الفصل الثالث والثلاثون: لا تحلفوا أبداً

الفصل الثالث والثلاثون
لا تحلفوا أبداً

الكلام البشري ليس صوتاً نطلقه ونحسبه كتلة هوائية خرجت من فمنا وذهبت من دون رجعة. الكلام البشري ليس فقط وسيلة اتصال بين البشر. فالكلمة تعبّر عن الشخص، وتشارك في زخمه وديناميّته. قوّة الكلمة من قوّة الشخص، وغناها من غناه. والكلمة تحمل فاعليّة. إنها تفعل. لهذا فهي تبدو مهمّة جداً في حياتنا وفي سلوكنا. قال عنها سفر الأمثال (18: 21): الموت والحياة في يدها. وابن سيراخ (5: 13) نبّهنا: "ان كان لك رأي فجاوب من يكلمك. والا فاجعل يدك على فمك. في الكلام كرامة أو هوان، وما يقوله انسان قد يقوده إلى الهلاك".
ومن الكلام الذي يحمل الخطر هو القسَم والحلف. قالت شريعة موسى (خر 20: 7): "لا تحلف باسم الرب الهك باطلاً، لأن الرب لا يزكي من يحلف باسمه باطلاً". هذا يعني: لا تتلفظ باسم الرب في غير وقته. فالله قدوس. فلا تضعه في مكان دنيوي. فإن من يفعل مثل هذا يعتبره الله خاطئًا مُجرماً في حقه.
أعلن الرب في سفر اللاويين (19: 2): "كونوا قديسين، لأني أنا الرب الهكم قدوس" وزاد: "لا تحلفوا باسمي كذباً ولا تدنّس اسم الرب الهك" (لا 19: 12). أي لا تتذرع باسمي، لا تختبئ وراء اسمي من أجل الكذب. اسمي قدوس، وأنت تدنّسه بهذه الطريقة.
ونقرأ في سنعر العدد (30: 3): "حين ينذر الانسان نذراً للرب أو يحلف حلفاً بأن يلتزم بعمل شيء فهو لا يخلف قوله ولا يخلّ بوعده والتزامه. بل يعمل بالتمام حسب الوعد الذي خرج من فمه". حرفياً: ربط نفسه بالتزام. هذا يعني أنه أجبر نفسه. تكلم فمه ويده تُنفّذ.
وتأتي النصيحة إلى المؤمن (تث 23: 24): "ما خرج من شفتيك فاحفظه، واعمل حسب نذرك الطوعي للرب الهك، نذرك الذي تلفظت به شفتاك". اذن، ما وعدتَ به أوفِه. ان كان على مستوى الله أو على مستوى القريب.
وأعطانا يشوع بن سيراخ (23: 7- 11) تعليمات فيما يتعلّق بالقسم: "اسمعوا يا بني كيف تؤدّبون الفم. فالذي يحفظ هذا التعليم لا يؤخذ (لا يخطأ). فالخاطئ يُصطاد بشفتيه، وبهما يعثر المستهزئ والمتكبّر. لا يتعوّد فمك على الحلف ولا تألف تسمية القدوس (القسم باسمه القدوس). فكما أنّ الخادم لا ينجو من ضرب سيّد متطّلب، هكذا لا ينجو من العقاب من يحلف أو يتلفّظ باسم الله في كل مناسبة. الرجل الذي يحلف كثيراً يكدّس الخطايا، ولا يبرح السوط من بيته. إن حلف سهواً، تعودُ خطيئته عليه. وإن حلف استخفافاً، فهو يخطأ مرّتين. وان حلفت باطلاً، لا يتبرّر ويمتلئ بيته بالمصائب".
ونقرأ في الانجيل كلاماً هاماً في الحلف. "سمعتم أيضاً أنه قيل للاوليين: لا تحنث، لا تخالف اليمين التي أقسمتها، بل أوف للرب ما وعدت به. أما أنا فأقول لكم: لا تحلفوا البتة" (مت 5: 33).
كلام يسوع صريح واضح. لا تحلفوا البتة. لا تحلفوا أبداً. ولكن الناس اعتادوا أن يتهرّبوا من التلفظ باسم الله، فيقولوا كلمة أخرى. هم يحلفون بالسماء. "حق السماء". أو يحلفون بالأرض. "لتبتلعني الأرض". اعتاد الرب أن يُشهد السماء والأرض، أن يدعوهما إلى حضور محاكمة الانسان. نقرأ في تث 4: 26: "أشهد عليكم اليوم السماء والأرض". وقال يسوع في انجيل متى (5: 18): "تزول السماء والأرض وكلامي لا يزول".
ولكن يسوع يمنعنا من الحلف بالسماء. ما هذه المراءاة وهذا الخبث؟ لا يحق لنا أن نحلف بالسماء، فهي عرش الله. لا يحق لنا أن نحلف بالأرض، فهي موطئ قدميه.
واعتاد الناس أن يحلفوا بأورشليم المدينة المقدّسة والتي يباركها حضور الهيكل فيها. فكأن صاحب الحلف يرتبط بالقدسية التي تتمتّع بها أورشليم فيشهد الله على "صدق" أقواله. وهناك من يحلف برأسه. وحياة رأسك! وحياة عينيك! ولكن لا يحق لنا أن نحلف برأسنا. فهو لا يخصّنا. إنه عطية من الله. ويزيد يسوع: أنت لا تقدر أن تزيد عليه شعرة واحدة، أن تجعل شعرة منه بيضاء أو سوداء. ولا يحقّ لنا أن نحلف بأورشليم، إنها مدينة الملك العظيم، أي الله بالذات. انها تمثّل حضور الله بالذات.
كل امكانيات الحلف ممنوعة. لا نحلف بالله. لا نحلف بالسماء ولا بالأرض. لا نحلف بحياة أولادنا. فهم لا يخصوننا، بل هم وديعة وضعها الله بين أيدينا: يا ليتني أقبر أولادي! ليتني أعمى أي أصير أعمى! ولكن عينيك لا تخصّانك. انهما عطية من الله لك.
ويتابع القديس متّى: "فليكن كلامكم: نعم، نعم أو لا، لا". إذا كان الجواب نعم نقول نعم من دون حيلة وكذب ورياء. وإن كان لا نقول لا. ولا حاجة إلى الحلف. فمن أكثر من الحلف، نقصت ثقته بنفسه وبكلامه. يقول وهو خائف مما يقول. يقول وهو خائف على نفسه. اذا، لا سمح الله، إذا كان لا يغطّي كلامه بالكذب.
نعم ولكن... لا ولكن... لماذا هذه الزيادة؟ إنها من الشرير. هنا يحدّثنا القديس بولس عن يسوع. لم يكن كلامه نعم ولا. وانما كان فيه نعم. يسوع هو ابن الله، وكلامه يوافق كل الموافقة كلام الله. فكيف لا يكون كله نعم. يسوع هو الله الذي ألزم نفسه بملء حريته. وعد ويبقى أميناً لمواعيده. إنه الله الحقيقة، الإله الأمين. هكذا يلّقبه أش 65: 16: من يتبارك بهذا الاسم على الأرض، يتبارك بالإله "الأمين"، الإله الحق. إله الثبات والقوة. الاله الذي نستطيع أن نثق به ونستند اليه.
كل مواعيد الله كانت "أمين" في يسوع (2 كور 1: 19- 20). آمين الله هو يسوع. به يحقّق الله ملء مواعيده. اعتاد يسوع أن يقول في خُطَبه: آمين، آمين، الحق الحق أقول لكم... إنه يعني بهذه العبارة أنه مرسل الله الحق، وأن كلامه حق وصدق. ولكن يسوع ليس فقط ذلك الذي يقول كلمات الله، إنه حقاً كلمة الله. إنه الشاهد الأمين لله.
وحين يتّحد المسيحي بالمسيح، يقدّم جوابًا يدلّ على أمانته. جوابه هو آمين لله. هذا هو الجواب الوحيد والفاعل، وهو الذي يتلفّظ به المسيح لمجد الله. والكنيسة تعلن هذا الآمين مع المختارين في السماء (رؤيا 7: 12) ولا أحد يستطيع أن يتلفظ به، ان لم تكن نعمة الرب يسوع معه.
انتقلنا من لا تحلفوا أبداً، إلى الامتناع عن الحلف كذباً، فوصلنا إلى جواب يوافق كل الموافقة إرادة الله فينا. نحن لا نحلف. بل نحن نجعل كل حياتنا آمين مع المسيح وكنيسته. ولهذا نطلب مع الكنيسة: فلتكن نعمة ربنا يسوع المسيح معنا أجمعين. آمين (رؤ 22: 21).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM