الفصل الثلاثون: أنا هو الرب الهك

الفصل الثلاثون
أنا هو الرب الهك

حين نقرأ الكتاب المقدّس، لا نجد مقالاً لاهوتياً عن الله. فالكاتب الملهم لا يعود إلى الوراء ليتطلّع إلى مدينة تركناها وراءنا أو إلى جبل ابتعد عنا. والكتاب المقدّس لا يدعونا إلى أن نتكلّم عن الله، بل أن نستمع إليه يُحدّثنا. ونحن نجيب إلى كلامه حين نمجّده ونخدمه ونتعبّد له.
الله تكلّم منذ القديم بواسطة الآباء. قال لابراهيم: أترك أرضك وعشيرتك وتعال إلى الأرض التي أدلّك عليها. وقال له: أنا ترس لك. أحميك. أنا أعطيك أجمل أجر. فوثق ابراهيم بالله كل الثقة. وكلّم يعقوب ويوسف وموسى. وتكلّم الله أيضاً بواسطة الأنبياء. حدّث أشعيا: إذهب وقل لهذا الشعب. وقال لارميا: انطلق إلى من أرسلك اليهم وكل ما آمرك به تقوله لأني في فمك أضع كلامي. وقال لموسى: انطلق وتنبّأ لشعبي.
كلّم الله الأنبياء فسمعوا صوته وعملوا إرادته. قال أمام أشعيا: من أرسل ومن ينطلق باسمنا؟ فأجاب أشعيا: هاءنذا فأرسلني. وأطاع إرميا نداء الرب. وهكذا فعل موسى وسائر الأنبياء. أرسل الربُّ ناتان إلى داود ليوبّخه على خطيئته. فذهب ناتان وهو عالم بالخطر الذي يهدّده.
وفي النهاية كلّمنا الله بابنه الوحيد الذي هو شعاع مَجده وصورة جوهره (عب 1: 3) وقال يوحنا: الله لم يره أحد قط. ولكن الابن الذي في حضن الآب عرّفنا اليه (يو 1: 18).
فإذا بقينا في حدود الطاعة لصوت الله، وفي فعل الشكر الدائم، نستطيع أن نتحدّث عن الله من دون خوف. نعرف أن كلماتنا ضعيفة، ولكنه هو يأتي ويُسند ضعفنا. ومن خلال تأملنا في كلمات نقرأها، نصل إلى شخص حيّ هو حياة حياتنا. هو فينا أكثر ممّا نحن في ذواتنا. إيماننا ضعيف ولكن الرب يُعين ضعف إيماننا. نحن نحبّه ونحبّ أموراً عديدة معه. لهذا لا يبدو حبّنا طاهراً. نحن كالابن الضال. يهمّنا أن نكون مع أبينا، ويهمّنا أيضاً أن نؤمّن الطعام لنا: كم من الخدم لديهم الخبز وأنا ههنا أموت جوعاً. في حبنا بعض البحث عن ذاتنا وعن مصالحنا الشخصية وأمورنا المادية. قال لنا الكتاب: أحبّ الرب إلهك بكل قلبك وبكل نفسك بكل قدرتك. ولكن حبّنا يحتاج إلى نار الله تشعله، إلى نار ذاك الذي اسمه المحبة والذي أحبّنا أولاً قبل أن نحبّه، أحبّنا يوم كنا خطأة بعد.
حدّث الرب موسى: أنا هو الرب إلهك. وقال لشعبه بعد أن عاد عن خطيئته. قال بلسان هوشع: حينئذ تدعونني الهي وأنا أدعوكم شعبي. وقال بلسان إرميا: أجعل شريعتي في ضمائرهم، وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلهًا وهم يكونون لي شعباً.
الرب هو هنا حاضر في حياة شعبه. منذ أيام الخروج من مصر سمع صراخ شعبه وجاء يخلّصهم. الله هو هنا في الخلق. منذ البداية. فهو الوجود منذ الازل. وهو الذي "في البدء" خلق السماء والأرض. لم يكن هناك أي شيء. وبكلمة الله وُجد كل شيء. قال المزمور: قال فكان كل شيء وأمر فخُلق كلُ موجود.
إنه حاضر، ووجوده يفرض نفسه. هو لا يحتاج إلى شرح وتفسير. إنه كالمحبّ يفرض نفسه علينا. ساعة لم نكن ننتظره. نجده في أعماق قلوبنا. يئس جدعون من الحالة التي يتخبّط فيها شعبه فقال: إن كان الله معنا فلماذا أصابنا هذا كله؟ ولكن الله كان في تلك الساعة هنا. فقال لجدعون: سأكون معك. والرسل بعد القيامة. ظنّوا أن يسوع غاب، فما بقي لهم إلاّ أن يعودوا إلى عملهم السابق. ولكن الله كان على الشاطئ وكان ينتظرهم ليشاركوه في طعام الغداء.
الله هو الأول. وهو لا يحتاج أن يقدّم نفسه، كما يقدّم الغريب نفسه لشخص آخر. الله هو هنا وهو يفرض ذاته على ذهن الانسان وعقله بمجرَّد وجوده. هو الله وهذا يكفي. ونحن لا نستطيع أن نقول إن الانسان يسير في طريق توصله إلى الله. وكأن الاله هو ذلك البعيد المتنائي. لا نبحث عن الله في البعيد. إنه فينا. ملكوت الله أي حضور الله هو في داخلنا. نحسب أننا عرفنا الله وهو الذي عرفنا أولاً (عا 3: 2). نحسب أننا أحببنا الله، ولكنه هو أحبّنا أولاً وبذل نفسه كفّارة عنا. وفي هذا يقول المزمور 139: أنت يا رب تنظر في أعماق قلبي وتعرف كل شيء عني. تعرفني حين أجلس وأقوم، تعرف أفكاري من بعيد. تلاحظني حين أقيم في داري أو أخرج منها، وتطّلع على جميع طرقي، على كل ما أعمل، على سلوكي. قبل أن يكون كلامي على لساني أنت يا رب عالم به كله. أنت ورائي، أنت أمامي. تحيط بي. تضع يدك عليّ.
حضور الله ظاهر في كل مكان وان كان الانسان لا يدركه. إن صعدنا إلى السماء فالله هو هناك. وان كان الانسان مع الموتى في القبور، فالله حاضر معه. إن حسبنا نفوسنا في الظلمة والله لا يرانا، فنوره يحوّل الظلمة إلى نور، ويجعل الليل يضيء كالنّهار. يده تهدينا، وعينه تمسكنا كما الأم تمسك طفلها. هو الذي جبل الانسان، جبل عواطفه، ونسج الطفل في حشا أمه. لهذا نعترف له.
الله حاضر، الله يتكلّم. إنه إله حيّ. هذا ما يردّده الكتاب: حيّ الله! يهوه هو الحيّ. ويفترق عن آلهة الامم الجامدة التي لها عيون ولا ترى وآذان ولا تسمع وأفواه ولا تتكلّم. أما الله فهو لا يتعب ولا يُحسّ بالعياء (أش 40: 28). هو الذي لا ينعس ولا ينام (مز 121: 4). ذلّ شعبه فرآه. صرخ شعبه فسمعه. تألّم شعبه فعرف بألمه واتّخذ قراره: سوف يرسل من يخلص شعبه.
والله قدوس. قال لشعبه: كونوا قديسين لاني أنا قدوس. والقداسة تجعل الله يسمو على البشر بلا حدود. هذه القداسة تجعل هوّة بينه وبين البشر. ولولا حبه لنا، ولولا اتكالنا عليه، لما تجاسرنا على القرب منه. الله اله وليس بإنسان (هو 11: 9) هو يختلف كل الاختلاف عن الانسان. هو روح، والانسان جسد وبشر، لحم ودم. الانسان سريع العطب كالعشب. أما الله فباقٍ إلى الأبد.
الله بعيد عن الانسان، ولكنه صار قريباً في يسوع المسيح. الله هو السامي والرفيع، ولكنه تنازل في يسوع ليرفع ضعفنا. الله هو روح، ولكنّه صار لنا في يسوع المسيح جسداً وسكن بيننا.
أنا هو الرب الهك. هذا كلام ارب. فنجيب: لا نريد الهاً غيرك.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM