الفصل الحادي والثلاثون: للرب إلهك تسجد

الفصل الحادي والثلاثون
للرب إلهك تسجد

السجود والعبادة حركة واحدة نعبّر فيها عن احترامنا لله، عن صغرنا أمام عظمته، عن خطيئتنا أمام قداسته. هذا ما حدث لحزقيال حين رأى مجد الله. هذا ما حدث لبطرس بعد الصيد العجيب. هذا ما حدث لبولس على طريق الشام: أحسّ بنفسه مرتمياً على الأرض. فقداسة الله وعظمته تسحقان الانسان، فتصلان به إلى العدم لولا رحمة الله ومحبته.
من النادر أن يلتقي الانسان الله في خبرة فريدة. خبرة مباشرة. ولكن ما هو عادي هو حضور الله وعمله في الكون، مجده وقداسته في الخليقة. فعلى الانسان في هذه الحالة أن يتعرّف إلى هذا الحضور. والعبادة هي التعبير عن ردة الفعل لدى الانسان حين يدركه القرب من الله. الله هو في هذا المكان وأنا لا أعرف. ويأتي شعور يصل بنا إلى العمق وإلى إكرام مليء بالخوف. "بما أن رحمتك عظيمة فأنا أدخل بيتك وأسجد باحترام عميق وخشية في هيكلك المقدّس" (مز 5: 8). ويهتف المزمور (95: 1- 6): "هلموا نسجد ونركع له، نجثو أمام الرب الذي صنعنا. فهو الهنا ونحن شعب يرعاه وغنم يقوده بيده. هلموا نعترف بالرب وننشد له، فإنه الله عظيم وملك عظيم".
عاطفة من أعماق القلب، شعور في خفايا الايمان. ونحن نعبّر عن كل هذا بحركات خارجيّة. هذا هو السجود، الذي لا يكون فقط سجود القلب بل سجود الجسم كلّه. سجودنا يكون سجود النفس والجسد فيكون صادقاً. فإن بقينا على مستوى العواطف، كنا أمام سراب وخيال. كان بقينا على مستوى الجسد، صحّ فينا كلامُ الكتاب: هذا الشعب يكرمني بشفتيه، وأما قلبه فبعيد مني.
كل هذا عبّر عنه الله بلسان موسى من خلال الوصايا: للرب الهك تسجد واياه وحده تعبد. هكذا نعبّر في حياتنا عن فضيلة الديانة. فنحن ندين لله حين نخضع له ونطيعه ونخدمه. نحن ندين لله حين نقرّ بملكه وسلطانه. نعبّر عن ديانتنا بأعمال البرّ والرحمة، ونعبّر عنها بأفعال العبادة. هذا ما فعل موسى أمام العليقة الملتهبة. وهذا ما فعله الشعبُ كله عند جبل سيناء يوم هبط الرب عليه بالنار والدخان، يوم كانت أصوات وبروق ورعود وغمام كثيف على الجبل المقدّس.
هذا الكلام قد استعمله يسوع تجاه الشيطان الذي يجرئه. قال له ابليس: أعطيك ممالك الأرض شرط أن تسجد لي. يعني أن تربط حياتك بحياتي، أن تدين لي وتعدني بالطاعة. تكون بكليّتك لي. ولكن يسوع قال في شبابه: يجب أن أكون لما هو لأبي. أن أكون في ما يريده أبي. وكان جوابه هنا لابليس: للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد. حينئذ تركه ابليس مع ما في حضوره من شرّ ونكران لعظمة الله. وجاء الملائكة، وهم يمثّلون حضور الله، فاقتربوا منه.
جُرِّب الشعب العبراني فسجد لعجل الذهب. حاد عن الطريق الذي أمره الرب بسلوكه. صنع لنفسه عجلاً مسبوكاً على مثال المصريّين أو الكنعانيّين. سجدوا له وقالوا: هذا الهك يا اسرائيل الذي أخرجك من أرض مصر. ترك الشعب الرب الواحد والتحقوا بالآلهة الوثنية. وسيكون لهم في أيام هوشع أن يسجدوا للاله الذي يعطيهم المطر وخصب الأرض. ومارسوا مع هذه العبادة الوثنية البغاء المكرّس والزنى في ظلّ المعابد الكنعانيّة.
لا ثمّ لا. لله وحده تسجد واياه وحده تعبد. والعبادة نوع من التكريس لله. حين نكرّس قوانا كلّها لنبحث عن عظمة ما، فنحن نعبد هذه العظمة. وحين نكرّس كل امكاناتنا لنبحث عن المال، فنحن نعبد هذا المال. إنه "مامون" أي ما هو ثابت وأكيد ونستند إليه. لا، ليس بكثرة المال حياة. لا ليس مامون هو الاله. وعلى المؤمن أن يختار: من يعبد؟ الله أم المال؟
إلهنا الذي نعبده نحن المسيحيين، هو الاله المثلّث الأقانيم. هو الاله الذي هو روح يحوّل عبادتنا ويوصلها إلى كمالها. إلهنا نعبده بالروح والحق.
وهذا الاله تجلّى لمنا بصورة منظورة. لمسناه بأيدينا، رأيناه بعيوننا، سمعناه بآذاننا. هذا الاله تجلّى في شخص يسوع المسيح. وبعد اليوم، بدأ تعرُّفنا إلى الله بواسطة يسوع المسيح. وبدأت عبادتنا وسجودنا لله مع يسوع المسيح. فيسوع المسيح هو الرب لمجد الله الآب. لاسمه تجثو كل ركبة في السماء وعلى الأرض وفي الجحيم، أي سكان السماء والأرض والموتى أنفسهم. وكل شفة تعلن المسيح.
هذا ما شكّك اليهود. فالعبادة محفوظة لله -يهوه- لله الواحد. ولكن المسيح القائم من الموت هو موضوع العبادة والسجود. بعد القيامة، يروي القديس متّى (28: 17) ظهوراً للتلاميذ: حدّد يسوع لرسله موعداً. فلما رأوه سجدوا له. ولكن الايمان يساعدنا على التعرّف إلى ابن الله. بعد أن سكنت الريح "سجد له الذين كانوا في السفينة وقالوا: أنت ابن الله حقاً" (مت 24: 33)! وهذا ما فعله أيضاً الأعمى منذ مولده. رأى بعين الجسد ورأى بعين الايمان. قال له يسوع: "أتؤمن بابن الانسان"؟ أجاب: "ومن هو، سيدي، فأؤمن به"؟ فقال له يسوع: "قد رأيته، وهو الذي يكلّمك". قال: "لقد آمنت يا سيدي". وسجد له (يو 9: 35- 37).
عبادة تتوجّه إلى الثالوث، سجود أمام الابن الكلمة. موقف داخلي نعبّر عنه بكل كياننا، روحاً ونفساً وجسداً. عبادة لا تنحصر في مكان، لا في أورشليم ولا على جبل جرزيم. عبادة تقوم في الهيكل الوحيد الذي يرضى به الله، في جسد المسيح القائم من الموت. فالذين وُلدوا من الروح يضمّون سجودهم وعبادتهم إلى ما يسرّ به الآب. عبادة الأبناء التي بها نعلن: أبًّا، أيها الآب. فيقول لنا الله كما قال لحبيبه في مشهد المعموديّة: أنت ابني الحبيب بك رضيت، بك سررت. أنت موضع فرحي وسروري.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM