الفصل السابع والثلاثون: لا تقتل

الفصل السابع والثلاثون
لا تقتل

وصيّة قديمة قدم البشريّة، ولم يخطئ الكاتب الملهم حين حدّثنا عن أول خطيئة على الأرض فقال: كانت خطيئة قتل. فخبر الفصل الثالث من سفر التكوين يعود بنا إلى أصول كل خطيئة، إلى جذور الشرّ فينا. هو تكبّر على الله ورفض الطاعة له ولوصاياه. أصل كل خطيئة هو في أن نريد أن نكون آلهة. نحن نقرّر الخير الذي نفعله. وهذا الخير يكون بالنسبة إلينا، إلى منفعتنا، إلى مصالحنا. اعتبر قايين أن مصلحته تقتضي بأن يقتل أخاه ففعل. دعاه إلى البرّية حيث يكونان معاً. ولما ابتعدا عن الناس، "وثب قايين على هابيل أخيه وقتله" (تك 4: 8). وهكذا دلّت الخطيئة الأول على صراع الانسان مع أخيه، والقبيلة مع القبيلة المجاورة، والبدو مع الحضر، والعظماء مع صغار القوم. أما هكذا فعل الملك أخاب ساعة أراد أن يوسّع ساحة قصره؟ قتل نابوت اليزرعيلي واستولى على أرضه. فكان إليه كلام الربّ بلسان إيليا: "قتلتَ وجئتَ تأخذ الميراث" (1 مل 21: 19). وأتبع إيليا كلامه حالاً بأن الله يعامل القاتل بشريعة المثل. الملك قتل قريبه. وهو سيُقتل.
هكذا بدت الشريعة لدى الشعوب القديمة. لا تقتل لئلاّ تُقتل. وراح العالم اليهوديّ يتوسّع في التهديد بضرر مماثل يحدثه الانسان إلى قريبه: أخذتَ سنَّه يؤخذ سنّك. أخذت حياته تؤخذ حياتك (خر 21: 24): "عين بعين، سن بسن، رجل برجل، يد بيد". لا شكّ في أن هذا التنظيم الذي جعل الانتقام يتناسب مع الخطأ ولا يتعدّاه، يبعدنا عن الانتقام الذي لا حدود له. تقتلون واحداً نقتل سبعة. هكذا كان على مستوى قايين. وسوف تزداد النسبة مع لامك: تقتلون واحداً فنقتل 77. أي نذهب في القتل إلا ما لا حدود له (تك 4: 24). وهكذا نقول عن القتل لأي سبب: جرحني فقتلته مهما كان الجرح. شدخني فسحقته مع أنه فتى لا يستحقُ كل هذه القساوة. ولكن تلك حالة الانسان حين لا يعرف أن يضبط الحسد الذي يعتمل فيه أو البغض. فالتقاليد تتحدّث عن حسد قايين من هابيل. والرسول يوحنا يقول في رسالته الاولى (3: 15): "من أبغض أخاه فهو قاتل. وأنتم تعرفون أن القاتل لا تثبت فيه الحياة الابديّة". أجل، القتل يبدأ مع البغض ويمتدّ إلى درجة تجعلني اعتبر الآخر عدواً يهدّد حياتي أو سمعتي أو مالي أو أي شيء لي. فلا يبقى إلاّ القتل.
حتى الآن، ظللنا على مستوى الانسان. الانسان لا يقتل لئلاّ يُقتل. ولكن حين دخل هذا "المنع" في الكتاب المقدّس، ودخل الوصايا العشر، صار الله كافله. فالوصايا تبدأ "أنا هو الرب إلهك". أنا الذي أفرض هذه الوصايا. وأنا الذي يطالب، يحاسب كل انسان حسب أعماله. قتل قايين وترك أخاه. بل اعتبر نفسه أنه ليس حارساً لأخيه. هنا نلاحظ هذه السخرية! لو هاجمه وحش في البرّية وقتله ربّما. وحتى في ذلك الوقت تفرض الشريعة على الانسان أن يساعد أخاه، بل أن يساعد الحمار الذي سقط تحت الحمل. وقتل أخاب نابوت وقد ظنّ أن الله لا يرى. وإن هو رأى فلا يفعل. ولكن صوت الرب لاحقه كما لاحق قايين: "إن صوت دماء أخيك صارخ إليّ من الأرض" (تك 4: 10).
وظنّ داود أنه يستطيع أن يقتل أوريا، أحد ضبّاط جيشه، ليأخذ له امرأته بتشابع. فلا من يرى ولا من يراقب. ولكن الرب أرسل إليه ناتان: "قتلت أوريا الحثي بالسيف، وأخذت زوجته زوجة لك. أجل، قتلته بسيف بني عمّون" (2 صم 12: 9). وأراد أن يخفي جريمته وكأنه ليس بمسؤول عنها: "السيف يأكل هذا وذاك" (صم 11: 25). ويا ليت يوآب لم يسمع لملكه فيشارك في قتل أحد ضبّاطه، لم يسمع له حين قال: "وجّهوا أوريا حيث يكون القتال شديداً، وارجعوا من ورائه فيُضرب (بيد العدو) ويموت" (2 صم 11: 15). ولكن أيستطيع داود، ولو كان ملكاً، أن يغسل يديه كما سيفعل ببلاط بعده بألف سنة؟
لا تقتل حتى ولو أصابك ضرر. حتى ولو قتل لك شخصٌ آخر أخاك. فمع أن عمل قايين كان شنيعاً جداً، ما أراد الله أن يقتله أحد. وضع على رأسه علامة، وكأنه يريد أن يحميه. أجل، الله يحمي القاتل من القتل، لأنه لا يريد موت الخاطئ، بل أن يتوب عن خطأه. فكيف نقبل نحن بقتل البريء ولا يرفّ لنا جفن؟ وكان التشريع اليهودي قد نظمّ ما سميّ القتل عن غير تعمّد. فالانسان الذي يكون في هذا الوضع يهرب إلى مدن الملجأ. فإن لم يتعمّد القتل حين فعل ما فعل، يُعطى حق اللجوء، وإلاّ يسلّم. وقد صار تشريع لاحق يُعفى فيه عن مثل هؤلاء القتلة يوم يموت عظيم الكهنة. ومع ذلك، فما زلنا نستعمل وسائل التعذيب، ونحكم بالاعدام وكأنه إذا مات القاتل قام القتيل من تحت التراب وعاش. متى سنعرف أن وصيّة "لا تقتل" أمر قاطع من عند الربّ. كانت في الشعوب القديمة وفي التوراة وفي الانجيل وفي صوت الكنيسة، ولا شيء يبرّر التعدّي على هذه الوصيّة عمداً.
وما اكتفى يسوع بأن يردّد الوصيّة، بل أعطاها معنى جديداً، معنى عميقاً. قيل لكم. أما أنا فأقول لكم. إن يسوع يقدّم هنا نظرة ثوريّة على مناخ فريسيّ يعتبر أنه إذا مارس الوصيّة ممارسة حرفيّة كان على وفاق مع الله. يقدّم نظرة جذريّة تجعل الغضب والكلام النابي والشتائم خطيئة تشبه خطيئة القتل. قال النصّ الانجيلي: "من يقتل يستوجب الحكم القضائي". ثم قال: "من غضب على أخيه باطلاً استوجب الحكم القضائي". الخطيئة هي هي إن قتلنا القريب في جسده، أو في شخصه وفي كرامته وفي الاحترام الواجب له. والبغض للقريب هو أيضاً قتل له كما سبق وقلنا. والاحتقار وتثبيط الهمم وتيئيس الناس. أجل، لا يتوقّف يسوع عند الوصيّة كوصيّة وكأنها كل شيء. فالوصيّة تعبّر عن وجهة من وجهات المحبّة. ومن يعرف أين تقف حدود المحبّة؟ لا حدود لها. إذا كان الانسان لا يعرف أن يضع حداً للقتل والانتقام واذلال الآخر واستعباده، فالله لا يريد حداً للمغفرة والصفح واحترام الآخر واستبعاد العنف. عندئذ تكون الوصيّة الايجابية المقابلة: "طوبى للودعاء، فإنهم يرثون الأرض". لا بالعنف بل بالوداعة والتواضع. "طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يدعون". كم نحن بعيدون عن عالم يعدّ طريق السلام بواسطة آلات الحرب، ويدعو إلى عالم من العدالة بالقتل والتعذيب وتحقير الانسان وإذلاله واستعباده وقتل كل رأي وحريّة فيه. مثل هذا العالم ذاهب إلى الموت. بل هو بدأ يموت موتاً بطيئاً ولا نعرف متى تكون ساعته الاخيرة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM