تقديم

تقْديم

كتاب البدايات ينقلنا إلى العبارة الأولى في سفر التكوين: في البدء خلق الله السماء والأرض. وتابع الله عمل الخلق بفعل محبّة لا محدودة فكوّن الانسان في النهاية على صورته ومثاله. بعد أن هيّأ له كل شيء، كما يهيّىء الملك قصراً لابنه، دعاه إلى النور، إلى الحياة، إلى السعادة. هذا هو مخطّط الله منذ البدء الذي لا يراه الانسان كاملاً إلاّ في شخص يسوع المسيح الذي هو حقاً صورة الله الذي لا يُرى. أما الواقع الذي اكتشفه المؤمن منذ القديم فهو واقع الخطيئة: خطيئة الانسان ضد الله ورفض لوصاياه. خطيئته في الحياة العائليّة والاجتماعية والسياسيّة والاقتصاديّة. يعتبر أنه سيّد نفسه وينسى أن شريعة الله تفرض نفسها عليه مهما كان عمره أو ثقافته أو وضعه الاجتماعيّ. فمنذ البدايات قالت الوصيّة: لا تقتل، لا تسرق، لا تزن، أكرم أباك وأمك. وسوف تقولها لنا حتى نهاية العالم. أجل، هو نداء الرب في قلب الانسان ولا يزال يدّوي حتى يعود الانسان بكلّيته إلى الله.
لهذا كان العنوان الثاني: مسيرة الانسان إلى الله. لا شكّ في أن ما نراه هو عالم الخطيئة والشرّ منذ بدأ قايين وقتل أخاه وتبعه لامك وأكثر زوجاته، وسيطر العنف في زمن نوح، والكبرياء مع بناء برج بابل. ولكن في العمق، الانسان هو ذلك العائد إلى الله، التائب دوماً، المتطلّع إلى حياة من الصداقة معه. يحسّ بالضعف من جهة وقلبه يميل إلى الشرّ. ويحسّ بالقوّة من جهة أخرى، والله منذ البداية وعد المرأة ونسلها بالغلبة على الحيّة الجهنميّة مهما ضاعفت حربها.
هذا ما أردنا أن نقدّمه في هذا الكتاب. بعد كلام عام حول الكتاب المقدّس، نتوقّف عند البنتاتوكس، عند أسفار موسى الخمسة. نبدأ بقراءة روحيّة للنصوص نكتشف فيها بركة الله ومخافة الله. عهد الله وكلمة الله. كان الشرّاح منذ بعض الوقت يشدّدون على تقاليد كتابيّة مثل اليهوهيّ (نسبة إلى يهوه، أي الرب، الذي يرد في النصوص) والالوهيمي (نسبة إلى الوهيم أي اللهم) والاشتراعي (نسبة إلى تثنية الاشتراع) والكهنوتي (نسبة إلى الكهنة). ولكن هذه النظريّة قد صارت موضوع تساؤل من قبل العلماء البيبليّين. فأكثرهم يعتبر أن التقليد الالوهيمي الذي هو ابن الشمال بعاصمته السامرة، ظلّ أخباراً شفهيّة ولم يتكوّن دوماً في شكل تخيّله الشرّاح منذ نهاية القرن الثامن. والتقليد اليهوهي في وجهه الأخير ليس ابن القرن العاشر أو الحادي عشر. بل ابن المنفى أو ما بعد المنفى أي في نهاية السادس وبداية الخامس. فالخبرة الروحيّة التي نجدها مثلاً في دعوة ابراهيم أو في تقدمة ابنه ذبيحة، هي أعمق من أن تكون وليدة ذلك العصر.
وكانوا قد حصروا التقليد الاشتراعيّ في سفر تثنية الاشتراع. ولكن تبيّن أن هذا التقليد الذي يشدّد على عهد الله مع شعبه كعهد الملك العظيم مع ملك صغير، أو كعهد عريس مع عروسه، هو أوسع من كتاب واحد. فنحن نجد آثاره في سفر الخروج مثلاً، خلال الاحتفال بالفصح وفي مواضع أخرى. قد تكون نواته مملكة الشمال، ولكن أعيد "تكوينه" على ثلاث مراحل على الاقل: واحدة قبل المنفى إلى بابل سنة 587، وأخرى خلال المنفى، وثالثة بعد المنفى أي حوالي سنة 520 ق. م.
والتقليد الكهنوتي جاء في النهاية. قدّم نظرته من زاوية الحياة في الهيكل، وحاول أن يجمع شتات الأمّة فاهتّم بلائحة الانساب، ولا سيّما الكهنوتيّة منها، وشدّد على الختانة التي تربط الانسان بشعب الله، وعلى شريعة السبت التي تجمع المؤمنين في يوم محدّد من الاسبوع بعد أن تشتّتوا في كل مكان. ووضع "الكهنة" بقيادة عزرا اللمسات الأخيرة على ما سميّ البنتاتوكس أو الشرعة التي تجعل لشعب اسرائيل مكانته القانونيّة داخل العالم الفارسيّ، شأنه شأن سائر شعوب تلك الامبراطورية الواسعة التي امتدّت من جنوب مصر حتى الهند.
أما نحن، فقد أشرنا إلى هذه التقاليد الكتابيّة في خطّ الابحاث، ولكننا انطلقنا منذ بضع سنوات من نظرة لا تفتّت النص الكتابيّ كما دأب عدد من الشرّاح على فعله، بل تقرأه قراءة إجماليّة لكي تكتشف الخطوط الروحيّة التي تعطي الكتاب نفحته. لا شكّ في أننا نستطيع القول إن تك 1: 1- 2: 4 أ هو من التقليد الكهنوتيّ. ثم 2: 4 ب- 4: 26 من التقليد اليهوهي. وتبدو القسمة تعجيزاً في ف 7: آ 1- 5: اليهوهي. آ 6: كهنوتيّ... آ 16 ب: يهوهي. آ 17 أ: كهنوتي. آ 17 ب: يهوهي. آ 18- 21: كهنوتي. مثل هذا العمل أتعب الشرّاح وجعل المؤمنين يضيعون. لا شكّ في أن الذين حاولوا أن يقرأوا النصوص الكتابيّة كانوا عديدين، وكذلك الذين دوّنوها. ولكن لا ننسى أن الكاتب الذي يوحّد جميع النصوص هو الروح القدس وهو يريد أن يقدّم لنا تعليماً. ثم إن الانسان الذي أعطى الكتاب صيغته النهائيّة ما أراد أن يكون بكلامه تجميعاً لأمور أخذها من هنا وهناك ولصقها بعضها ببعض فكان ما كان. لقد أراد أن يقدّم خبرة روحيّة عاشها مع شعبه لتكون نقطة انطلاق للأجيال الآتية فتكتشف كلمة الله من خلال كلام البشر مهما كان ناقصاً وضعيفاً.
لا شكّ في أن شرائح عديدة من شرقنا لم تصل بعد إلى الدراسة العلميّة والتحليليّة للنصوص الكتابيّة. فهي تقرأها كما هي على حرفيّتها وكأنها أنزلت. نقول أولاً إن الكتاب المقدّس الذي بين أيدينا لم يُكتب في العربيّة بل في العبريّة والارامية واليونانيّة. وأن ما بين أيدينا هو ترجمة. ولا تستطيع ترجمة أن تكون كاملة. بل قال الناس: المترجم هو خائن. إذن، لا "نقدّس" ترجمة من الترجمات مهما سمت لغتها. لا "نقدّس" ترجمة لأننا تعلّمنا نصَّها غيباً. لكل ترجمة حسناتها وسيّثاتها. ثم، ليس المهمّ هذه اللفظة ولا تلك، لا هذه العبارة ولا تلك. المهمّ أن يساعدنا هذا النصّ المترجم على اكتشاف الفكرة التي أراد الكاتب الملهم أن يوصلها إلينا. هذا مع العلم أن النصّ المترجم يتحسّن يوماً بعد يوم بسبب الابحاث التي تتمّ في العالم، واكتشافات النصوص القديمة التي تساعدنا على فهم كلمة قد لا ترد سوى مرة واحدة في الكتاب المقدّس. فلا نبقَ على القديم لأنه قديم. فهذا علامة موت. ولا نأخذ الجديد لأنه جديد. فهذا يدلّ على أن لا جذور لنا. ولكننا نعرف أن ننطلق من جذورنا كالشجرة، ونرتفع، بل ننزل إلى الأعماق على ما طلب يسوع من بطرس وسائر التلاميذ: انتزحوا إلى العمق. لماذا تخافون يا قليلي الايمان.
لماذا نخاف على كلمة الله ونقيّدها في حرف يقتل. فالله لم يكتب بيده. فلا يد له مثل أيدينا. ولم يتكلّم بفمه. فلا فم له مثل أفواهنا. هو كلّم أنبياءه ورسله بوحي. وهم كتبوا وأعادوا كتابة ما كتبوا. وتأمّلت الجماعة وزادت أموراً عديدة هي نتيجة تأمّلها. وهكذا كان الكتاب المقدّس في كل سفر من أسفاره وليد وحي جاء إلى أحد الناس. فحمله إلى الجماعة التي تأمّلت فيه. وفي النهاية، دوّن أحد الكتّاب نتيجة هذا التأمّل مستنداً إلى عبقريّة أعطاه الله إياها. وكل هذه المسيرة قادها الروح القدس حتى وصل إلينا النصّ في الصيغة التي نقرأها اليوم. وما زال الروح يرافق الكنيسة والمؤمنين لكي "يكتبوا" من جديد هذه الكلمة الالهيّة درساً وشرحاً ووعظاً وتعليماً، بحيث يتجسّد كلام الله في الأفراد والجماعات.
أجل، الكتاب المقدّس ليس وليد عبقرية شخص واحد مهما كان هذا الشخص. هو نتيجة عمل الجماعة. لهذا لا نعرف من كتبَ سفرَ التكوين ولا سفر الخروج... وإن ربط الأقدمون الأسفار الخمسة بموسى، فهذا لا يعني أن موسى كتبها وأنهاها حين تحدّث "مسبقاً" عن موته. إن تدوين البنتاتوكس امتّد على سبعة أو ثمانية قرون من الزمن. إذا كانت دوّنت الوصايا وبعض الأمور الشعريّة في زمن موسى الذي يحدّد العلماء عصرَه بالقرن الثالث عشر ق. م، فالأسفار الخمسة لم تصل إلى صورتها النهائية إلا في القرن الخامس، وربّما في بداية الرابع ق. م. وسوف تأتي السبعينيّة وتعطي النصّ العبري الاساسيّ معنى روحياً آخر. لقد حاول التقليد اليهوديّ وبعده التقليد المسيحيّ أن يعتبر موسى صاحب الأسفار الخمسة، وداود صاحب المزامير حتى لو تحدّثت عن بناء أسوار أورشليم في القرن الخامس ق. م، أي بعد داود بستّة قرون. واعتبروا سلمان صاحب الأسفار الحكميّة، بل صاحب سفر الحكمة الذي دوّن في اليونانيّة في القرن الأول ق. م، أي تسعة قرون بعد موت سليمان. كل هذا يمنعنا من تأليه الأفراد وتقديس اللفظة والحرف، لنصل إلى عمق خبرة الايمان.
لا شكّ في أننا نقرأ النصّ الالهيّ كما كتبته أيدي البشر. ويا ليتنا نقرأه في لغته الاصليّة. نقرأه حرفياً لكي نفهم معنى الكلمات. نقرأه في الاطار الذي كُتب فيه. نحاول أن نكتشف السؤال الذي يحاول أن يردّ عليه. مثلاً، دوِّن تك 22 ليقول لنا إن الله لا يريد الذبائح البشرية... ودوّن تك 2 ليعلّمنا كرامة المرأة في محيط لا يترك للمرأة مكانة سوى أن تكون خادمة الرجل ومربّية أولاده. ودوّن سفر راعوت رداً على تصرّف عزرا ونحميا حين طردا النساء الغريبات مع أولادهّن. ودوّن سفر يونان ضدّ حركة الانغلاق داخل الشعب العبراني: فالله يرسل أنبياءه إلى شعبه كما إلى سائر الشعوب. وكتب تك 20 ليدلّ القارئ على أن مخافة الله موجودة لدى الوثنيين بشكل لم يوجد حتى عند أبي الآباء ابراهيم.
نقرأ النصّ الالهي، ولا نفرض عليه مفاهيمنا المسبقة. ولا نفرض عليه ما نكون قد سمعنا هنا وهناك ولا نريد أن نتزحزح عنه، بحيث صار تعليم "استاذنا" كتاباً مقدّساً. لا شكّ في أننا نحتاج إلى المعلّمين وإلى شروح الكتاب المقدّس، لكي ندخل في عالم بعيد عنا في الزمن، في لغة وصور ورموز ما عاد يفهمها عالمنا الحديث. ولكن كل هذا يجب أن يقودنا إلى عمق كلام الله نتأمل فيه فنخرج منه كلَّ قديم وجديد. كل هذا يجب أن يقودنا إلى قراءة الكتاب بحيث يصبح كلمة تتوجّه إلينا اليوم وفي الظرف الذي نعيش فيه. عند ذاك يصبح كل واحد منا "كتاباً مقدّساً" يراه الناس ويقرأونه. أما هكذا كان الانبياء والرسل؟ أما هكذا نستطيع أن نرى حولنا من يجسّد المحبّة والتواضع والعطاء وكل المواهب التي يوزّعها الله على كنيسته وعلى الأفراد العاملين في كنيسته.
تعوّدنا أن نحفظ الكتاب غيباً ونكرّره. لا بأس، ولكن هل ننسى أن التكرار يخلق فينا بعض المرات الجمود القريب من التخدير؟ تعوّدنا على شرح قرأناه أو سمعناه؟ ولكن هل نسينا أن الكتاب المقدّس ليس كتاباً خرج من الماضي ويبقى في الماضي حتى ولو كان الشرّاح الذين نأخذ بهم هم آباء الكنيسة. عمل الروحُ فيهم فأعطونا روائع. هنا نذكر اوريجانس ويوحنا فم الذهب وتيودوريتس القورشيّ... أما زال الروح يعمل فينا لكي نقدّم كلمة الله إلى عصرنا؟
من أجل هذا كان الكتاب الذي بين أيدينا: في البدايات أو مسيرة الانسان إلى الله. منذ العيلة الاولى بدأت المسيرة. وهي تتتابع في كل عيالنا، في حياة كل واحد منا. هناك الخطيئة وهناك النعمة. هناك الضعف البشري وهناك قوّة الله التي عملت في نوح وابراهيم واسحاق ويعقوب ويوسف وموسى. التي عملت في "بعض الأوباش" الهاربين من العدالة أو دفع الضرائب والسخرة، فجعلت منه شعباً منظّماً يسير إلى أرض الرب كما في تطواف مقدّس. لا ننظر إلى هذه الأخبار من الخارج لنحكم عليها من منظارنا البشري. بل نقرأها من الداخل لتصبح كلاماً يتوجّه إلينا ويدعونا إلى تبديل حياتنا. فأنا ابراهيم الذي يدعوه الله رغم ضعفه وما يمكن أن يقوم به من أعمال مشينة. أنا يعقوب الذي يراوغ ويكذب، وقد يأتي يوم يتواجه فيه مع الله فتنقلب حياته على مثال ما حدث لأوغسطينس وغيره. أنا يوسف الذي يستطيع أن يتغلّب على الشرّ بالخير. إن لم نقرأ الكتاب المقدّس بهذه الطريقة، لن تتبدّل حياتنا أبداً، بل نعيش على مستوى الكلام الفارغ والبحث المغرض الذي يُفرغ كلام الله من محتواه.
إلى هذه المسيرة أدعو نفسي وأدعو القارئ. لا أحكم على الآخر، على الآخرين، كما يفعل الفريسي. بل أحكم على نفسي انطلاقاً مما أقرأ. لا أكتفي بالكلام والنظريات الفارغة التي تهدم ولا تبني، التي تستعبد الجهّال الذين حولنا ولا تحرّرهم، التي تجعل كلام البشر مسيطراً على كلام الله. مثل هؤلاء الناس يقولون ولا يعملون. أما أنا فأنطلق من ذاتي لأقرأ الكتاب، وأنطلق من الكتاب لأحيا على النور الذي يقدّمه كلام الله. فهنيئاً لنا إن كنا قد دخلنا في هذه المسيرة. وإلاّ، نبدأ منذ الآن، فنعود إلى البدايات. فحياة كل انسان قد تبدأ في يوم من الأيام مع الرب، ولا تنتهي إلا في قلب الربّ.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM