الفصل التاسع عشر: قيامة يسوع

الفصل التاسع عشر
قيامة يسوع

1- مفهوم هيئة شهود يهوه حول موضوع قيامة يسوع
ورد في كتاب (يمكنكم أن تحيوا إلى الأبد في الفردوس على الأرض- ص 143- 145): "ولكن يعتقد الكثيرون من الأشخاص أن المسيح أخذ جسده اللحمي إلى السماء. ويشيرون إلى أنه عندما أقيم المسيح من الأموات لم يعد جسده اللحمي موجوداً في القبر. (مرقس 16: 5- 7) وأيضاً بعد موته ظهر يسوع لتلاميذه في جسد لحمي ليوضح لهم أنه حي... كلا، فالكتاب المقدس واضح جداً إذ يقول: "المسيح أيضاً تألّم مرة واحدة من أجل الخطايا... مماتاً في الجسد ولكن محيي في الروح" (1 بط 3: 18) والبشر بأجسام من لحم ودم لا يمكنهم أن يحيوا في السماء. وعن القيامة إلى الحياة السماويّة يقول الكتاب المقدّس: "يُزرع جسماً حيوانياً ويُقام جسماً روحانياً... ان لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت الله" (1 كورنتوس 15: 44- 50)... إذن ماذا حدث لجسد يسوع اللحمي؟ ألم يجد التلاميذ قبره فارغاً؟ بلى، لأن الله أزال جسد يسوع. ولماذا فعل الله ذلك؟ إتماما لما هو مكتوب في الكتاب المقدّس (مز 16: 10؛ أع 2: 31): "لن تدع تقيّك يرى فساداً" وهكذا رأى يهوه ملائماً أن يزيل جسد يسوع، كما فعل قبلاً بجسد موسى. (تث 34: 5 و6)... وفيما ظهر يسوع لتوما في جسم مماثل لذاك الذي مات فيه اتخذ أيضاً أجساماً مختلفة عندما ظهر لأتباعه...". ونلاحظ قبلاً ورود: "كان ضرورياً أن يضع يسوع نفسه ويصير إنساناً. وكان يجب أن يبذل حياته البشريّة الكاملة فدية عنا... وان بذل المسيح جسده من أجل حياة العالم لا يمكن أبداً أن يكون رجوعه في الجسم البشريّ الذي قدّمه ذبيحة مرة واحدة".
وهنا سنورد ملاحظاتنا حول النصّ المقتبس:
- هناك اعتقاد بأن الناس (أو نحن) يؤمنون بقيامة جسد بشريّة يسوع إلى حياته السابقة.
الله أزال جسد يسوع المسيح، مثلما أزال جسد موسى (تث 34: 5 و6) وذلك ليرى التلاميذ القبر فارغاً.
- اتخذ يسوع أجساداً مماثلة لجسده السابق ليظهر لتلاميذه فيؤمنوا به.
- ان المسيح الذي بذل نفسه فديّة كفاريّة عن البشر، لا يقدر أن يستعيد جسده ثانية.
- ان هذا هو السبب الأساسيّ لعدم امكانيّة رجوع المسيح مرّة ثانية بجسم قدمّه ذبيحة مرة واحدة.
- ان النصّ المقتبس هو ضمن موضوع "رجوع المسيح- كيف يُرى"؟، وفيه يرد (ص 145- 146) تأمّلوا كيف يصف الكتاس المقدس الطريقة التي بها غادر يسوع رسله في طريقه إلى السماء: "ارتفع وهم ينظرون، وأخذته سحابة عن أعينهم" (أع 1: 9). فصار يسوع المنطلق غير المنظور لهم. ولم يتمكنوا من رؤيته... وهكذا يكون رجوعه أيضاً غير منظور، في جسم روحانيّ"، وفي (ص 147): "وبالطريقة ذاتها لا يعني رجوع المسيح أن يأتي ثانية على هذه الأرض حرفياً. ولكن يعني أن يتسلّم سلطة الملكوت نحو هذه الأرض ويلفت انتباهه إليها. وهو لا يحتاج إلى مغادرة عرشه السماوي والنزول فعلاً إلى الأرض ليفعل ذلك... يُظهر دليل الكتاب المقدس أنه السنة 1914 ب. م. أتى وقت الله ليرجع المسيح ويبتدىء الحكم... وهكذا يظهر أن فشل توقّع هيئة شهود يهوه مجيء المسيح مرة ثانية سنة 1914 دفعها لتنفي المجيء المنظور (كما توقعت أيضاً) إلى مجيء روحاني غير منظور. ولاثبات هكذا مفهوم، انطلقت الهيئة في خطوات جبّارة تحركت بها نحو قيامة المسيح في جسده، وزعمت أنه أزاله الله (وهذا لا يرد في الكتاب المقدّس مطلقاً)، وذلك للالتفاف ولتدعيم موضوع المجيء غير المنظور للمسيح. واتخذت الهيئة غطاءً لاهوتياً متيناً وجدته تحت جناح الكفارة، فاذا قدّم يسوع جسده كفارة من أجل البشر، فكيف يسترجعه؟ فان استرجعه استرجع الفدية معه، وبالتالي لم يتم الفداء... مع أنها تبدو حجة قوية، ولكن عند تفكيكها تظهر ركاكة التفاسير، والأخطاء اللاهوتيّة الفادحة. أولاً في مفهومهم عن الكفّارة، ثانياً في مفهومهم عن القيامة، ثالثاً في مفهومهم عن المجيء الثاني والملكوت. وما سنبحثه هو القيامة فقط، وذلك لأنه موضوعنا الرئيسي أولاً، ولأن الكفّارة والمجيء الثاني والملكوت مواضيع أخرى مختلفة، جمعتها هيئة شهود يهوه لأسباب باتت واضحة.

2- التفسير السليم
يظهر في الاقتباسات التي تصرّح بها هيئة شهود يهوه، سوء تفاهم كبير بقولهم انه يعتقد بعض الناس أن المسيح قام بجسده البشريّ وانطلق به نحو السماء، وانه ظهر لتلاميذه بالجسد البشريّ. وهذا الالتباس الذي لا بأس به يُظهر مفهوماً مغلوطاً عن القيامة. والكنيسة لا تعلم ذلك مطلقاً، فالمسيح لم يقم بجسده البشريّ، وعاد إلى حياته الإنسانيّة التي كان عليها قبل الموت. أما في موضوع إزالة جسد المسيح من قبل الله فهذا أمر لا يرد في الكتاب المقدّس أبداً. أما أمر اتخاذ المسيح أجساداً مختلفة من أجل الظهورات فهو أمر استنتجته الهيئة ولا يرد في الكتاب المقدّس مطلقاً. أما في خصوص الآيات التي اقتبستها الهيئة من الكتاب المقدّس، فكلها أساءت استخدامها وتفسيرها، وسنأتي علبها بمختصر شديد وذلك قبل الدخول في موضوع القيامة كما تعلّمه الكنيسة. والآيات هي:
أ- (1 كور 15: 44- 50)= (يرجى مراجعة تفسيرنا للنصّ).
ب- (تث 34: 5 و6)= لا يقول النصّ بأن الله أزال جسده، بل لم يعرف أحداً موضع قبره، وذلك لكي لا يقدّسوه ويجعلوه محجّة للزيارة بدل خيمة الربّ.
ج- (مز 16: 10 وأع 2: 31) يقتبس سفر الأعمال نصاً من مز 16، وذلك في موضوع خطبة بطرس بعدما تمّ تأوينها وإطلاقها على يسوع. فابتدأ باقتباس من يوئيل (3: 1- 5) من الترجمة السبعينيّة، عن أنهم ليسوا سكارى. بل أن روح القدس قد انسكب. وانطلق شارحاً سرّ الحدث وهو قيامة المسيح وحضوره الحيّ. فالمسيح سلّمه اليهود لأيدي أثمة لصلبه، وبعد موته لم يتركه الآب بل أقامه. وعبرّ عن ذلك بمقدمة نشيد النصر على الموت والقيامة، مشيراً إلى أن داود ما زال قبره موجوداً أي أنه لا يقصد داود بالنشيد بل المسيح. لذلك فالمسيح نفذ من قبضة الموت نحو القيامة. وبذلك أشار بطرس إلى الأزمنة الأخيرة (قدوم روح الله، واقتباس يوئيل 3، والقيامة)، وبذلك ارتفع يسوع إلى السماء، ووعد بإرسال الروح القدس. وهو بذلك يفسّر سرّ الحدث. أما الكاتب لوقا، فهو يعود إلى الماضي ليعود إلى أصول انتشار المسيحيّة في عصره، معيداً إيّاها إلى حدث عنصرة واحد، يرى فيه عنصراً توحيديّاً للكنيسة تحتاج إليه حينها.
د- (1 بط 3: 18) تُصنّف رسالة بطرس الأولى، بالعامّة. كتبت من رومة وتوجّهت إلى الجماعات المسيحيّة المشتّتة في آسيا الصغر الشماليّة، معظمهم من أصل وثني، وأغلبها من الطبقة العامّة، فيراسلها بطرس مشدّداً إياها تجاه الصعوبات والمحن ملفتاً نظرها نحو العناية الإلهيّة (4: 12؛ 5: 9)، وملفتاً النظر إلى البشارة في موت المسيح وقيامته كركيزة رجاء وأمل حقيقيّ ينبغي أن يتصلوا بها، فينالوا المكافأة نتيجة صبرهم واحتمالهم الاضطهاد. وترد الآية المقتبسة ضمن نشيد يعود إلى تقليد قديم أُدخلت عليه تعديلات زادته عمقاً وجمالاً وتألّقاً (3: 18- 22). ويقع النشيد بدوره ضمن فقرة تدعو لاحتمال العذاب والصعوبات في عمل الخير. وهذه الفقرة (3: 13؛ 4: 11) تحمل إرشادات ونصائح على مثال باقي الفقرات في الرسالة. وعنوانها أو موضوعها الرئيسي: الروح المسيحيّة التي بها نواجه الاضطهاد. فينطلق الكاتب ليشجّع أخوته بالثبات على السلوك المسيحي وعدم ردّ الاساءات، بل تحمّلها لأن الله يرى كل شيء، ويتاح أنه ان تألّموا فليكون بسبب إيمانهم وعملهم للخير لا بسبب تصرفات تستحق العقاب، ثم يدعوهم الكاتب لتحمّل الألم على مثال الربّ. ويفرد نشيداً معروفاً في تقاليد الكنيسة، ويعرف الكاتب سلفاً وقْعه عليهم وهو (3: 18- 22)، وليأخذوا من المسيح عبر الحياة بلياقة وإيمان وترك السلوك السيء لأن الله سيعاقب البشر كلهم أمواتاً وأحياء. ويتابع بأن الدينونة والنهاية قريبة فلينقطعوا للصلاة وللمحبّة الشديدة لبعضهم البعض، ولينشغلوا بمواهمب الله لهم لبناء الكنيسة.
وبعد هذا العرض العام، نستطيع أن نفهم طبيعة ومغزى هذا النشيد:
- فالمسيح نفسه مات مرّة واحدة من أجل الخطايا.
مات وهو البار من أجل الأشرار ليقرّبهم إلى الله.
- مات في الجسد، ولكن الله أحياه في الروح.
- فانطلق بهذا الروح يبشّر الأرواح السجينة التي تمرّدت فيما مضى، حين تمهّل صبر الله أيام بنى نوح الفلك فنجا فيه بالماء عدد قليل، أي ثمانية أشخاص.
- وكان هذا رمزاً للمعموديّة التي تنجيكم الآن، لا بإزالة وسخ الجسد، بل بعهد صادق النيّة مع الله بقيامة يسوع المسيح.
- الذي صعد إلى السماء وهو عن يمين الله تخضع له الملائكة والقوات وأصحات السلطان.
والمغزى من النشيد يتلخّص بهذه العبر:
- ان لنزول المسيح إلى الهاوية موقعاً يتردّد خبره في العهد الجديد (رج مت 12: 40؛ أع 2: 24 و31؛ روم 10: 7؛ أف 4: 9). فيؤكّد موت يسوع الحقيقيّ ويبرهن على ذلك نزولُه إلى الهاوية. وطبعاً لا نتكلّم عن مكان جغرافيّ بل عن حقيقة إيمانيّة يحتويها هذا النشيد الذي يظهر كقانون إيمان أوّلي.
- ان نزول المسيح إلى الهاوية وانطلاقه منها، متحرّراً من قبضة الموت، كان انتصاراً شاملاً على الحياة والموت البشريّين معاً، لذلك ستخضع له كل البشرية أمواتاً وأحياء (رج 1 بط 3: 22؛ روم 14: 9؛ في 2: 8- 10؛ أف 1: 21 و22؛ 1 كور 15: 24- 25؛ رؤ 5: 13).
- ان حضور المسيح في أيّ مكان حضور محوّل، وبالتالي يعني "بشّر" الأرواح التي هي هنا. وهكذا وصل برسالته إلى الكون أجمع (رج 1 بط 4: 5؛ روم 8: 21- 23؛ رؤ 1: 18).
من هنا ندرك هذه الصور الشعريّة الرائعة التي تعبرّ عن مفهوم الكنيسة عن المسيح وعمله الذي بموته الحقيقيّ تخطّى الموت الحقيقيّ، قيامة انتصر فيها على كل شيء، فوصلت رسالته إلى الكون أجمع الذي سيخضع الكل له (رج عب 2). وهذا المغزى هو ما يتخذه بطرس الرسول مطلقاً ليؤكّد مثالاً يجب أن يحتذى به تجاه العالم الوثني الذي يُعد ميتاً روحياً، فلنتحمّل الألم من أجلهم كما المسيح، ولنصبر لأن الله سيدين الأحياء والأموات. وبذلك نرى أن حياة المسيح بالروح لا يعني بها بطرس جسماً أو شبحاً روحانياً، بل ما أوردنا سابقاً. والآن بعد مرورنا على الآيات وتفسيرها بشكل سليم، ننطلق لنعالج موضوع قيامة يسوع، وإزالة الالتباس والغموض الذي حوله.
تعتقد هيئة شهود يهوه، بأن عدم معرفة التلاميذ للمسيح هو دليل على أنه اتخذ أجساداً أخرى، مما غيّر هيئته. ولكن إذا رجعنا إلى الأناجيل، نجد أن المسيح تغيّرت هيئته مرات عديدة وهو بعد حيّ (رج مت 14: 25- 27؛ 17: 1- 9). ولكن هذا المفهوم الحرفي غير كافٍ، ونحن لا نعتمد عليه في مفهوم قيامة يسوع. لذلك سنبحث في هذا الموضوع انطلاقاً من نصوص وردت في العهد الجديد، روايات كانت أم أناشيد أم آيات.
نصوص أخرى عن القيامة
ترد روايات القيامة في الأناجيل (مت 28: 1- 10؛ مر 16: 1- 8؛ لو 24: 1- 12؛ يو 20: 1- 10)، كما وترد أناشيد أو قوانين إيمان أوّليّة في تقاليد الكنيسة ظهرت في الكتابات المقدسة أهمها: 1 كور 15: 1- 4؛ 2: 6- 11؛ كو 1: 15- 20؛ 1 تيم 3: 16؛ 1 بط 3: 18- 22. فإذا قارنّا روايات الأناجيل وجدنا اختلافات واضحة، والسبب يعود إلى الحلفيّة التي يتوجّه بها الكاتب ليقدّم لنا رواية القيامة. فمتّى يشير إلى أن القيامة هي نهاية الأزمنة، وقد أورد في نصّه عن موت المسيح صوراً رؤيويّة (27: 51- 53). ويعطي لمعنى القيامة حدثاً انتصر به يسوع على قوى الجحيم، وقام كابن الإنسان ممجداً. أما مرقس فنراه يختم إنجيله بهذه الرواية دليلاً على الأهميّة التي يوليها. ويشير إلى طلب الملاك الذهاب للجليل حيث يسبقهم يسوع (16: 7)، أي عدم الاكتفاء بمشاهدة القبر الفارع، بل الانطلاق نحو الوثنيين (بمعنى لاهوتيّ خاص أضفاه علي الجليل)، ويختم بأبعاد زمنيّة ثلاثة: ماضي الترائيات، ومستقبل عودة المسيح، وحاضر الرسالة (الجليل). وهو يحاول ربط جماعته بمرحلة انطلاق القيامة مؤسّسا إيّاها على حياة يسوع الرسوليّة. أما لوقا فتكون رواية القيامة مقتضبة، وينيرها بالترائيات، ونجده يعطيها مناحي ملموسة كونه يتوجّه نحو اليونانيّين، ليؤكّد أن المسيح قام حقيقةً بجسده لا بروح كشبح. أما يوحنا فيقول بأن الكلمة تجسّد ورأينا مجده، ومجده يظهر في موته وقيامته الحقيقيّة، متوجّهاً إلى كنيسته للتشديد والثبات بالذي تمجّد، وللبدع والهرطقات التي تواجهها الكنيسة. فتبدو الترائيات ملموسة، وبالوقت نفسه غير ملموسة (دخل يسوع والأبواب مُغلقة- توما إلمسني)...
ونرى ورود صور وأفعال عن القيامة لها مدلولات عميقة لاهوتياً. مثلاً، نرى أن الله "أقام" يسوع (أع 2: 24؛ روم 10: 9؛ 1 تس 1: 10)، ثم نرى عبارات مثل "كما جاء في الكتب" (1 كور 15) وتعني تأصل قيامة المسيح في المخطّط الإلهي. كما نرى عبارة "اليوم الثالث" وهي عبارة تعني نهاية الأزمنة أكثر منها حرفيّة (رج هوشع 6: 2). كما وعبارة "من أجلنا" الواردة في أش 53 وذلك إشارة إلى "عبد الله المتألّم". كل هذه دلالات لاهوتيّة على سرّ ابتدأ ينكشف شيئاً فشيئاً، وجوهر هذا السرّ هو عودة يسوع إلى الحياة (رج رو 14: 9؛ 1 كور 13: 4؛ عب 7: 25؛ لو 24: 5) وترد عبارة "الحيّ" وأصل هذه العبارة تعود إلى "الله الحيّ" (رج مت 26: 63). وقبل موت يسوع تبرز الأناجيل اقامة يسوع للموتى (رج يو 11/ اقامة اليعازر؛ لو 8/ اقامة ابنة يايرس؛ لو 7/ اقامة ابن أرملة ناتين)، وهي أشياء وأعمال تعود إلى الله (رج أش 26: 19؛ هو 6: 2؛ 2 صم 2: 6). ولكن يبرز خطر يقول بأن يسوع عاد إلى حياته البشريّة على مثال العازر والآخرين، لذلك نجد عبارات أخرى تميّز قيامة يسوع عن الآخرين "الحياة الأبديّة" (عب 7: 24 و25؛ رؤ 1: 8).
كما وانه لن يموت ثانية (روم 6: 9)، وجرى شرح كيفيّة قيامة يسوع من بين الأموات بصفته "البكر"، أي بدء عالم جديد، بآدم جديد (رج 1 كور 15: 20- 23؛ كو 1: 18؛ أع 3: 15). ونرى تكثّف عبارات هائلة تحمل أبعاداً وأبعاداً تدلّنا على أن قيامة يسوع ليس حدثاً كقيامة أي شخص آخر. فترد عبارات "رفع" و"مجد" عن يسوع. فالله مجّد ورفع يسوع بالقيامة (يو 12: 23؛ أع 3: 13؛ فيل 2: 6- 11؛ 1 بط 1: 21؛ أع 1: 9).
كل هذه العبارات ما هي إلاّ كلمات مفتاحيّة لكلٍ منها دلالات لاهوتيّة ترشدنا إليها كما ذكرنا. ويلتقي الكل عند هرم حدث القيامة كسؤال مطروح على الإنسان في عمق ضميره، وعلى التاريخ بأبعاده الماديّة. فهل القيامة حدث تاريخي مثل نابليون وهتلر والحرب العالميّة... أم هي حدث إيمانيّ؟! هنا يجيب فرنسوا فاريون: "القيامة هي في آن واحد، وبدون انقسام، واقع تاريخيّ وحدث للإيمان. نقول بوجه أدقّ انها حدث للإيمان، ينطوي على واقع تاريخيّ". ويضيف ان ما هو تاريخي يكمن في شهادات التلاميذ عن قيامة يسوع، وفي جوهر هذه الشهادات التاريخيّة يكمن لبساً وواقعاً إيمانياً لا يؤرّخ، فالقيامة بجوهرها هي الانتقال من الحياة البشريّة الماديّة إلى الحياة مع الله في الأبديّة. وهذه حقيقة إيمانيّة لا تاريخيّة، لأن مشاهدة هذا الانتقال مستحيلة على مستوى العيون البشريّة. فيسوع انتقل من الحياة بحسب البشر (يأكل- يشرب- ينام- يتنقّل من مكان لآخر...) إلى الحياة الأبديّة مع الله (غير خاضع لزمان ولمكان ولمحدوديّة المادة). لذلك يمتاز عن العازر وغيره، لأن يسوع انتقل إلى الحياة الأبديّة مع الله، أما العازر فعاد إلى الحياة البشريّة. وفي الحقيقة الجوهريّة أنه لم يقم لأن الموت سينال منه بعد...
وهكذا يتضح أن القيامة وهي حدث يتم في نهاية الأزمنة، وقع مع يسوع فقط، لأن الجميع عادوا إلى الحياة البشريّة، أما يسوع فقام مستبقاً الأزمنة، ومعلناً نهاية الأزمنة وبدء العالم الجديد كونه "بكراً من الأموات" و"آدم الجديد".
ونواجه سؤالاً موضوعياً: أليست القيامة المثبّتة تاريخياً برهاناً أفضل؟ ألا يبرهن القبر الفارغ شيئاً ما؟ ونجيب، كلا، لأن القيامة المبرهنة تاريخياً، لا تكون قيامة. لأن للتاريخ انطلاقة فلسفيّة تعتمد على الظواهر والمحسوسات المتطابقة مع الحواس. عندئذٍ لا تكون قيامة، بل عودة لبشريّة سوف ينال الموت منها يوماً ما. أما القبر الفارغ فليس برهاناً تاريخياً بقدر ما هو سؤال مفتوح يطرحه يسوع على التاريخ البشري، ويجيب عليه بواسطة التلاميذ وشهاداتهم التاريخيّة عبر الترائي لهم (أي اظهار نفسه). وهنا ينطلق سؤالاً آخر أعمق، وهو: كيف نعلم أن هذه الترائيات حقائق موضوعيّة لا أوهام أطلقتها مخيّلات وعقول يائسة، خدعت أنفسها والآخرين؟ نجيب، ان الترائي حدث لعدد كبير، يذكر الرسول بولس منهم خمسماية أخ (1 كور 15) (وطبعاً لا نستند عليها كبرهان)، ولكن نعلم أن إيمان التلاميذ انهار، ودبّ الخوف بهم والضعف أيضاً. وبعد الترائيات حدث أنقلاب لا يُبرّر، إذ انتقلوا إلى الشهادة حتى الدم عن قيامة يسوع. فبين الأمرين حدث شيء غيّر الموازين، وقلب الاتجاهات والمعادلات، وتفسّره الأناجيل والرسائل بالظهورات. ونستشهد بفاريون: "ليست الترائيات من تركيب الرسل وحدهم، بل هي واقعيّة بمعنى أن الرسل رأوا القائم من الموت بحكم مبادرة لم تصدر عنهم، بل عنه. في حالة التخيّل، تصدر المبادرة عن الذات العارفة. أما في حالة الترائيات، فإن المبادرة لا تصدر عن الرسل، بل عن المسيح. وبكلمات أخرى، لم يرَ الرسل يسوع إلاّ لأن يسوع أرى نفسه". ويعبرّ العهد الجديد عن هذه الحقيقة أن يسوع هو من أرى نفسه لتلاميذه (رج مت 28: 9؛ مر 16: 9 و12 و14؛ لو 24: 36؛ يو 20: 14 و19؛ 21: 1؛ 1 كور 15: 5- 8).
وهنا ينطلق سؤال هيئة شهود يهوه: لماذا لم يعرفه التلاميذ إذاً؟ ونجيب، لسببين: الأول: إن الرسل قد ضعف إيمانهم وخافوا بعد موت يسوع. والأهم من ذلك، أنهم لو عرفوه لكان يعني أن يسوع عاد إلى حياته البشريّة السابقة كالعازر. والسبب الثاني: هو أن قيامة يسوع هي خطوة نحو الله، وترك الحياة البشريّة الماديّة والانتقال إلى الحياة الأبديّة مع الله. وبذلك لا يعود إلى حياته البشريّة التي ما قبل الموت، بل يتحوّل منطلقاً بجسد ممجّد متحوّل (رج 1 كور 15: 35- 57؟ فل 3: 20 و21) وما أروع ما عبرّ عنه الكاردينال راتسنغر ببحثه في موضوعه عن القيامة في الأناجيل حين قال: "انه يُلمس، وفي الوقت نفسه، لا يُلمس. يُعرف، ولا يُعرف. فللمصلوب والقائم من الموت ذاتيّة واحدة كليّة، وفي الوقت عينه تبدّل كليّ. انه هو ذاته، ومع هذا فهو آخر مختلف. فهذا المنطق يبقى ثابتاً دائماً، وما يتغيرّ فقط هي الأساليب التي تطرحه".
وهكذا نرى أن الرسل كبشر لم يعرفوه بسبب التحوّل الذي طرأ على جسده البشريّ، وحوّله كله إلى جسد ممجّد غير خاضع للمكان والزمان. ومن هنا انطلق يسوع مظهراً نفسه لتلاميذه، وذلك من خلال ترائيات ترافقها علامات أو مفاتيح يتركها بين أيديهم، فيحلّلونها شيئاً فشيئاً ليصلوا إلى حقيقة قيامة يسوع، ونلاحظ هذا الأمر من النصوص الواردة:

العلامات
- الصوت







- الاكل






- كسر الخبز
(الأسلوب)






- القاء الشبكة
للصيد



- الخبز والسمك









- الأكفان



















- الجروحات
مرقس




























".. وكسر الأرغفة وناول تلاميذه ليوزعوها على
الناس وقسم
السمكتين عليهم"
(6: 41)
لوقا








".. فأمر أن تعطى
طعاماً" اقامه
ابنة يايرس (8: 55)
مع
".. أعندكم طعام هنا..
فأخذ وأكل أمام
أنظارهم" (24: 41- 43) ".. وأخذ خبزاً، وشكر، وكسره، وناولهم" (22: 19).
مع
".. أخذ يسوع خبزاً، وكسرّه،
ونماولهما. فانفتحت عيونهما
وعرفاه.. وأخبرا.. كيف عرفا الرب عند كسر الخبز"
(24: 30 و35)
".. سّر إلى العمق، وألقوا
شباككم للصيد.. فأمسكوا سمكاً كثيراً وكادت
الخبز والسمك
شباكهم تتمزّق" (5: 4- 6)
".. وكسر وأعطى تلاميذه
ليوزعوها على الجمع"
(9: 16)



مع
"أعندكم هنا طعام؟.."
".. فناولوه قطعة سمك
مشوي" (24: 42)

يوحنا
".. وإلى صوته تصغي الخراف،
يدعو واحد من خرافه
باسمه ويخرجه" (10: 3 و4)
مع
".. فقال لها يسوع
يا مريم، فعرفته. فقالت
له ربوني، أي يا معلم".
(20: 16)















".. قال لهم ألقوا الشبكة
إلى يمين القارب.. وما
قدروا ان يخرجوها لكثرة

ما فيها من سمك" (21: 6).
".. وأخذ يسوع الأرغفة
فشكر، ثم وزع على
الحاضرين (6: 11)



مع
".. أمعكم شيء يؤكل؟"
"وكذاك ناولهم من
السمك (21: 5 و13)
".. فخرج الميت مشدود اليدين والرجلين بالاكفان. معصوب الوجه بمنديل" (11: 44)
مع
".. فدخل القبر. ورأى الاكفان على الأرض. والمنديل الذي
كان عل رأس يسوع ملفوفاً
في مكان على حدة...
قرأ وآمن".
كانت الأكفان تلف
على جسد الميت، هي
دليلاً على خضوعه لسلطان
الموضوع (كقراءة لاهوتية
عند يوحنا). ولكن عندما
دخل يوحنا ورأى
ان الاكفان والمنديل
خاليان آمن أن يسوع
قام، وتحرر من سلطان
الموت، وبالتاني لم
يقم مثل العازر.
".. ولكن أحد الجنود طعنه
بحربة في جنبه.." (19: 34)
مع
".. وأراهم يديه وجنبه.."
".. ثم قال لتوما: هات
اصبعك هنا وانظر
يديّ، وهات يدك وضعها
في جنبي... فأجاب
توما: "ربي وإلهي".
(20: 20 و27- 28)

وبهذه العلامات يؤكد يسوع وبالتالي الرسل، ان يسوع قام حقاً. لا بشكل روحاني (روحاً) فهذا تعليم اليونانيين الفلاسفة.. ولا بشكل بشري، وإلاّ لما قام حقاً بل عاد إلى الحياة البشريّة وسينال منه الموت مرة أخرى. بل قد تحوّل جسده البشري إلى جسد ممجّد متحوّل. وهذا هو سرّ قيامة يسوع.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM