقابَ الصورة والمبدأ وبكر كل خليقة وبكر القائمين من الموت.

2- التأويل
أ- صورة الله
يبدأ المقطع بلقبين جعلا عددًا من الشرّاح يتحدّثون عن استعادة تك 1- 3 مع تلميح إلى آدم الأول الذي خُلق على صورة الله وكان أول الخلائق على مستوى الزمن وعلى مستوى الكرامة (تك 1: 26- 27). وهكذا يكون المسيح آدم الأخير. ولكن ها هم الشرّاح يعودون إلى صورة الحكمة وإليك السبب.
يُدعى المسيح أولاً "صورة الله الغير المنظور". هل هناك تأثير أفلاطوني غير مباشر؟ ربما. وذلك عبر اليهوديّة الهلنستيّة ولا سيّما الأدب الحكميّ. هنا نقرأ حك 7: 26 حيث يقال إن الحكمة هي صورة صلاح الله (فيلون، "التفسير الاستعاريّ" 1: 43) حيث تصوّر كـ "كمبدأ الله وصورته ورؤيته". إن تحليل النصّ يسير في الخطّ عينه. فقد نظنّ أن اللقب يقف بشكل ضمنيّ ومتعارض، بين الصورة التي هي واقع منظور والله الذي هو غير منظور. ولكن ليس الأمر كذلك. فلفظة "ايكون" (في العربية: أيقونة. صورة) لا تعبّر هنا عمّا يجعل الصورة عينها منظورة: فالرب القائم من الموت ليس منظورًا. وكذلك الحكمة: يقال أنها صورة صلاح الله دون أن تكون منظورة. إن الصورة في آ 15 لا تدلّ على امكانية الرؤية وإن كانت تدلّ على الله وتعكسه. فإن كان المخلوق (ولا سيّما الانسان) يعرّفنا أيضًا بالله (حك 2: 23)، فالظهور الذي يتمّه الابن يختلف عنه، بسبب مشاركته كوسيط في عمل الخلق (آ 16- 17).
إذن، تقف آ 15 أ (صورة الله الغير المنظور) في خطّ حك 7: 22- 26 حيث ترتبط "ايكون" بوظيفة الحكمة الكونيّة، كتجلٍّ لله بالمشاركة في نشاطه الخلاّق (قالت حك 7: 26 إن الحكمة هي صورة صلاح الله، فتضمّن كلامها الوجهة الخلاصيّة أيضًا). بعد هذا، ليس من كائن سماوي (وبالأحرى الانسان) يستحقّ، كما الابن، لقب صورة الله الغير المنظور: فالمقطع كله يتركّز على العلاقات بين الابن والخلق كله، وبالأخص القوّات السماويّة. لهذا نفسّره بالنظر إلى هذه الاشكاليّة.
ثم يسمّى الابن "المولود قبل (بروتوتوكوس، أي أول من وُلد) كل خلق". نجد هنا خمسة خطوط من التفسير، منذ آباء الكنيسة حتى اليوم. (1) الأصل. عند ذاك نقول: ولده الله قبل كل خليقة. (2) بداية سلسلة: الابن هو الرقم واحد في سلسلة الخلائق (خليقة فوق العادة، ولكنه يبقى خليقة). (3) لا المسيح الموجود قبل الزمن، بل المسيح الممجّد. إذن، لسنا على مستوى السموّ بل على مستوى الأسبقيّة. (4) الموجود من قبل، لم نعد أمام لقب عن الأصل بل عن السموّ فقط. (5) تتألّف اللفظة اليونانيّة من شقين: بروتوس أي الأول. توكوس: المولود. فيصبح المعنى: وُلد قبل كل خليقة. موقف يشبه الموقف الأوّل، ولكنه لا ينظر إلاّ إلى العلاقة بين المسيح والخليقة.
تأتي الصعوبة في اللقب حين يريد أن يجعل الابن خليقة. هو الأول. ولكنه يبقى خليقة. قال يوحنا الذهبي الفم (في كو 3: 2: الآباء اليونان 318): المولود الأول (بروتوتوكوس) ليس المخلوق الأول (بروتوكتستوس). ولكن الالتباس لا يزول. فالمولود الأول يدلّ على البكر. وهو في وضعه كبكر يكون الوارث الأول وينعم بالسلطة على إخوته (تث 21: 15- 17؛ 2 أخ 21: 3؛ رج تك 49: 3 حسب السبعينيّة مع لقبين نجدهما في كو 1: 15، 18: بروتوتوكوس وارخي أي البدء). ولكن هذا لا يخرجه من الوضع البشريّ. لا شكّ في أن اللقب أعطي لغير البكر: دُعي اسرائيل البكر دون أن يعني أسبقيّة في الزمن بالنسبة إلى سائر الشعوب. وهكذا يدلّ اللقب على الأفضليّة والاختيار (خر 4: 22؛ إر 31: 9؛ سي 36: 11؛ مز سليمان 18: 4. ثم نال اللقب الملك، مز 88: 28 حسب السبعينيّة، مع تفسير مسيحاني قبل أن يمتدّ إلى آدم والشريعة). ومع ذلك لا يخرج البكر من وضع الخليقة.
هنا نلاحظ أن "المولود الأول" مع كل خليقة، "لا يوجد إلاّ في كو 1: 15 ب. هذا يعني أن دراسة الألفاظ لا تكفي لتحدّد الخلفيّة الأدبيّة للعبارة. إن السياق (آ 16- 17) يدلّ على أن عبارة "المولود الأول في كل خليقة" يجب أن تُفهم بالنظر إلى وساطة فريدة للابن في عمل الخلق: ليس الموضوع خلق الابن، بل خلق كل مخلوق، من أدنى المخلوقات إلى أسماها كرامة. إذن، لا يتكلّم اللقب عن الابن كأول الخلائق.
فسَّر بعضُ الشرّاح لقب "المولود الأول" على ضوء أم 8: 22. ولكن الكتب الحكميّة لا تقول إن الحكمة هي "المولودة الأولى"، بل خُلقت "في البدء" (سي 24: 9)، "قبل كل شيء" (سي 1: 4، 9؛ أم 8: 22 حسب السبعينيّة). إذن العبارة في 1: 15 ب ملتبسة، لأنها تجعلنا نظنّ أن الابن خُلق، شأنه شأن الحكمة. ولكننا نستطيع أن نفسّرها أيضًا كلقب بنوّة فريدة (تدلّ على السموّ) وأبديّة، قبل خلق الكون (أسبقيّة). إن السياق اللاحق (آ 16) يتيح لنا أن نختار الفرضيّة الثانية مع خلفيّة حكميّة. لأن التيّار الحكمي البيبلي (مع امتداده في الادب اللابيبلي) يشدّد على وحدانيّة الوسيط ومشاركته في عمل الخلق، وعلى سموّه وأسبقيّته.
ب- فيه خُلق (آ 16)
إن وظيفة آ 16 هي أن تبرّر اللقبين اللذين قرأناهما في آ 15 مع التشديد على وساطة الابن الفريدة: "لأن فيه (وفيه وحده) خُلق كل شيء". ومع وحدانيّة الوساطة، نلاحظ حرف الجر: "إن" (في) "ديا" (في)، "ايس" (ل، لأجل). وهكذا تتحاشى كو الحلوليّة: نحن في علاقة بين كثرة الكائنات في الكون (بنتا، كل) ومبدأها الموحِّد. تشدّد حروف الجر على ارتباط "هذه الأشياء" التام بالمبدأ الوحيد.
ما معنى "فيه" (ان اوتو)؟ هل يعني: "بواسطته" كما في أم 3: 19؛ حك 9: 1- 2؟ ولكن النص استعمل "فيه" و"به". في الواقع، استعمل الكاتب ثلاثة حروف جر ليدلّ بشكل متكامل على وساطة الابن الخلاّقة. لهذا يجب أن نأخذها معًا. هنا يجب أن نكتشف دقائق كل حرف جرّ، ولاسيّما في عبارة "كل شيء يثبت فيه" (آ 17 ب). إن كان كل شيء يثبت فيه، فلأن فيه خُلق كل شيءكما في مركز وحدة وتناسق وتماسك، وهو يُعطي العالم معناه وقيمته وبالتالي واقعه. وإذا أخذنا بعين الاعتبار آ 16 أ (فيه خُلق جميع) و16 و(به وله خُلق كل شيء)، ففعل "خلق" (اكتستاي) في آ 16 يدلّ على أن وساطة المسيح لم تمارَس فقط في البداية، بل هي تدوم، كما أن "به" و"له" يحدّدان شكل هذه الوساطة: لقد تمّ النشاط الخلاّق حتّى في نتائجه الحاليّة بالمسيح وللمسيح. أما "بنتا" (كل شيء) فلا تستعيد فقط ما في آ 16 أ (كل ما في السماوات)، بل تستعيده عبر تعداد 16 ب- هـ.
"كلّ شيء". أي الكون بكلّيته بما فيه الملائكة. فحرف الجرّ في آ 16 أ (فيه) تتحدّد وتتكمل في آ 16 و. ولكن هذا الشطر يتكمّل بدوره في آ 17 ب: لا تمارس وساطةُ المسيح فقط في كل من الخلائق، بل في الخليقة إجمالاً (نلاحظ سين، مع، في سيناستيكن). ففيه تجد وحدتها وترتيبها المشترك. إذن، هناك وحدة حقيقيّة من آ 16 أ إلى آ 17 ب. لهذا نقول إن "فيه" تدلّ على أن العمل الخلاّق تشرّب من حضور الابن، وهو حضور ستوضح آ 16 و شكل نشاطه بواسطة "ديا" (به) و"ايس" (إليه).
إن فعل "كتيزاين" (خلق) يستعيد تأكيدًا أساسيًا للوحدانيّة البيبليّة واليهوديّة فيبعدنا عن كل حلوليّة: بما أن الخلائق خُلقت فهي ما وُلدت. لهذا لا خلط مع اللاهوت. أما خلفيّة آ 16 أ فهي حكميّة بقدر ما تذكّر بالتأكيدات المتعلّقة بوساطة الحكمة الخلاّقة (رج أم 3: 19؛ حك 8: 5- 6؛ 9: 9).
ما الذي تحويه عبارة "كل شيء". هذا ما تدلّ عليه بوضوح آ 16 ب- هـ: "في السماوات وعلى الأرض، المنظورة واللامنظورة".
* "في السماء وعلى الأرض" (آ 16 ب). نحن هنا على المستوى الكوسمولوجيّ (أي الكون) والمقولات المكانيّة. ولكن النصّ لم يميّز لكي يعارض كما في مقاطع تقف السماء تجاه الأرض كالالهي تجاه البشري. تشكّل السماوات والأرض الكلية. أي الكون المخلوق كله. فأرفع الخلائق وأدناها هي في الوضع نفسه.
"المنظورة واللامنظورة" (آ 16 ج). هذا الزوج يكمّل ما في آ 16 ب. إن عبارة "السماوات والأرض" قد تجعلنا نظنّ أننا على مستوى الكائنات المنظورة كالشمس والقمر والنجوم. أما لفظة "لامنظورة" (أؤوراتا) فتضمّ الملائكة التي قد تكون مزاحمة للابن. فرغم كمالهم ووضعهم ككائنات لامنظورة، فهم لا يُعتبرون مشاركين في خلق الكون، لأنهم هم أيضًا خُلقوا في الابن، بالابن، للابن.
تعود آ 16 د هـ إلى العالم اليهوديّ وتدلّ على الملائكة. هي تجمع وتكدّس، فتدلّ لا على السموّ فقط (في التراتبيّة السماويّة)، بل على سلطة هؤلاء الكائنات. العروش والسلاطين يدلّون على ملائكة رفيعين. ثم تأتي الرناسات والقوات كما في المجموعة البولسيّة (1 كور 15: 24؛ روم 8: 38).
وتؤكّد آ 16و أن كل شيء خُلق "له" (للابن). هنا يذهب المقطع أبعد من التيّار الحكمي الذي لا يقول أبدًا إن كل شيء خُلق للحكمة (إيس)، من أجل الحكمة. هناك من فكّر بالتجسّد، بمعنى أن الخليقة تصل في النهاية إلى المسيح. كل شيء خُلق لأجله، لكي يكون خاضعًا له. في الرسائل الكبرى نعرف أن كل شيء هو للآب. وهنا، هو للابن لأن الموضوع هو موضوع الوساطة.
ج- إنه قبل كل شيء (آ 17)
بعد أن أكّد النصّ أن كل شيء هو موضوع وساطة الابن الخلاّقة، أوضح متضمّنات هذا الوضع الحالي. ما قال: إذا كان كل شيء قد خُلق به، إذن هو قبل كل شيء. بل قال: كل شيء خلق به وهونفسه قبل كل شيء وكل شيء يقوم فيه.
هل تدل "برو بنتون" (قبل كل شيء) على الأفضليّة أو الكرامة أو الأسبقيّة؟ تدلّ على الكرامة حروفُ جرّ أخرى (إبي بنتون، روم 9: 5؛ أف 4: 6؛ هيبر بنتا، أف 1: 22). لهذا نحن هنا في مناخ الأسبقيّة: قبل. قد نستغرب أن لا يسبق اعلانٌ حول أسبقيّة الوسيط، الاعلان حول وساطته (فالأسبقيّة تجعل الوساطة الخلاقة ممكنة)، وأن لا يرد هذا الاعلان في صيغة الماضي (كان قبل كل شيء). ولكننا هنا أمام تفاصيل متعاقبة. لهذا لا ندهش إن ذُكرت أسبقيّة الوسيط بعد الوساطة، لأن الوساطة عرفت الأسبقيّة. وإن قيلت في صيغة الحاضر، فبصيغة الحاضر ندلّ على أزليّة الابن كما في انجيل يوحنا (يو 8: 58؛ 13: 19): هو (منذ الأبد) قبل كل شيء.
في آ 17 ب: "فيه يثبت كل شيء". هي خلفيّة رواقيّة (الكون هو مجموعة موحّدة وإلهيّة) استعادتها الوحدانيّة البيبليّة. ويُطرح سؤال آخر حول هذه الآية: هل نحن أمام الخليقة أو أمام الخليقة الجديدة؟ هل تؤكّد الآية أنّ في المسيح خُلق كل شيء وفيه وحده تجد الخلائق تماسكها ووحدتها؟ ولكن آ 16- 17 (مع خلفيّة حكميّة واضحة) تتحدثان عن الخليقة الأولى، لأن هدف المقطع هو وضع دور المسيح في الخلق (آ 16- 17) بجانب دوره في الفداء (آ 18- 20).
د- هو رأس الجسد (آ 18 أ)
"كافالي" (الرأس) يدل على "السلطة" كما على "الأصل". أي: له سلطة تامة على الكنيسة أو: هو ينبوع الكنيسة. المسيح ليس "الرأس" في المعنى البيولوجي، كعضو في جسم حيّ يحتاج إلى سائر الأعضاء ليثبت (1 كور 12: 21). فإن آ 16- 17 قد أكدّتا أنه قبل كل شيء. وأن كل شيء خُلق به. ولكن إن استندنا إلى آ 17 ب نقدر أن نقول إن الكنيسة لا تثبت بدون المسيح. وبما أن المقطع لا يطبّق على المسيح حرف الجر "إك" في الحديث عن المخلوقات، بل حروف جرّ أخرى (إن، ديا، ايس، برو)، نستطيع أن نستنتج أن "كافالي" لا تدلّ على الأصل أو الينبوع، بل على سلطة المسيح التامّة على كنيسته.
ونفهم لماذا وُضع هذا التأكيد هنا (لا في البيت التالي المكرّس للفداء). (1) فكما في الآيات السابقة، شدّدت آ 18 أ على أن الابن وحده هو الرأس، ولم تشدّد على معنى اللقب (كافالي). هذا يعني أنه ليس لأية قوّة سماوية سلطان المطالبة بهذا اللقب أو أي سلطان على الكنيسة، على المؤمنين. هنا نفهم أهميّة هذا الشطر بالنسبة إلى ما يلي من كو ولا سيّما 2: 6- 23. (2) ارتبط اللقب بتأكيدات حول أولويّة الابن في النظام المخلوق لا بشكل مباشر على مستوى السلام، فدلّ على أن سلطة المسيح المطلقة على الكنيسة ترتبط بسلطته على الخليقة كلها. فقد يعترض معترض فيقول إن قيامة المسيح (آ 18 ب) لا تكفي لتعطي الأولويّة على القوى الملائكيّة الذين يخدمون ويعبدون منذ القديم أمام العرش الالهي. لهذا ربطت كو سلطة الابن على الكنيسة بسموّه على جميع الكائنات، على مستوى وجودها عينه: خُلقت فيه وبه وله.
الكنيسة هي "الجسد" (مع أل التعريف). جسد المسيح. إذا قابلنا تأكيد آ 18 أ مع 2: 10 حيث المسيح هو "رأس كل رئاسة وسلطان" (لا يشكّلان جسده كما تفعل الكنيسة)، نفهم الرباط الذي يوحّد الكنيسة بالابن. قد نفهم أن الاثنين لا يفترقان. فالكنيسة في ارتباطها الأساسي تشهد لسيادة الابن الفريدة عليها. إنها، ككل جسم، واقع عضوي يحيا وينمو... المهم هنا ليس الكنيسة في واقعها العضوي كوحدة في الكثرة وتكامل الأعضاء، بل ارتباطها بالابن ووحدانيّة هذه العلاقة.
بعد أن أكّدت آ 16- 17 وساطة المسيح الخلاّقة، حدّدت آ 18 الاختيار، ودلّت على أن شعب الله صار منذ الآن شعب يسوع المسيح. لاشكّ في أن الآية تصوِّر العلاقة المميّزة والفريدة بين المسيح والكنيسة وهي علاقة ارتباط. ولكننا لسنا أمام انتماء كما في أف 1: 23 (جسده الذي هو الكنيسة). إن آ 18 أ تشدّد على واقع يقول إن للابن وحده كل السلطان والقيادة على كيان (= الكنيسة) يرتبط به ارتباطًا حميمًا، كما يرتبط الجسد بالرأس، ويتلقى منه أوامره.
هـ- المبدأ والبكر (آ 18 ب ج)
بفضل قول آ 18 أ حول سلطة الابن الوحيدة والتامة على الكنيسة، يصل النصّ إلى توسّع ثان يوازي التوسّع الأول حول الأولويّة التي نالها الابن بوساطته الخلاصيّة.
هو "المبدأ" أو "البدء" (ارخي). هكذا سمّيت الحكمة في أم 8: 22 حسب السبعينيّة. ولكن اللقب لا يدلّ هنا، كما في أم 8: 22، على أسبقيّة الحكمة على كل الخلق، بل على بداية جديدة تكوّنها القيامة. ولكننا لا نقف عند الأسبقيّة. بل نصل إلى المبدأ. فكما تقول آ 20، الابن هو وسيط مصالحة شاملة. هو الذي به تأتي النهاية. يأتي المجد. وهكذا نصل أيضًا إلى السموّ. أما "البكر بين الأموات" فيدلّ على أن الابن قام. وأن قيامته بدأت سلسلة وما كانت حدثًا فردًا. قيامته هي بداية ورجاء لجميع الموتى.
وبعد هذين اللقبين (المبدأ، البكر) كانت جملة تكشف هدف النشيد: تشديد على أولويّة الابن على كل المستويات وفي جميع الأبعاد، لأن فعل "بروتاوو" لا يدلّ فقط على أولويّة في الزمان أو في المكان، بل في الدرجة والكرامة.

و- فيه حلّ الملء (آ 19)
نحن هنا أمام جملة سببيّة تشدّد على الابن. فيه وفيه وحده جاء يسكن ملء الله. إن فعل "ارتضى" يأخذ مفعولين في اليونانيّة (اودوكيسن): الله (هو مستتر) أو الملء (بليروما) في آ 16 أ (المجهول اللاهوتي، خلق). تركنا فعل الله وشدّدنا على "فيه". وكذلك هنا في آ 19 حيث غابت لفظة "الله" لكي يبرز الابن الذي فيه أقام الملء. ولكن مع ذلك يبقى الله هو الفاعل، لهذا يوضع في النصّ المترجم: ارتضى (الله).
ماذا يعني الملء؟ الكنيسة. اللاهوت، روح الله؟ أولاً، لا نفصلها عن "ارتضى" ولا عن "حلّ" بخلفيّته التوراتيّة. فالله ومجده وروحه ومواهبه، ارتضى أن يقيم. هنا نعود إلى حياة يسوع على الأرض حيث حل الروح في المعموديّة لكي يُتمّ يسوعُ عملَ المصالحة والسلام.
ز- مصالحة وسلام (آ 20)
بعد أن دلّت آ 19 على امكانية الابن، صوّرت آ 20 وساطته الخلاصيّة. نجد موازاة بين آ 16 وآ 20 ب: كما أن المسيح هو من له خُلق كل شيء، كذلك هو من له تصالح كل شيء: إن المصالحة تتبع سيادة المسيح وسمّوه على كل شيء. هي المرة الأولى في الرسائل البولسيّة يشدّد فيها النصُّ على الغائيّة الكرستولوجيّة للعمل الخلاصي. حتى الآن، في الوحدات الأدبيّة، كانت تُستعمل الكروستولوجيا البولسيّة لإبراز نتائج الخلاص في المؤمنين وللمؤمنين. هذا لا يعني أن آ 15- 20 لم تُستعمل لهدف سوتيريولوجي (آ 21- 23 تبرهن عكس ذلك). بل إن الوساطة الخلاصيّة في قلب الوحدة الأدبيّة نفسها، هي موجّهة توجيهًا كرستولوجيًا، وهذا هو الجديد هنا.
بالابن تصالح "كل شيء" (تا بنتا). كيف نرى العلاقة بين آ 20 ب وآ 20 ج؟ هناك ثلاثة تفاسير. (1) صالح الله السماويّات مع الأرضيّات. (2) صالح بين السماويات وبين الأرضيات، كل في مجاله. (3) صالح جميع الكائنات مع ذاته. بحث الشرّاح عن الخلفيّة الكونيّة، ودلّوا على أن هذه الآية تعكس اسكاتولوجيّة العالم اليهودي. وهذا السلام ليس كونيًا فقط، بل يعني الملائكة أيضًا. لا يتصالح الملائكة مع الله (بل مع البشر). إذن، لن يلامسهم السلامُ بالشكل عينه. بما أن لفظتي الفداء والخلاص لا يمكن أن تعبّرًا تعبيرًا وافيًا عن ارتباط الكائنات المشترك، عادت الآية إلى لفظتي "المصالحة" و"السلام" اللتين تشدّدان على شموليّة واتساع وساطة الابن. فالقوات هي أيضًا مرتبطة بالابن: فهي لم تستطع أن تعيد الانسان إلى الصداقة مع الله. بل إن علاقات السلام مع البشريّة قد جاء بها شخص آخر. إن 2: 6- 23 سيعود إلى هذه النقطة، فيذكّر المؤمنين بأن ليس لهم أن يتصالحوا مع هذه القوات.
لقد تمّت المصالحة بدم الصليب (آ 20 ب). لسنا هنا على مستوى الحاش والآلام تجاه المجد. لسنا أمام الدم كدم وفدية، بل على مستوى التشديد بأن هذا الدم هو دم الابن وحده (وليس أحد معه).

3- نظرة عامة
من هو هذا الابن، موضوع حبّ الله، "الذي لنا فيه الفداء"؟ تجيب الكنيسة: يسوع المسيح. ولكن من هو يسوع المسيح لكي يحمل إلى المؤمنين الخلاص؟ ومن هو ليتجرّأ المؤمنون أن يربطوا به وحده مصيرهم الأبدي؟ في آ 12- 14، مرّ بولس بشكل سريع من عمل الآب الفدائي إلى الابن الذي لنا فيه الفداء. وها هو الآن ينشد أولويّة الابن على جميع الخلائق التي هي مدينة له بالخلق والفداء. وهكذا يعرف الكولسيون بمن به آمنوا.
أ- يحدَّد المسيحُ هنا بوظيفة الوحي: من رآه رأى الآب (يو 14: 9). عاد بولس إلى الانسان الأول كما في سفر التكوين. فالمسيح صورة الله الغير المنظور. هو آدم الأخير والانسان السماويّ (1 كور 15: 45- 48) الذي كان آدم الأول نموذجه (روم 5: 14). في المسيح الانسان الذي على صورة الله، صار الانسان في قلب تاريخ الخلاص. لقد تجرّأ بولس وقال عن يسوع الناصري الذي صُلب وقام، ما لم يتجرّأ العهد القديم أن يقوله عن الانسان. ففي المسيح، وجد الله أمامه الخليقة التي أرادها على صورته. وإذا كانت صورة الله تحدّد الابن في علاقته مع الله، فعبارة "بكر كل خليقة" (بشكل بدل) تحدّده في علاقته مع الخلائق.
تعود عبارة البكر إلى العهد القديم. في اسرائيل، البكر هو الوارث. وبما أنه وُلد قبل إخوته، فكانت له الأولويّة على إخوته. وهكذا فالعنصر الذي يكوّن مفهوم البكر هو أولويّة على مستوى الحقوق، شرطها أولويّة على مستوى الولادة. في رسائل بولس، الأولويّة الزمنيّة للبكر لا تهمّ بقدر الرفعة والسموّ (روم 8: 29). غير أننا لا نستطيع أن نفهم الكرامة التي أقرّ بها للابن هنا، إن لم ندرك العلاقة الوثيقة التي تجمع لقب "البكر" ولقب "صورة الله" مع صورة آدم الأول. ففي نظر بولس، "آدم هو نموذج ذاك الذي سيأتي أي المسيح" (روم 5: 14). فقد أعلنه. إن آدم المخلوق على صورة الله، قد أعلن ذاك الذي سيكون صورة الله في تاريخ الخلاص. لقد أعلن آدم الخاطئ ذاك الذي سيكون آدم البارّ. لقد أعلن آدم الذي مال عن الله، ذاك الذي يكون متّحدًا بالله. وآدم الذي حمل الموت أعلن آدم الذي حمل الحياة. حين خلق الله آدم جعل أمامه يسوع المسيح. ففي يسوع المسيح، حصل الله أخيرًا على الانسان المخلوق على صورته، هذه الخليقة التي تستطيع أن تتجاوب مع حبّه.
ب- وإذا فكرنا بموضع خلق الانسان في خبر الخلق (فيكمّله ويتوجّه) مع أولويّة آدم على جميع الخلائق الحيّة، نفهم أن الابن الذي هو "آدم الأخير" وصورة الله الغير المنظور، هو بكر كل خليقة (آ 16 أ). ففيه خُلقت كل خليقة في كمالها. يرد الفعل في صيغة المجهول ليدلّ على الله. إنه الخالق الذي يخلق بابنه. فبدون الابن لم تدعَ خليقة إلى الوجود. فإذا كان الابن وسط خلق جميع الخلائق من أدناها إلى أسماها، إلاّ أن بولس يركّز هنا على الخلائق الروحيّة، على الملائكة في السماء، والبشر على الأرض، على الخلائق المنظورة (الانسان)، التي تُرى، وتلك التي لا ترى أو الخلائق اللامنظورة (الملاك). وما خاف بولس أن يجعل الملائكة بين الخلائق التي نالت الحياة بوساطة الابن. أجل، حتى هذه القوات اللامنظورة التي تدلّ بأسمائها على سلطتها على مصير البشر: العروش، السيادات، الرئاسات، السلاطين. أجل، كل شيء خُلق به وله.
ج- وهكذا استعدّ المؤمن ليسمع اعلان تفوّق الابن على جميع الخلائق. فأيها تساويه؟ وأيها لا تخضع له؟ هو يسود عليها كلها، لأنها كلها ترتبط به في أصلها وفي غايتها. "هي تثبت به". وعلاقاتها معه تحدّد ظروف وجودها. تجذّرت فيه فتُتمّ مصيرها بحسب الهدف الذي فيه.
وتتوقّف نظرة الرسول فجأة، في عالم الملائكة والبشر، على الجماعة البشريّة التي تعترف هي أيضًا بأولويّة الابن. تتوقّف عند الكنيسة. ولكن لا نكتفي هنا بالتكلّم عن الأولويّة، لأن العلاقات بين الابن والكنسة هي علاقات حيّة تجمع الرأس إلى الجسد. فالابن هو رأس هذا الجسد الذي هو الكنيسة: فهو يحفظها واحدة وينظّم نشاط أعضائها ويمنحها الحياة (2: 19). مع ذكر الكنيسة، انتقلنا بشكل غير متوقّع من نظام الخلق إلى نظام الفداء. ومع ذلك، فعمل المسيح الفدائي يتجاوز حدود الكنيسة في كل الاتجاهات. فالمسيح، مع قيامته، يتجاوز بسموّه العالم الحاضر ليصل إلى العالم الآتي الذي هو بدؤه. لأن قيامته هي العمل الأول في دراما النهاية (1 كور 15: 23- 28) وعربون قيامة الموتى. يسوع هو منذ الآن في نظر الايمان، بكر الموتى، كما هو بكر القائمين من الموت في العالم الآتي.
د- إذا كان المسيح الذي حمل في التاريخ اسم يسوع الناصري، هو وسيط الفداء الذي يضمّ السماء والأرض، فلأن الله رضي في نعمته السامية أن يحلّ فيه. يسمَّى الله هنا "الملء" لكي نتأكّد أن الله ذاته كان في ابنه، وأن في موته وقيامته تمّ فداء على مقدار الله، فداء كامل في فاعليته، لا حدود له سوى حدود الخلق.
ويقدَّم هذا الفداء بشكل مصالحة جميع الخلائق بالابن ومع الابن، مصالحة قام الله بها في الابن، وكان غايتها. وكما أنه كان انقطاع في العلاقات بين الخليقة والبكر، كذلك كان بين الخلائق والله. وهكذا جاءت المصالحة، أعيدت هذه العلاقات مع الابن الذي تتحدّد أولويّته على العالم الآتي بلقب "بكر الموتى". وكيف أتمّ الله هذه المصالحة؟ "صنع السلام بدم صليبه". وهكذا وضع حدًا للقطيعة بين الخالق والخلائق، جعل الوفاق بين المتمّردين وربّهم. صنع السلام بوسيلة غير متوقّعة، بموت قبلَه الابنُ بإرادته.

خاتمة
نشيد شدّد على المسيح بل على عمله بالدرجة الأولى، بل على شخصه. هناك جمل تورد وساطة المسيح، ولكنها لا تصوّرها. بل تشدّد على وحدانيّة الوسيط (فيه وحده، به وحده، إليه وحده). وهي وحدانيّة تدلّ على العظمة التي تعلنها هذه الألقاب.
إن وساطة الخلق تتضمّن وجود المسيح قبل كل خليقة، وذلك دون تمييز بين الكلمة الأزلي والمسيح الذي وُلد ومات وقام. فإن لقب الابن في آ 13 يجعلنا نتجاوز كل فصل بين الكلمة الموجود منذ الأزل والمسيح الانسان العائش على الأرض. ثم إن لقب الابن يبرز العلاقة الحميمة مع الآب، ويشدّد على ما سوف يُسمّى فيما بعد "لاهوت المسيح".
لماذا يُبرز هذا المقطع أولويّة المسيح على الكائنات الروحيّة السامية؟ لأن المعلّمين في كولسي أنكروا أولويّة المسيح هذه على القوات. السؤال المطروح: هل المسيح هو الوسيط الوحيد الذي أعطي لنا فيه كل شيء؟ وهكذا تلعب آ 15- 20 دورًا هامًا فتقدّم لنا العناصر الكرستولوجيّة التي سيستند إليها جسم الرسالة إلى كولسي.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM