الفصل الأول: مدخل إلى الرسالة

الفصل الأول
مدخل إلى الرسالة

1- كنيسة كولسي
كولسي هي مدينة في فريجية (في تركيا الحاليّة)، تقع في وادي ليكوس، وتبعد 200 كلم إلى الشرق من أفسس. أما لاودكية وهيرابوليس المذكورتان في كو 4: 13- 15، فهما أقرب منها إلى أفسس. تكوّنت مقاطعة آسية الرومانيّة سنة 129 ق ب، فضمّت الممتلكات القديمة التي سيطر عليها الملك أتالس الثالث البرغامي، والتي تخلّى عنها لرومة سنة 133. كانت تضمّ هذه المقاطعة من الشمال إلى الجنوب، ميسية وليدية وكارية. وإلى الشرق جزءًا كبيرًا من فريجية، وإلى الغرب جزر الشاطئ. كانت في هذه المقاطعة مدن هامة مثل أفسس، برغاموس، سميرنة (إزمير الحاليّة)، ميليتس، وعدد من المدن الثانويّة.
اجتاز بولس فريجية خلال الرحلة الرسوليّة الثانية من الجنوب إلى الشرق، ومن الشمال إلى الغرب (أع 16: 6)، في جزء لم يكن يخصّ مقاطعة آسية. وخلال الرحلة الرسوليّة الثالثة، اجتاز فريجية كلها (أع 18: 23) ليصل إلى أفسس حيث أقام سنتين. ولكن خلال هاتين الرحلتين، لم يتّصل بولس بجنوبي فريجية حيث نجد كولسي ولاودكية وهيرابوليس (كو 4: 13- 15). وإذا عدنا إلى ما قاله شيشرون، خطيب رومة، نفهم أن هذه المدن الثلاث امتلكت عددًا كبيرًا من اليهود. ولكن اللافت هو أنه لم يكن في كولسي سوى مسيحيّين من أصل وثنيّ (1: 21- 27؛ 2: 13).
ما زار الرسول كنيستَي كولسي ولاودكية (2: 1). فابفراس المولود في كولسي، هو الذي أسّس الكنيسة. ولما حمل المعلومات إلى بولس، كتب بولس رسالته. اعترف الرسول ملء الاعتراف بخدمة ابفراس "الحبيب الذي هو لنا رفيق في الخدمة، وخادم أمين للمسيح من أجلكم" (1: 8). بولس هو في السجن (1: 24؛ 4: 3، 10، 18). وابفراس قد أراد بملء إرادته أن يقاسمه سجنه (فلم 23). لهذا أرسل ابفراس سلاماته إلى الكولسيين (4: 12). وحمل تيخيكس الرسالة (4: 7).

2- تحليل الرسالة إلى كولسي
تبدأ الرسالة بالعنوان، فتتحدّث شأنها شأن 2 كور، عن "بولس رسول المسيح يسوع، وتيموتاوس الأخ". والذين تتوجّه إليهم الرسالة هم الكولسيون، "القديسون الذين في كولسي". والقديسون هم المؤمنون.
بعد هذا، نجد سبعة مقاطع:
أ- فعل الشكر (1: 3- 8)
تبدأ الرسائل البولسيّة كلها بفعل الشكر، ما عدا غل، 1 تم، تي. أما ما نجدُ في كو، فقد دوِّن في صيغة المتكلّم الجمع: "لا ننقطع عن شكر الله". فالرسول يتكلّم باسمه واسم تيموتاوس. وما يجب أن نشدّد عليه في فعل الشكر هو المضمون، لا الشكل. فالانجيل الذي بشّر به ابفراس الذي انضمّ إلى العمل الرسوليّ، أتاح للكولسيين أن يكون لهم الايمان والرجاء والمحبّة. "إيمانكم بالمسيح يسوع". "محبتّكم لجميع القديسين". "من أجل الرجاء المحفوظ لكم في السماوات".
ب- الصلاة (1: 9- 14)
ونجد هنا، في شكل صلاة، تحريضًا للكولسيين، يطلب فيه الرسول منهم أن يضعوا موضع العمل الايمان الذي قبلوه. "نصلّي لأجلكم لكي تبلغوا إلى معرفة مشيئته معرفة كاملة". أين تنتهي هذه الصلاة، وأين يبدأ النشيد الذي يأتي بعدها؟ هناك من توقّف عند نهاية آ 11: "تُحرزون صبرًا وأناة كاملين". وبعضهم توقّف عند نهاية آ 14: "أهّلكم للشركة في ميراث القديسين في النور". أما نحن فتوقّفنا مع فئة ثالثة عند نهاية آ 14: "الذي لنا فيه الفداء، مغفرة الخطايا".
ج- نشيد كرستولوجيّ (1: 15- 20)
في هذا النشيد يبدو المسيح "ضابط الكون" بيده. إنه صورة الله اللامنظور، والأول في الزمان وفي المكان وفي المرتبة وفي التكريم. هو رأس الخليقة كلها. إن هذا النشيد يندرج في سياق الرسالة بشكل أفضل من النشيد في الرسالة إلى فيلبي (فل 2: 6- 11). رأى بعضهم فيه قطعة من أصل أراميّ. وآخرون: ليتورجيّة المعموديّة، أو ليتورجيّة الافخارستيا (آ 12- 20). واعتبر آخرون أننا أمام نشيد يهوديّ أضيفت إليه بعض الأمور فصار نشيدًا مسيحيًا.
د- المسيحيون في كولسي وجهاد الرسول (1: 21- 2: 3)
بعد أن تصالح الكولسيون مع المسيح، وجب عليهم أن يثبتوا ولا يتزعزعوا عن رجاء الانجيل الذي صار بولس خادمه (1: 21- 23). وفي عبارة عميقة جدًا، يعلن بولس أنه يتألّم من أجل الكولسيين: "أفرح الآن في الآلام التي أقاسيها من أجلكم". ويتابع: "أتمّ في جسدي ما ينقص من مضايق المسيح لأجل جسده الذي هو الكنيسة". هذا يعني أنه يُتمّ من أجل الكنيسة، ما ينقص من مضايق المسيح في جسده. وفي معنى آخر: إن حضور المسيح في خدمته يجعله مشاركًا له في مضايقه. أو يعني: ما ينقص هذه المضايق يكمّله في جسده من أجل الكنيسة. فما يريد بولس أن يعلنه هو "السرّ" الذي تجلّى للقدّيسين وسط الوثنيّين (1: 24- 29). وجهادُه القاسي يشجّع المؤمنين للبلوغ إلى تفهّم عميق لسرّ الله ومعرفته (2: 1- 3).
هـ- تحذير من التعاليم الغريبة (2: 4- 23)
ولكن هناك تعليمًا دينيًا يجعل إيمان الكولسيين في خطر: نظريات دينيّة، أهميّة عناصر الكون (رج غل 4: 3- 9)، قوى ملائكيّة. مثل هذا. التعليم يتجاوز تجاوزًا كبيرًا نظريات العالم اليهوديّ والعالم الهليني. فكان ردّ بولس قويًا: في المسيح يقيم ملء اللاهوت. وينهي بولس هذا المقطع بايراد كلام مأخوذ من نشيد (2: 6- 15): "كنتم أمواتًا من جرى زلاّتكم وقلف أجسادكم فأحياكم معه، وسامحنا بجميع زلاّتنا". أما الحرّية المسيحيّة الحقّة، فلا تقوم في ممارسات تتعلّق بالطعام أو الشراب أو الاحتفال ببعض الأعياد (2: 16- 19). ويطبّق بولس هذا المبدأ على الكولسيين (2: 20- 23): إن كنتم متُم مع المسيح، فلماذا تتصرّفون كأنكم بعدُ في العالم، فتخضعون لأركان العالم.
و- دعوة إلى حياة مسيحيّة متّحدة مع القائم من الموت (3: 1- 4: 6)
وشرع بولس يدعو المؤمنين لكي يحيوا في اتحاد مع يسوع الذي قام من بين الأموات (3: 1- 4). يتعرّون من الانسان القديم أي يتخلّون عن سلسلتين من خمس رذائل (3: 5- 8). ولكن إن تضمّن هذا التحريض هنا لائحة برذائل وفي 3: 12 لائحة بخمس فضائل، فهو يتجاوز كل هذا بعبارات قاطعة. "لا يوناني ولا يهوديّ، لا ختان ولا قلف، لا أعجمي ولا اسكوتي، لا عبد ولا حرّ، بل المسيح هو كل شيء وفي كل شيء" (3: 11). ويوصي الرسول بالحياة الأخويّة، فيدلّ بذلك على أننا لبسنا الانسان الجديد (3: 10). هذه الروح تدرك الانسان في كل ظروف حياته: الزوجات والأزواج. الأبناء والآباء. العبيد والأسياد. كل واحد يجد الكلمة التي تعنيه (3: 18- 4: 1). يبقى على المسيحيّين أن يصلّوا (4: 2- 4) لكي يجدوا الموقف الذي يجب اتّخاذه تجاه اللامسيحيّين (4: 5- 6).
ز- تحيّات جديدة (4: 7- 17)
يذكر تيخيكس وأونسيمس اللذين يحملان أخبار الرسول. فبولس ليس وحده. فمعه ارسترخس ومرقس ويسوع يوستوس ولوقا الطبيب وابفراس، الذين يرسلون سلاماتهم. وتشير الرسالة إلى ابفراس الذي يتعب كثيرًا من أجل المسيحيّين في كولسي ولاودكية وهيرابوليس. هذا في كولسي. وفي لاودكية، يسلّمون على نمفا (أو نمفاس) والكنيسة التي تجتمع في بيتها (أو في بيته) (4: 15). ونلاحظ تفصيلاً ثمينًا يدلّ على تبادل الرسائل بين كنيسة وأخرى. بعد أن يقرأ الكولسيون رسالة الرسول إلى كولسيّ، فليبعثوا بها إلى مسيحيّي لاودكية. وليفعل أهل لاودكية كذلك حين يقرأون الرسالة التي بُعثت إليهم. وأخيرًا، نجد نصيحة تتوجّه إلى أرخبّس (4: 17؛ فلم 2) الذي يمارس خدمته: ليتمّها جيّدًا.
وفي الختام، وقّع بولس الرسالة بخطّ يده، كما اعتاد أن يفعل في رسائله (4: 18، رج 2 تس 3: 11؛ 1 كور 16: 21؛ غل 6: 11). اعتاد بولس أن يملي رسائله أو يطلب من أحد معاونيه أن يكتبها ويكتفي هو بأن يوقّع. وهذا ما فعله هنا. غير أن الرسالة إلى فيلمون هي، على ما يبدو، مكتوبة بخطّ يده.

3- ضلال في كولسي
أ- تساؤل
طلب بولس من قرّائه بأن يتجنّبوا تعليمًا يسمّيه "فلسفة" (2: 8) مع ممارسات خاصة به (2: 16؛ 2: 18- 21). ولكن ما هو هذا التعليم الذي يحاربه بولس؟ هنا تتوزّع الفرضيات فتصل إلى خمسين فرضيّة. ونحن إذا نقدّم نظرتنا، نفترض قراءة تفسير 2: 16- 23.
نبدأ فنبرز المواقف الكبرى المتعلّقة بالأوساط التي حملت هذه الهرطقة. (1) العالم الوثنيّ. (2) العالم اليهوديّ. (3) غنوصيّة من أصل مسيحيّ. (4) تعليم تلفيقي يجد أصوله في أحد التيارات الثلاثة الأولى.
ماذا نعني بالعالم الوثنيّ؟ ثلاثة أمور: فلسفة يونانية هلنستيّة. الديانات السرّانيّة. الغنوصيّة السابقة للمسيحيّة. وبالعالم اليهوديّ؟ ثلاثة أمور أيضًا: فلسفة من النمط التصوّفي والنسكي. فلسفة من النمط الجليانيّ. يهوديّة مطعّمة بالغنوصيّة. وامتزج العالم الوثنيّ مع العالم اليهوديّ فقدّم لنا تعليمًا تلفيقيًا ومزيجًا وصل بنا إلى غنوصيّة مسيحيّة.
ننطلق من كل هذا ونقدّم ثلاث فرضيات.
ب- الفرضية الغنوصيّة
إن الضلال الذي يهدّد الكولسيين هو غنوصيّ (يشدّد على المعرفة) ويهوديّ معًا. وقد اتخذت هذه الفرضيّة شكلين.
* الشكل الأول: يرى في العالم اليهوديّ أصل الغنوصيّة التي نجدها لدى المعلّمين في كولسي أو في مكان آخر (لا يتيح لنا النصّ أن نعرف إن كان الضلال نبت داخل كنيسة كولسي أو جاء من الخارج). كيف نستطيع أن نعتبر هذه الهرطقة غنوصيّة؟ أربعة أمور: رغبة في امتلاك حكمة سامية. نظرية كوسمولوجيّة (على مستوى الكون، رج لفظة "بليروما"، الملء). التشديد على الكائنات السماويّة المتوسّطة التي تؤمّن اتصال اللاهوت بالكون. وأخيرًا، دعوة إلى التقشّف للاتّحاد باللاهوت والانفلات من قوى الشّر التي تسيطر على الكون (كوسموس).
هذه السمات الغنوصيّة تتساكن مع عناصر يهوديّة (الملائكة، السبوت، أعياد بداية القمر أو القمر الجديد، ممارسات حول الطعام) تعود بنا إلى جماعة الاسيانيين. يصعب علينا أن نعرف كيف تلاقت هذه المركّبات المختلفة: هل تأصّلت الغنوصيّة في العالم اليهوديّ قبل أن تصبّ في المسيحيّة خلال القرن الثاني؟ أو هل نحن في الأصل أمام تعليم أسيانيّ تطعّم بعناصر غنوصيّة؟ عندئذ يُطرح السؤال: من أين جاءت هذه العناصر؟
* الشكل الثاني. فيه تنقلب معطيات المسألة: يبدو الضلال على أنه بداية تعليم غنوصيّ (تجذّر في المسيحيّة)، انضمّت إليه مركّبات يهوديّة. موقف فيه بعض الاعتدال وإن لم يقدر أن يفرض نفسه.
ج- تعليم ذات أصل صوفيّ
إن الذين يدافعون عن هذا الطرح يستندون إلى وجود لفظة "مستيريون" (سرّ) في 1: 26 (السرّ الذي كان مكتومًا)؟ 2: 2 (يبلغون إلى معرفة سرّ الله)؛ 4: 2 (نبشّر بسرّ المسيح). وفعل "امباتوو" (ولج) (2: 18) الذي يعود بنا بوضوح إلى احتفالات التدرّج في الديانات السّرانيّة. كما يستندون إلى ألفاظ أخرى مثل "عناصر العالم" أو "أركان العالم" (ستويخايا تو كوسمو، 2: 8- 20). و"السلطات" (اكسوسياي) و"السيادات" (أرخاي)، وهي آلهة تساعد. وأخيرًا "أفارّيديا سوماتوس" (إرضاء الجسد، 2: 23).
في الخطّ عينه، يرى عدد من الشرّاح في هذه الهرطقة تعليمًا تلفيقيًا بعد أن ضمّوا إليه عددًا من المركّبات. لهذا سُمّي هؤلاء المعلّمون الهراطقة في كولسي: "ملفّقين مسيحيّين متهودين". فالممارسات ترتبط مع الملائكة والقوّات، لامع إله العهد. وتحدّث آخرون عن غنوصيّة متهوّدة انطبعت طبعًا عميقًا بأفكار فارسيّة (مع معتقدات استرولوجيّة كلدانيّة وممارسات سرانيّة). بل تحدّث بعضهم عن سمات يهوديّة قانونيّة وممارسات عباديّة هلنستيّة.
د- الأفكار والممارسات اليهوديّة
بعد أن نُشرت كتابات قمران في الستينات، ظهرت دراسات عديدة حول الطبيعة اليهوديّة (من نمط أسياني) للهرطقة التي واجهها المؤمنون في كولسي. وقد جاءت في أربعة خطوط:
* الأول. هناك من يشدّد على الوجهة التنسكيّة الصوفيّة لهذا الضلال. ليست المشكلة في كولسي مشكلة كرستولوجيّة، بل تتعلّق بممارسات عباديّة ونسكيّة. وما يهدّد حياة جماعة كولسي وإيمانها، ليس عبادة الملائكة، بل الاتّجاه إلى المشاركة في عبادة الملائكة السماويّة انطلاقًا من ممارسات نسكيّة. ونتيجة كل هذا نجد الانقسامات في الجماعة. ورأى آخرون أن التعليم الذي يعارضه بولس يشبه الايمان والتقوى اللذين تتحدّث عنهما كتابات قمران.
* الثاني. يشدّد على التقارب بين الضلال المسيطر في كولسي والعالم اليهوديّ الجليانيّ. لا شك في أن صعوبات الكولسيين ترتبط بدور الايحاءات السماويّة والوسائل (ممارسات نسكيّة) الكفيلة بالحصول عليها. ولكن العالم الجليانيّ يشكّل أفضل خلفيّة للرسالة إلى كولسي، وللضلال الذي نجده في كو.
* الثالث. إن صاحب كو لا يعارض هرطقة في جماعة كولسي، بل يحذّر هذه الكنيسة الفتيّة من سحر المجمع الذي أثّر تأثيرًا سيِّئًا في غلاطية. ولكن لفظة "نوموس" (ناموس، شريعة) لا ترد في كو. ثم إنه لا يُعقل أن يتحدّث المجمع عن ممارسات نسكيّة دون أن يطلب في الوقت عينه ممارسات كل وصايا الشريعة الموسويّة.
* الرابع. يرى شرّاح أن العناصر اليهوديّة في التعليم الذي تعارضه كو 2، تدلّ على أن التعاليم اليهوديّة قد انتشرت في عالم آسية الصغرى. ولكن هذا لا يكفي لكي نبني المحيط الحياتي للهرطقة: هل نحن أمام مرسلين متهوّدين؟ هل نحن أمام جماعة مسيحيّة متهوّدة كانت هناك؟ هذا ما لا نستطيع أن نجزم به.
هـ- كيف نحدّد ضلال كولسي
يجب أولاً أن نميّز الطريقة التي بها يصوّر بولس هذا الضلال، وكيف يشدّد على النتائج الكرستولوجيّة (على مستوى يسوع المسيح) والسوتيريولوجيّة (على مستوى الخلاص). كما يشدّد على ما فهمه "الهراطقة" (بل المسيحيّون) الذين ما أدركوا إدراكًا أكيدًا البُعد الكرستولوجي والسوتيريولوجي للأهميّة المعطاة للقوى العليا أو السماويّة وللمارسات النسكيّة التي ينادون بها. إذن، ما تشدّد عليه كو ليس بالضرورة ما يشدّد عليه المعلّمون. هذا ما يجب أن لا ننساه حين نواجه مسألة طبيعة التعليم الذي تشير إليه الرسالة.
وعلى المستوى المنهجيّ، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار الألفاظ (حول المعرفة) التي نقرأها، وتأكيدات الرسول (في 2: 6- 23) التي تعكس مشاكل كولسي كما تعكس براهينه بما فيها من هجوم: فكيف نكتشف الضلال الذي يحاربه إذا كنا لا نعلم ماذا يريد أن يبيّن وكيف يبيّنه. لهذا ننطلق من التقنيّة البراهينيّة لنفسر تأكيدات هجوميّة تصلح لأن تكون نقطة انطلاق للتعرّف إلى ضلال كولسي. وقد تعود هذه التأكيدات إلى الرسول الذي يقول ما يقول لكي يربّي المؤمنين مستبقًا استنتاجات خاطئة قد يستخرجها مراسلوه. ونأخذ على ذلك مثلاً في روم 11: 18 ي: لا نقدر أن نستنتج بشكل مباشر، أن أعضاء جماعة رومة الذين ارتدّوا من الوثنيّة، قد احتقروا الأعضاء الذين من أصل يهوديّ. فاسلوب الجدال والنقد، لا يتضمّن بالضرورة مثل هذا الوضع.
يبقى في النهاية، أنه لا جدوى من تحديد دقيق للضلال الذي عرفته كولسي. وهكذا نعود إلى التعليم التلفيقي. فالرسول لا يشير إلى محيط واحد، بل إلى أكثر من محيط، بما في هذه المحيطات من خطر على الايمان بالمسيح.

4- بولس والرسالة إلى كولسي
أول شاهد للرسالة إلى كولسي هو بردية شسشر بتي (رقم 46) التي تعود حسب بعض الآراء إلى بداية القرن الثاني. ونجد كو في السينائي والفاتيكاني اللذين يعودان إلى القرن الرابع ويرتبطان بالاسكندرية. ونجدها في الكودكس البازي الذي يعود إلى القرن السادس ويمثل الأسرة الغربيّة. وهناك أخيرًا الأسرة البيزنطيّة التي يعود أقدم مخطوط فيها إلى القرن التاسع.
في هذا الإطار، نطرح سؤالين: الأول: ما علاقة كو بسائر الرسائل البولسيّة؟ والثاني: من هو كاتب كو؟
أ- كو وسانر الرسائل البولسيّة
ظلّت كو حتى القرن التاسع عشر ترتبط ببولس. لكن جاء النقد الألمانيّ، فدرس الرسالة على مستوى الألفاظ والأسلوب واللاهوت. لا شكّ في أن هناك نقاطًا مشتركة أو موازية بين كو وسائر الرسائل. مثلاً، مباركة الله، رج 2 كور 1: 3، 20- 22: فعل الشكر من أجل الايمان. وصلاة، رج 1 تس 1: 2- 3؛ روم 1: 8؛ أف 1: 15، 16؛ كو 1: 4، 9. وساطة المسيح، رج روم 3: 24- 25؛ أف 1: 7؛ كو 1: 14. سمّو المسيح، رج 1 كور 15: 25- 27؛ أف 1: 20- 22؛ كو 1: 15- 20. الجسد والرأس، رج 1 كور 12: 12- 28؛ أف 1: 22- 23؛ 4: 15؛ 5: 23؛ كو 1: 18. الخلق والصليب والسلام، رج 1 كور 8: 6 ب؛ أف 2: 14- 18؛ كو 1: 16- 20. البناء والهيكل، رج 1 كور 3: 5- 17؛ أف 2: 20- 22. السرّ، رج 1 كور 2: 1؛ روم 16: 25- 27، أف 3: 1- 13؛ كو 1: 25- 29. نُدفن ونقوم مع المسيح، رج روم 6: 4- 8، 11، 13؛ أف 2: 1، 5، 6؛ كو 2: 12- 13؛ 3: 1. الانسان الجديد والانسان القديم، رج 2 كور 4: 16؛ أف 4: 17- 24؛ كو 3: 5- 11.
أما مسألة علاقة كو بسائر الرسائل البولسيّة فتعود إلى الأسماء والرسمة الاجماليّة للرسالة. يتكرّر اسم بولس أكثر من مرّة من العنوان إلى التحيّة الأخيرة، مع أسماء أخرى ذُكرت في سائر الرسائل. بولس (1: 1، 23؛ 4: 18). تيموتاوس (1: 1) أرسترخس (4: 10؛ رج فلم 24). مرقس (4: 10؛ رج فلم 24). ابفراس (1: 7؛ 4: 12؛ رج فلم 23). لوقا (4: 14؛ رج فلم 24). ديماس (4: 14؛ رج فلم 24 وربّما 2 تم 4: 10). أرخبّس (4: 17؛ رج فلم 2). أما اسم تيخيكس فلا يرد إلاّ في كو 4: 7؛ أف 6: 21؛ 2 تم 4: 12؛ تي 3: 12.
وعلى مستوى التأليف، تلتقي كو مع سائر الرسائل: العنوان، فعل الشكر والدعاء، الفكر اللاهوتي، التحريضات الخلقيّة، أخبار مختلفة، التحيّة الأخيرة. وعلى مستوى الاسلوب هناك بعض التبديل، ولاسيّما على مستوى اسم الفاعل والجمل الموصوليّة. أما المواضيع المستعملة في كو فنقرأ عددًا منها في الرسائل البولسيّة: الميراث، كليرونوميا، 3: 24؛ كليروس، 1: 12)، الخلاص (انتزع، خلّص، 1: 13؛ رج 1 تس 1: 10؛ روم 7: 14؛ 11: 26؛ 15: 31؛ 2 كور 1: 10)، الفداء (ابوليتروسيس، 1: 14؛ روم 3: 24؛ 8: 23؛ 1 كور 1: 30؛ رج أف 1: 7، 14؛ 4: 30)، التعارض بين ملكين مع نقل المؤمنين من ملك إلى آخر (ملك الظلمة أو الشر تجاه ملك النور أو الخير، 1 تس 5: 4- 5؛ روم 13: 12؛ 2 كور 6: 14؛ أف 5: 8، 11)، المؤمنون هم مع المسيح (2: 12- 13؛ روم 6: 4- 5؛ غل 2: 19- 20).
ومع ذلك، فهناك اختلافات بين كو وسائر الرسائل. لا تظهر لفظة "روح" (بنفما) سوى مرّة واحدة (1: 8). لا نجد سوى مرّة واحدة (كو 4: 1؛ ديكايوس) ما يتعلّق بالبرّ. وكذا نقول عن موضوع بنوّة المؤمنين (هم أبناء الله). أما موضوع الكرستولوجيا والاسكاتولوجيا في كو فيتعدّى سائر الرسائل. يُسمّى المسيح للمرّة الأولى رأس الجسد الذي هو الكنيسة. ويُقال للمرة الأولى بكل هذا الوضوح: "به خُلق كل شيء" (1: 16؛ رج 1 كور 8: 6 الذي يشير إلى الوساطة في الخلق وفي الفداء). ثم: "به وله كل الكائنات السماوية (بما فيها القوات الملائكيّة) والأرضيّة قد تصالحت" (1: 20). ويقال إن انجيل المسيح هو سرّ (1: 27).
ونجد رنّة جديدة في الحديث عن الاسكاتولوجيا في كو: ما دفن الله فقط المؤمنين مع المسيح (روم 6: 4). بل هو منذ الآن أقامهم وجعلهم معه في السماوات (3: 1- 4).
ب- من هو كاتب كو
ما انتظر الشرّاح القرن العشرين ليدرسوا صحّة نسبة كو إلى بولس. ولكن جاءت التحاليل دقيقة جدًا والنتائج، بحيث أثّرت على الدراسات اللاحقة. ولكن هذا لا يعني أن السؤال وجد الجواب النهائيّ في خط أو في آخر. ما هي المواقف؟
أولاً: على مستوى الاسلوب والنحو
من درس هذين العنصرين، وصل إلى اعتبار كو رسالة لم يكتبها بولس. ولكن جاء الردّ من المدافعين عن أصالتها. فالبرهان الاسلوبيّ لا يأخذ بعين الاعتبار تاريخ التدوين. فالاختلافات بين كو وسائر الرسائل قد يفسّر في أن المدوّن أخذ مواد تقليديّة ولاسيّما في المقاطع التي تبدو بشكل نشيد (1: 12- 20؛ 2: 13- 15). أو هو بدّل أسلوبه حين كبر في السنّ. ثم إن نهاية الرسالة (4: 18) قد تكون من يد سكرتير: تيموتاوس أو غيره، وهذا ما يفسّر الاختلاف على مستوى الألفاظ.
ويجب أن نعرف أن التقنيّات البلاغيّة للاقناع تدلّ على أسلوب بولس. كتب إلى كنيسة لم يؤسّسها ولم يزرها، فتصرّف كما فعل، لأنه رسول الأمم، ولأن أحدًا لا يستطيع أن يتصرّف مثله. أما الاختلافات البلاغيّة على مستوى البراهين والتقنيّات فتعود إلى طبيعة الرسالة نفسها: ما توخّت كو أن تقدّم قبل كل شيء براهين بيبليّة (أو غير بيبليّة) متراصّة، بل أن تُدخل القرّاء في معرفة السرّ. لهذا قبل أن نتحدّث عن صحّة النسبة، نتوقّف عند الخطبة وما تفرضه علينا.
وفي أي حال، حين تُطرح صحّة نسبة مقالة إلى كاتب، لا يمكن الجواب أن يكون كما في عمليّة حسابيّة واضحة، بل نصل إلى تخمين قويّ. فإذا أخذنا بعين الاعتبار الطريقة التي كانت بها تدوَّن الرسائل أو تملى، نفهم أن يكون هناك بعض الليونة بحيث لا نفهم الأصالة بحسب معاييرنا اليوم. فالرسائل البولسيّة كانت موضوع نقاش وحوار بين بولس ومشاركيه في العمل، قبل أن تدوّن، بحيث تعكس براهين أو اعتراضات هذا العضو في المجموعة أو ذاك. لهذا ظنّ عدد من الشرّاح أن تيموتاوس دوّن كو قبل موت الرسول، فاكتفى الرسول بأن يوقّع (كو 4: 17) ليدلّ على توافقه. أو أنه دوّنها بعد موته، وهكذا نفهم الاستمراريّة واللااستمراريّة. وهناك فئة ثالثة تتحدّث عن مدرسة بولسيّة شبيهة بالمدرسة اليوحناويّة. إذن، نحن أمام صياغة جماعيّة قد تكون تواصلت حتى بعد موت الرسول، فولّدت أف وكو.
ثانيًا: على مستوى المواضيع
ورفض عدد من الشرّاح أن ينسبوا كو إلى بولس مستندين إلى اختلاف في المواضيع اللاهوتيّة على المستوى الكرستولوجي (يسوع المسيح) والاكليزيولوجيّ (الكنيسة) والاسكاتولوجيّ (نهاية الزمن) والسوتيريولوجي (على مستوى الخلاص). فكان الردّ من قبل المدافعين عن صحّة نسبة كو إلى بولس: لماذا نمنع الرسول من أن يتطوّر في طرح الأسئلة بعد أن تطوّر الوضع الكنسيّ ففرض مقولات ومضامين جديدة؟
إذن، يجب أن نرى إن كانت اتجاهات بولس اللاهوتيّة الأساسيّة قد ظلّت هي هي. أن نرى أهميّة التبدّلات وطبيعتها وأسبابها، ولاسيّما في ما يتعلّق "بالسرّ" وبالاسكاتولوجيا.
وينطلق المدافعون من النتائج: أتكون الكنيسة ضلّت زمنًا طويلاً فقبلت في اللائحة القانونيّة للأسفار المقدسة كتابًا كاذبًا، كتابًا لابولسيًا؟ وهكذا تكون كوقد دخلت في مجموعة العهد الجديد بفضل جهل الأجيال اللاحقة. وهذا غير معقول.
أما نحن فنقول بارتباط كو ببولس. كتبها بيده أو كتبها سكرتيره، كما هو الأمر بالنسبة إلى روم أو غل... هل الجماعة تأمّلت في سرّ المسيح وطلبت من أحد أعضائها الموهوبين أن يدوّن ما وصلت إليه الجماعة في حوارها؟ فإن دوِّنت كو قبل موت الرسول، فتكون دوّنت سنة 61- 62. وإن دوّنت بعد موته فقد يكون ذلك قبل دمار أورشليم (سنة 70) وربّما بعده.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM