الفصل السابع: قراءة ثانية: مخافة الله

الفصل السابع
قراءة ثانية: مخافة الله

هذه المسيرة التي ننطلق فيها الآن، تجد جذورها في الحركة النبويّة، مع اهتمام عميق بالطاعة لله، بإقامة شعائر العبادة له، بالتشديد على أن الله يختلف كل الاختلاف عن الانسان. لهذا لا نستطيع أن نكون قريبين منه. بل هو يحدّثنا في الحلم وخلال الليل، أو بواسطة الملاك لئلا يتّصل الانسان الخاطئ مباشرة بالله القدوس. هذا الملاك يدلّ على حضور الله، على حضوره الآتي. وسوف يختفي ليترك الانسان في لقاء حميم مع الربّ. ربّما بعد أن تكون الجمرة المحرقة عملت عملها كما في دعوة أشعيا (6: 1 ي). صار نقياً فاستطاع أن يقدّم نفسه للانطلاق في رسالة يرسلها فيها الرب.
نبدأ مسيرتنا مع الآباء، فتوقّف عند موسى وخبرة سيناء، وفي النهاية نصل إلى المجموعات التشريعيّة. ولكن قبل كل ذلك نتوقف عند مقطع هام يبرز مخافة الله لا في شعب الله وحسب، بل لدى سائر الشعوب ولاسيّما الفلسطيين، جيران بني اسرائيل، وأعدائهم في أيام شاول وداود.
ننطلق من ف 20 الذي يحدّثنا عن إبراهيم في حوار مع ابيمالك الذي يسمّيه النصّ الذي كُتب بعد الاحداث بزمن طويل "ملك الفلسطيين". بعد المقدّمة (آ 1) يبدأ الخبر في آ 2، ثم الحوار بين الله وابيمالك في الحلم (آ 3- 7). ويدعو الملك عبيده (آ 8)، ثم ابراهيم (آ 9- 13). وكانت أولاً ردّة فعل الملك على الاحداث (آ 14- 16): أخذ غنماً وبقراً وعبيداً وأعطاها لابراهيم... ثم كانت ردّة فعل ابراهيم الذي دعا إلى الله من أجل ابيمالك (آ 17).

1- حفظ الوصيّة بين اليهودي واللايهودي
نلاحظ على مستوي الاشخاص أن ابيمالك ملك، وأن ابراهيم نبيّ. كان الأوّل من الأمم الوثنيّة، والثاني من شعب الله. وكان خلاف بين الاثنين سببه خوفُ ابراهيم على نفسه وقولُه بأن سارة اخته لا زوجته. هناك نقف أمام مسألة أخلاقية هي مسألة الخطيئة. وهنا نقف أمام خطيئة ابراهيم. كما نقف حول الاقرار بشريعة يتّفق عليها أناس يختلفون على مستوى الايمان وعلى مستوى الدين.
لا يتلفّظ النصّ بكلمة "شريعة" (ناموس)، مع أن الله يقول لأبيمالك: "لا يحقّ لك أن تأخذ امرأة متزوّجة. فإن فعلت تهلك". هذه الشريعة موجودة في التوراة، ونحن نجدها في تث 22: 22 (إن زنى رجل مع امرأة متزوّجة، يقتل الاثنان؛ لا 20: 10؛ ولا ننسى الوصيّة: لا تزن في خر 20: 14؛ تث 5: 18 دون ذكرٍ للعقاب). ولكن بما أن أبيمالك غريباً عن ديانة اسرائيل، فكيف له أن يعرف تلك الشريعة؟ ولكن شرائع الشرق القديم تقول الشيء عينه. نقرأ في قانون حمورابي (رقم 129): "إن وُجدت زوجةُ رجل مضطجعة مع رجل آخر يُربط الاثنان ويطرحان في الماء. فإن عفا الرجل عن زوجته، عندئذ يعفو الملك عن عبده". هذا في القرن الثامن عشر. وفي القرن الثاني عشر قالت النصوص الاشوريّة التي جُمعت من مصادر متعدّدة: "إن خرجت امرأة متزوّجة من بيتها وذهبت إلى بيت رجل آخر. ونامت معه وهو يعرفها متزوّجة، يُقتل الرجل والمرأة". فالخبر الذي نقرأه هنا يفترض هذه الخلفيّة التشريعيّة.
هنا نلاحظ الموضوع عينه الذي يبدو فيه اللايهوديّ أرفع أخلاقيّة من اليهوديّ. ففي خبر شفاء نعمان على يد النبيّ أليشاع (2 مل 5)، نعمان هو أرامي من دمشق. حدّثوه عن شفاء قد يتمّ له بعد أن أصيب بالبرص. ذهب إلى الملك فتحدّث الملك عن ضعفه. فذهب إلى النبيّ (2 مل 5: 6- 8)، فكان له الشفاء. قدّم نعمان مالاً إلى أليشاع فرفض. فاحتال جيحزي، خادم أليشاع، وأخذ بعض المال من نعمان. ولكن النبيّ كان قاسياً مع خادمه.

2- مسائل ترتبط بهذا الحدثين
أ- فعل الشكر
نتوقّف أولاً عند فعل الشكر يتلوه شخص من خارج أرض اسرائيل. فنعمان، رئيس جيش ملك أرام (إذن عدو اسرائيل، 2 مل 5: 2)، جاء يطلب الشفاء في مملكة السامرة. وانتهى به الامر بإعلان ايمانيّ رائع بالله. "ليس في الأرض كلها إله إلاّ في أرض اسرائيل" (2 مل 5: 15)، أي الاله الواحد. أما جيحزي خادم أليشاع، فسينال عقاباً على طمعه وجشعه. انتقل البرص من نعمان إلى جيحزي (2 مل 5: 20- 27). وفي تك 20، نرى وجه أبيمالك المشرق الذي احترم سارة أكثر ممّا احترمها زوجُها. الذي عرف أن يسمع لصوت الرب ويفعل ما يأمره به الرب مع أنه لا يعرفه. أما وضع ابراهيم فبدا وضعَ ذلّ: عليه أن يعتذر لأنه كذب على أبيمالك، وأراد أن يغلّف كذبه. وهو قد أخطأ خصوصاً لأنه شكّ بوجود مخافة الله في هذا المكان.

ب- المسائل الاخلاقية
ونتوقّف ثانياً عند المسائل الاخلاقيّة. حمل نعمان معه تراباً من أرض اسرائيل ليذبح هناك ليهوه. وهكذا دلّ على إحساس داخليّ تجاه الرب الذي شفاه. فبصفته قائد جيش الملك، فهو مجبر على أن يرافق ملكه إلى هيكل الاله رمّون ويسجد معه (2 مل 5: 18). مثل هذا العمل الخارجيّ والعلنيّ، قد يفرغ الايمان من محتواه، كما يعارض رغبة نعمان في تقديم عبادة ليهوه وحده. سأل هذا المرتدّ الجديد أليشاع. فطمأنه النبيّ: "إمضِ بسلام" (2 مل 5: 19).
وفي خبر تك 20 تبدو النظرة متشابهة. فالسؤال المطروح هو: هل يستطيع الله أن يفرض عقاباً على أناس أبرياء بسبب ذنب اقترفوه وما عرفوا أنه خطيئة؟ من جهة، أخطأ أبيمالك على مستوى الوضع الخارجيّ لأنه أخذ أمرأة متزوّجة. ولكنه في داخله لم يخطأ. والله نفسه يُقرّ له ببراءته (آ 6). لقد كان ابيمالك ضحيّة كذب ابراهيم الذي لم يخبره أن سارة امرأته. بالاضافة إلى ذلك، لم يقترب الملك من سارة (آ 4، 6). فالله حفظه من كل خطيئة. أجل، الرب يفعل بنعمته لدى اليهوديّ كما لدى الوثنيّ.
أما من جهة ابراهيم، فعملُه خطيئة مهما كانت الظروف. وكل شيء يدور حول تلك الخطيئة. أخفى الوضعَ الحقيقي لسارة فكاد يوقع ابيمالك وعبيده في خطر. كما جعل سارة في مأزق وهي حاملة الوعد. ستكون أم اسحاق. أما خطأه الكبير فلأنه اعتبر أن شريعة الله هي فقط لبني اسرائيل. ولأنه ظنّ أن مخافة الله غير موجودة خارج أرض اسرائيل. إذن، ليست موجودة لدى أبيمالك. ولكن الكاتب دلّ على أن ابراهيم، مع أنه نبيّ، مع أنه سيتشفّع من أجل ابيمالك ليُشفى من مرضه، لم يعش مخافة الله على المستوى الذي عاشه ابيمالك الذي جعله التقليد ملك الفلسطيين. فالفلسطيّون الذين هدّدوا المملكة في أيام داود فاحتقرهم بنو اسرائيل لأنهم ليسوا مختونين، بدوا أنهم في الواقع مختونون لا بختانة اللحم (مثل بني اسرائيل)، بل بختانة القلب حين سمعوا صوت الله وعاشوا مخافته.
ونتوقّف ثالثاً عند الملك والنبيّ. في خبر نعمان، النبيّ هو الذي يستطيع أن يشفي المرضى في اسرائيل، لا الملكُ (2 مل 5: 3، 8). ولما جاء نعمان إلى ملك اسرائيل، اعترف الملك بضعفه وقال: "العلّي أنا إله أميت وأحيي" (آ 7)؟ غير أنه لم يعرف أو هو لم يُرد أن يرسله إلى النبيّ. كأني به ما أراد أن يقرّ بأن هناك من هو أقوى منه. ولكن قوّة النبيّ هي من قوّة الله.
أما ابيمالك فهو الملك الذي يعرف مخافة الله. ومع ذلك، فعليه أن يعرف أنه يحتاج إلى النبيّ، إلى من يحمل كلمة الله رغم ضعفه وخيانته. وحده النبيّ يستطيع أن يتشفّع (تك 20: 17). وهكذا نحسّ من خلال هذا الخبر بعلاقة الملك والنبيّ. وعندما يتخاذل الملك يحلّ محلّه النبيّ وإن بشكل موقت. هذا ما حدث خلال الحرب الآراميّة الافرائيميّة على أورشليم. حلّ أشعيا موقتا محلّ أحاز. ولكنه أفسح المجال حالاً مع مجيء الملك حزقيا.

3- مخافة الله
ونصل إلى عبارة "مخافة الله" (آ 11) التي هي الموضوع الاساسيّ الذي نودّ التأمّل فيه. كان استعداد أول مع فعل "خاف" في آ 8. هو خوف لدى عبيد ابيمالك. ولكنهم هم لا يعرفون سبب هذا الخوف. "خافوا جداً". يقول النصّ هذا الكلام، فيدلّ على أن هذه العاطفة الدينيّة موجودة عند اليهود وعند اللايهود.
إن مخافة عبيد أبيمالك تشبه مخافة أناس وجدوا نفوسهم أمام إله يرعبُ الناس. قد نكون أمام مخافة دينيّة تشبه مخافة العبد من العصا. ولكن مجمل الخبر يتيح لنا أن نفهم أنهم مستعدون لأن يعيشوا مخافة أخرى تصفها آ 11. فمضمون مخافة الله في هذه الآية واضح: هي الطاعة لقواعد أخلاقيّة يحافظ عليها الاله. اذن، لسنا فقط أمام عاطفة سيكولوجيّة، بل أمام طاعة لشريعة الله، وجب على بني اسرائيل أن يعيشوها ولكنهم لم يفعلوا. فصاروا مثل يونان الذي لم يعرف أن يصلّي ساعة هاج البحر، بل استغرق في نوم عميق وكأنه لا يريد أن يسمع صوت الله. وصاروا مثل أورشليم التي ما أرادت أن تتوب كما فعل أهل نينوى. ذاك سيكون الوضع في الكنيسة الفتيّة. احتشد أهل مدينة أنطاكية بسيدية ليسمعوا كلام الله. فلما رأى اليهود الجموع، امتلأوا غيرة وأخذوا يعارضون كلام بولس بالكفر والشتيمة. فقال بولس وبرنابا بجرأة: "كان يجب أن نبشّركم أنتم أولاً بكلمة الله، ولكنكم رفضتموها، فحكمتم أنكم لا ترون أنفسكم أهلاً للحياة الابديّة. ولذلك نتوجّه الآن إلى غير اليهود، إلى الوثنيين" (أع 13: 44- 46).
ما جهل أبيمالك الشريعة التي تمنع الرجل أن يأخذ أمرأة جاره. ولكنه جهل أن سارة امرأة متزوجّة. وهكذا، حين علم بالخبر دلّ حالاً على أنه عائش في مخافة الله. وهكذا بدت حياته الاخلاقية أسمى من المؤمن بالله. وهذا ما يجب أن يطرح علينا سؤالاً. هل تتوافق حياتنا مع إيماننا؟ فقد يجدّف الناس على الله بسببنا، لأننا نقول لا تسرق ونسرق... وشي خبر نعمان، لا نجد موضوع مخافة الله مع أننا في وسط نبويّ. هذا يعني أن خبر ابراهيم في جرار هو خبر متأخّر. هو يرتبط بأسفار الحكمة التي قالت: "رأس الحكمة مخافة الله". وهكذا بدا أبيمالك حكيماً مثل هؤلاء الحكماء الذي عرفهم الشرق من مصر إلى بلاد الرافدين وذكر بعضَهم سفرُ أيوب.
تلك كانت قراءة ثانية للبنتاتوكس أو أسفار موسى الخمسة حيث اكتشفنا مع دور الملك والنبيّ، مخافة الله التي يجب أن يعيشها المؤمن، كل مؤمن. سواء آمن بالاله الواحد أو آمن بإله الأرض التي يعيش فيها. فإن كان من تسلّم الوحي قد نال من الله شريعة ووصايا، فالذي لم يتسلّم وحياً يعرف من خلال ضميره، من خلال صوت الله فيه، ما يجب أن يعمل ليرضي الله الذي يجازي كل انسان حسب أعماله. ففي النهاية، ما يطلبه الله من الانسان هو السعادة له ولمجتمعه. وحفظ الوصايا أفضل طريق في هذا السبيل، ومن تحلّى بمخافة الرب حفظ وصاياه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM