الفصل الثاني: شهود يهوه، محطات تعليمية

الفصل الثاني
شهود يهوه، محطات تعليمية

هنا نتوقف عند محطات ثلاث تساعدنا على تحديد تعاليم شهود يهوه. الأولى مع راسل، الناشر الآتي من السماء. لولاه لما وُجد شهود يهوه. فهو أكثر من مؤسّسهم. إنه ملهمُهم وملهمُ مجموعات أخرى غيرهم. الثانية مع روترفورد. معه اتخذت الشيعة الخط الصلب الذي سيتلطّف بعض الشيء مع خلفائه. إنهم في المرحلة الثانية سيحافظون على النظرة ذاتها من الصلابة، ولكنّهم يبدلون الأساليب، كما يقولون: قبضة من حديد في قفّاز من مخمل.

1- ملهم الحركة: راسل
أولاً: مسيرة راسل
وُلد راسل في 15 شباط 1852 من أب تاجر فتعلّم منه فنّ التجارة، ومن أم كالفانية (presbytérienne) فأخذ منهاجاً للكتاب المقدّس. كما أخذ نظرة هذه الحركة التي تقول إن الله يرسل الملايين إلى جهنم ثم يختار بعضهم للخلاص. وما ارتاح راسل إلاّ حين قال: لا وجود لجهنّم. نسي كلام الربّ في الدينونة الأخيرة: "اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار المؤبّدة التي أُعدَّت لإبليس وجنوده" (مت 25: 41). ونقرأ في مت 5: 22 عن الذي يجرح كرامة أخيه أنه "يستوجب جهنم النار". وتحدّث مرّ 9: 43 عن الشكوك فقال: "إن عثَّرتك يدُك فاقطعها. فخيرٌ لك أن تدخل الحياة وأنت أقطع، من أن تذهب ولك يدان إلى جهنم، إلى النار التي لا تُطفأ".
عند ذاك استعاد راسل ثقته بالكتاب المقدّس، وأخذ بجزء من تعاليم السبتيّين وتجنّد في خدمة انتظار المسيح. فالمسيح -وهو مسيحه الشخصيّ القريب ممّا في العالم اليهودي، بل مما في أسفار الرؤى المنحولة- سيأتي قريباً ليجمع "قطيعه الصغير" (يو 12: 32) الذي عدده 144000، والذي سيملك معه. أبوه، أمه، أخته، النساء والرجال في جماعته، سيكونون من هؤلاء المختارين. ودلالةً على ذلك، فهم يحتفلون بالفصح اليهوديّ في 14 نيزان (أي قمر آذار- نيسان): يأكلون الخبز ويشربون الخمر.
ولكن بقي السؤال: متى يعود المسيح؟ متى تكون نهاية العالم؟ هنا عاد راسل أيضاً إلى عالم السبتيّين ففهم أن المسيح جاء، ولكن لا بالطريقة التي نتوقّعها. فكلمة "باروسيا" لا تعني "عودة"، بل مجيء. إذن، بدأت الألف سنة. وسيكون يسوع منظوراً سنة 1914. هنا نتذكّر ما قاله يسوع عن المعلّمين الكذبة: "إن قيل لكم: هوذا المسيح هنا أو هناك، فلا تصدّقوا" (متى 24: 23). ولكن عدداً من المؤمنين يتركون كلمة يسوع ويتعلّقون بأقوال البشر، وهكذا يضلّون. فالمسيح بعد قيامته ليس له جسدٌ نلمسه بأيدينا، كما يقول شهود يهوه الذين يقرأون النصّ بشكل حرفيّ وأصوليّ. جسد يسوع هو جسدٌ ممجَّد اكتفى توما أن يسجد أمامه ويقول: "ربيّ وإلهي" (يو 20: 28). أجل يسوع هو الربُّ والإله. يسوع هو "المسيح ابن الله" الذي به نؤمن لتكون لنا الحياة الأبدية (آ 30)، لا الحياة على الأرض المحفوظة للإنسان المائت. فالإنسان خالد، وهو سيقوم مع ذاك الذي هو القيامة والحياة (يو 11: 25).
وتشبّه راسل بالشعب العبرانيّ السائر في البريّة قبل الوصول إلى أرض الميعاد. وسمّى هذا الوقت وقت الحصاد. فعلى الكنائس والدول والمنشآت أن تدمَّر لتفتح الطريق أمام المسيح. وستقوم عمليّة اختيار داخل الاقطيع الصغير في ربيع 1878. وفي 9 نيسان 1878، يوم الذكرانة، يوم الاحتفال بالفصح اليهودي، انتظرت جماعة راسل (دارسو البيبليا) أن تتحوّل إلى كائنات سريّة يُخطفون إلى السماء. وذهبوا إلى جسر بتسبور (Pittsburg) بثياب بيضاء، وانتظروا الساعة التي فيها يُخطفون. وبما ان شيئاً لم يحدث (!)، عادوا إلى بيوتهم تحت المطر. لقد خابت آمالهم! صار المسيح في جسد ممجّد وهم يريدونه في جسد أرضيّ، مثل جسد لعازر، شقيق مرتا ومريم. لهذا، فهم لن يروه بعيونهم. وحده الإيمان يقرّبنا من يسوعَ الحيِّ اليومَ في كنيسته وفي جماعاته المؤمنة به.
سنة 1879، أسّس راسل مجلّة "برج المراقبة" (Watch Tower). إعتبر أنّ على القرّاء أن يسهروا، أن يكونوا مستيقظين ويوقظوا الآخرين. هنا نشير إلى أن حركة الطباعة ستلعب دوراً هاماً عند شهود يهوه. فمجلّة "برج المراقبة" تُنشر في 113 لغة. تنطلق من الكتاب المقدّس، فتعلن مجيء ملكوت الله على الأرض. أما مجلّة "استيقظوا" فتطرّقت إلى مواضيع مختلفة، ويطبع منها 13 مليون نسخة في 75 لغة. من يحدّد المقالات التي تُنشر فيها؟- الحلقة المركزيّة (Le Collège Central).
واعتبر راسل أن على كلّ من "دارسي الكتاب" أن يبيع المجلّة، أن يعلن إيمانه، أن يدقّ على جميع الأبواب مثل بائع السلع. وقسّم جماعته إلى فئتين: "نواة من المحترفين وعدد كببر من النمل". وما عتّم هو أن انفصل عن زوجته ماريا لكي يتعلّق بموظّفة تعمل في المقرّ المركزي.
ثانياً: تعليم راسل
البيبليا كلّها يقرأها شهود يهوه بطريقة حرفيّة (لا ننسَ أن الحرف يقتل، أما الروح فيحيي) (2 كور 3: 6)، ويجعلونها في خدمة مملكة يسوع. انطلق منها راسل لكي يعيد صياغة مخطّط الله. رفض فكرة المصير المسبق (Prédestination) كما رفض الجحيم، وتحدّث عن إله المحبّة والعدالة. وتساءل: ماذا يريد الله؟ وكان الجواب: سعادة الكائن البشريّ. لهذا رتّب تصميمه في زمنين: زمن التنظيم وزمن الخلاص.
* زمن التنظيم: تمّ الخلق بيد المعلّم- العامل، أي بيد يسوع، فتوزّع على ستة "أيّام". وكل يوم يشمل 7000 سنة. إذن، قبل 42000 سنة، في اليوم السادس، خُلق الكائن البشريّ. خُلق ذكراً أولاً. وبعد سنتين أنثى. كان بمقدور آدم وحواء أن يعيشا إلى الأبد في الفردوس الأرضيّ. ولكن الله، كما قال رأسل، أراد لهما أن يختبرا الخطيئة. فصارت حياتهما قصيرة وعرفا الموت.
نذكّر ها أن نشيد الخلق (تك 1: 26) قال إن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله. خلقه رجلاً وامرأةً. فالرجل والمرأة معاً هما صورة الله التي تنطبع في أولادهما. وفي خبر الخلق (تك 2: 4 ي)، المهمُّ هو أن نعرف أن الرجل والمرأة هما واحد قبل أن يكونا إثنين لهذا يُمنع الطلاق وتعدّد الزوجات. أما رمز الضلع الذي منه كُوّنت المرأة فيدلّ على أن علاقة المرأة بالرجل هي علاقة المحبّة، لا علاقة الاستعباد بمعنى ان المرأة تنادي الرجل: يا سيّدي، وهو يعاملها كالأمة.
* زمن الخلاص: هنا يقسم اليوم السادس قسمين: من جهة، 6000 سنة ستنتهي قريباً، ومن جهة ثانية، ألف سنة لملك المسيح. وستأتي تقسيمات لاحقة سترسم على "خارطة الأجيال"، وتفسّر في محاضرات ألقاها راسل. ويبقى المرجعَ الأساسيَّ الهرمُ الأكبرُ الذي يرمز إلى التناسق التامّ والذي تُثبّت أبعادَه الحساباتُ المستخرجة من البيبليا.
وفي حقبة 6000 سنة، هناك تاريخ حاسم: 606، سنة دمار مملكة يهوذا. وهذا ما يتيح لراسل أن يصل إلى رقم 1914 كما سبق وتحدّثنا عنه.
وفي ذلك الوقت، تخلّى يسوع عن وضعه السماوي، فقدّم حياته لله فدية لكي يخلّص البشريّة. قام في كائن من طبيعة روحية، بل إلهيّة. هو أسمى من الملائكة وأدنى من "يهوه". والمئة والأربعة وأربعون ألف مختار الذين سيشكّلون معه كنيسة، يكوّنون كائناً جماعيا هو المسيح المدعوُّ ليكون "امرأة الله". في تشرين الأول سنة 1914، سيكون انهيار الدول والكنائس تاماً، ويبدأ الملكوت الألفيّ، ألف سنة مع المسيح.
لن نتوقّف عند هذه الحسابات التي ستتوسّع وتتفصّل، ولكنها في الواقع تبدو خاطئة. فكأننا في عالم التنجيم أو التبصير. لم نعد في عالم الإيمان الذي فيه يسلّم الإنسان أمره إلى الربّ، وينطلق في بناء حياته وفي بناء التاريخ. والكنيسة التي تسلّمت من المسيح القوّة لكي تتابع عمله حتى نهاية العالم، ما زالت حاضرة رغم ضعفها وخطيئتها، أو بالأحرى خطيئة أبنائها. هي جسد المسيح، والأفراد الذين يكوّنونها، هم أعضاء في هذا الجسد. ولكلّ عضو وظيفة في الجسد.
لن نتوقّف خصوصاً عند يسوع المسيح الذي انقلب إلى امرأة، فصار زوجة الله. أظنّ أن المسيحيّين يعرفون سخافة مثل هذه الأقوال التي تعيدنا إلى العالم الوثنيّ حيث يتزاوج الآلهة بعضهم مع بعض أو مع البشر. إن يسوع هو الابن الوحيد، الواحد في الجوهر مع الله الآب. هذا ما نعلنه في قانون الإيمان المرتكز على الكتاب المقدّس وتعليم الكنيسة.
ثالثاً: إرث راسل
ماذا ترك راسل من إرث لتلاميذه؟ ترك ثلاثة أسس، ووسيلتين وطقساً واحداً منظّماً. أما الأسس الثلاثة فهي: البيبليا التي هي أساس كلّ فكره، كل عمله، كل تنظيمه. البيبليا. البيبليا كلّها. ولا شيء إلاّ البيبليا. ولكنّها تُفسَّر بالنظر إلى الشروح التي كتبها هو. لم يعد المعيارُ الكتابَ المقدّس، بل تفاسير راسل. ولقد اعتبر المتشيّعون لراسل أن معلّمهم هو أشهر وعّاظ عصره. بل كتبوا في مقدّمة عظاته التي نُشرت بعد موته: "كانت تفاسيره البيبليّة أوسع من مار بولس، ومار يوحنا، وأريوس، ووالدو، ووكلاف، ومرتين لوثر، ستة مرسلي الكنيسة الذين سبقوه". وأظنّ أنه هو السابع، هو كمال الستة السابقين.
والأساس الثاني هو فكرة تقول بأن 144000 ممسوح بالزيت سوف يخلّصون. إذن عددٌ قليلٌ جداً. وهكذا يعود راسل إلى جذوره الكالفينيّة مع بشريّة محكوم عليها. والأساس الثالث هو سنة 1914 التي تبقى السند الثابت حتى وإن تطوّر معناها في نظرة شهود يهوه بالنظر إلى الظروف.
وهناك وسيلتان للدعاوة: نشر واسع للمجلات والكتب والكراريس. هناك كتب تُطبع في مليون نسخة. أما الكراريس فتنتقل في خمس سنوات من 23 مليون كرّاس إلى 72 مليوناً. والوسيلة الثانية: إعلان مكثّف وهذا ما يتطلّب من الأشخاص تكريس أوقات كثيرة من أجل توسيع الدعوة. وسيكون "المبشرِّون" أو الذين سمّاهم "دارسي الإنجيل"، 13000 شخص، توزّعوا في القارات الخمس. ولكن ظلّ قسمٌ كبيرٌ منهم في الولايات المتحدة.
أما الطقس المنظّم فهو الذكرانة، أو الاحتفال التذكاري. هو عيد الفصح الذي يُحتفل به في 14 نيزان، هذا مع العلم أن طرق الاحتفال به تبدّلت تبدّلاً عميقاً. ولكنه، كما قلنا، فصحٌ يهوديٌّ. وهذا ما يجعل من شهود يهوه شيعةً يهوديّة، أخذت القليل القليل من الإنجيل في خط التيار الأريوسيّ الذي ما رأى يوماً في يسوع ذاك الذي هو إله من إله، نور من نور، إله حقّ من إله حقّ.

2- منظّم الحركة: روترفورد
ماذا يحدث بعد موت راسل؟ كيف واصلت الشيعة مسيرتها؟ أخذت مع روتوفورد خطاً متصلباً. كان مركز الجمعيّة قد انتقل من بتسبور إلى بروكلين، إلى بيت إيل أو بيت الله. هناك أقام روترفورد. كان متسلّطاً فأمسك بزمام الأمور بقبضة من حديد. وجّه المنشورات، وشجبَ سائر الكنائس والدول، وعاد إلى تعاليم راسل يصحّحها، ولا سيّما في ما يخصّ الهرم الأكبر. كما راجع الحسابات القديمة من أجل روزنامة جديدة. في سنة 1914، نهاية النظام القديم وبداية الملكوت غير المنظور. سنة 1918، اختطاف القديسين إلى السماء. سنة 1925، نحن في فلسطين حيث يسلّم الجزء المنظور من الملكوت إلى "الأمراء" إبراهيم، إسحق، يعقوب... سنة 1980، كانت إسرائيل أوّل شعب تحرّر من الموت. ولكن هذا القول الأخير سوف يتبدّل حين تفسد العلاقة مع اليهود.
سنة 1920، أراد روترفورد أن يحرّك الناس فكتب كراسّاً قال فيه: "إن ملايين من الناس العائشين حالياً لا يموتون". وزاد: "ننتظر في سنة 1925 أن نكون الشهود لعودة إبراهيم وإسحق ويعقوب... في بشريّتهم الكاملة لكي يكونوا المحتلّين المنظورين للنظام الجديد الذي ستعرفه الأرض". ولكن شيئاً من هذا لم يتمّ. وكيف تتمّ مثل هذه "التنبؤات" التي لا تستند إلى الواقع؟ وتأخّر، في الوقت عينه، اختطافُ "القديسين" إلى السماء. وإذ أراد أن يعجّل في عودتهم، بنى سنة 1929، في سان دياغو، قصراً فخماً من عشر غرف سماه "بيت شريم" أي "ييت الأمراء".
نرى إلى أيّ حدّ يلتصق شهود يهوه بالأرض. ملكوت الله سيكون منظوراً. وكذلك اختطاف المخلّصين. وسوف يرون إبراهيم وإسحق ويعقوب في قصر الأمراء. يحرّكون عند الناس رغبات وآمالاً ما تعتّم أن تخيب. بما أن إبراهيم وإسحق ويعقوب لم يأتوا إلى القصر الذي هيّأه لهم روترفورد، فسيقيم هو فيه، ولا سيّما أنه يوافق صحته.
وبدأ بعمليّة تطهير لكي ينسى تبّاعُه ملهمَ الحركة ومؤسّسَها، لكي ينسوا راسل. طهّر الحركة أولاً من بقايا "الوثنيّة" ومن "عبادة الشخصيّة" وأزال بعض الأشخاص، كما فرض اسم الحركة فصار اسم "شهود يهوه" يُطلق على الجميع لا على 144000 المختارين الموسومين.
تلتقي كلمة شاهد مع كلمة شهيد. وكلّ مرّة يساقون أمام "الولاة" يعتبرون أنفسَهم شهداء. هنا نعود إلى التسمية: شهود يهوه، أو كما قلنا: يهاوه. فشهود يهوه يؤمنون بالله الواحد، بالله الذي تجلّى خصوصاً في العهد القديم، ويعتبرون أن اسمه الحقيقي هو "يهاوه" الذي نسيَه الناس أجيالاً وأجيالاً. فدعوتهم إذن تقوم في إعادة اعتبار هذا الاسم الإلهي. ماذا نقول في كلّ هذا؟ ومن أين يأتي اسم "يهاوه"؟
حين كشف الله عن اسمه لموسى قال له: "أنا هو الذي هو" (خر 3: 14). أنا الكائن. يُكتب في العبرية (كما في العربية) بدون الحركات على الشكل التالي: ي ه و ه. كيف لفظ العبرانيّون هذه الكلمة؟ يَهوَه. ولكن على مرّ الأجيال لم يعد اليهود يتجاسرون احتراماً على التلفّظ باسم الله فاستعملوا كلمة "أدوناي" التي تعني الربّ. ولهذا، فهم حين يقرأون "يهوه" يجعلون فوق هذه الكلمة حركات أدوناي، ولهذا قال شهود يهوه: شهود يهاوه. وهذا يدلّ بكل بساطة على جهل شهود يهوه لقواعد اللغة العبريّة. ومع ذلك، فهذا هو اسمهم: شهود يهاوه (Jéhovah)، انطلاقاً من أش 43: 12: "انتم شهودي، يقول يهوه".
وجاءت الحرب العالميّة الثانية التي اعتبرها روترفورد معركة هرمجدون والتي مات فيها عددٌ كبيرٌ من شهود يهوه أو ذهبوا إلى مخيّمات الاعتقال النازيّة. ما معنى عبارة "معركة هرمجدون" التي ترد مراراً على شفاه شهود يهوه؟ إنها معركة مجدو. تقع مجدو في فلسطين، جنوبي شرقي الكرمل، وهي تشرف على سهل يزرعيل. هناك مات الملك يوشيّا (609 ق. م.) في تصدّيه لفرعون مصر الزاحف لمساعدة الآشوريّين. وقد وردت العبارة في رؤ 16: 16 وهي تدلّ بشكل رمزي على الحرب الكبيرة النهائيّة بين الله وقوى الشّر في نهاية الأزمنة. لن تكون معركة حربيّة بالسلاح والجيوش، بل كمال الرجاء المسيحيّ الذي يصل إلى غايته. حينئذٍ يُقهَر الشّر. ويسمّيه بولس الرسول الموت والحطيئة. أما في نظر شهود يهوه، فالشّر هو المسيحيّة والدول وحتى الخطأة. ويعتبر شهود يهوه أن أقليّة فقط تخلص. حينئذٍ يتحقّق مخطَّط الله بشكل تام، فيزول الشّر الذي يرمز إليه البحر (رؤ 21: 1). يزول من الإنسان ومن الكون كلُّ بغض وحقد وأنانيّة، فلا يوجد شيء يعارض المحبّة، يعارض الله.
ترك روترفورد وراءَه مركزيّةً متشدّدة، إدارةً متصلّبةً على مثال ما في دواوين الدولة، طابعاً عسكرياً. على هذه الركائز الثلاث تقوم تيوقراطية روترفورد. حكمُ الله على الأرض. وفي مثل هذه الحالة، لا نعود نعرف من هو الحاكم، الإنسان أم الله، الإنسان المؤلَّه أم الله الذي نجعله على مستوانا البشريّ. وهكذا لم نعد أمام حركة دينيّة بل أمام تنظيم يشبه إلى حدٍّ بعبد الأحزابَ السياسيّة أو بالأحرى الحركاتِ السريّة التي تصطاد الناس بالوعود. وحين يقعون في شباكها، لا يستطيعون أن يفلتوا منها.

3- بعد روترفورد
وبرزت بعد روترفورد ثلاثة أمور ملحّة: التكوين، التبرير، التكييف.
أولاً: كيف يتمّ التكوين؟
لم يفتح شهود يهوه مدارس خاصّة، لأن كل واحد، رجلاً كان أم امرأة، قد "رسمه" يهاوه كما تُرسم الكهنة في الكنيسة. ولكن الكرازة أمرٌ لا يُترك للارتجال. فلا بدّ من إعداد "المبشّرين" بها.
لهذا دشّنوا سنة 1943 مدرسة جلعاد (رج تك 31: 43- 54)، وهو مكان يذكّرنا بتلّة الحجارة التي كانت شاهداً لعهد بين يعقوب العبرانيّ ولابان الآراميّ. فالنساء والرجال الذين يتبعون الدراسة في هذا "المعهد" يتعلّمون بشكل خاصّ كيف يتحدّثون أمام الناس عن التوراة. وبعد ذلك، سوف تتأسّس على مستوى كلَّ جماعة "مدرسة الخدمة التيوقراطيّة" التي تعلّم شهود يهوه كيف يردّون على اعتراضات المعترضين، وكيف يقنعون محاوريهم.
ثانياً: كيف يبرّرون عدم مجيء الأمراء؟
أجل، ما زال الغائبون غائبين. فالأمراء إبراهيم وإسحق ويعقوب الذين أعلن روترفورد حضورهم سنة 1925، لم يأتوا بعد. وفي سنة 1950، أعلن أحد الحاضرين في اجتماع ضمّ 82601: "إن الجماعة الدوليّة الحاضرة تكون سعيدة بأن تعرف أنه في هذا المساء وفي هذه الأمكنة، سيكون أمراء جدد في الأراضي الجديدة". ووقف الحاضرون علّهم يرون داود، إبراهيم، أيوب. فعاد يقول: الأمراء هم المسؤولون في جماعات شهود يهوه.
ثالثاً: كيف يتكيّف الكتاب؟
يبقى عمل تكييف البببليا مع التعليم. فالتعليم هو الأول وهو يفرض نفسه على الكتاب المقدّس. لهذا، أخذ شهود يهوه يتحدّثون عن ترجمات ناقصة، ومشوبة بالعيوب، عن ترجمات ينقصها المنطق كما ينقصها الصدق. لهـذا، لا بدّ من التعبير بدقّة وصحّة عن الأفكار التي نجدها في الكتب المقدّسة بلسان الربّ يهوه. وهكذا كانت أول ترجمة لهم إلى الإنكليزية سنة 1961. وتوالت الترجمات. ولكن وضح شيئاً فشيئاً أن هؤلاء المترجمين ليسوا على قدر المهمّة...

4- جماعة منظّمة
بدأت جماعة شهود يهوه في إطار من التساهل والأخلاق الدمثة. بعد ذلك صارت بِنيةً قاسيةً ومركزيّةً. صارت منظّمة تيوقراطيّة حيث تأتي الحقيقة من الله بشكل مباشر، بواسطة الحلقة المركزيّة، ومن هناك تنزل إلى المؤمنين ويُكرَز بها في العالم.
هنا نتوقّف عند نقطتين: درجات السلطة، حياة الجماعات المحليّة.
أولاً: درجات السلطة
في هذا الإطار التراتبيّ الهرميّ، ترتبط حياة شهود يهوه كلُّها بالسلطة الخاصّة التي يخضعون لها. نجد على قمة الهرم "الحلقة المركزيّة" التي منها تنطلق كلُّ التعليمات وإليها تعود بالضرورة جميعُ المساعي على مختلف مستويات الجمعيّة. هناك ثلاثة عشر رجلاً من "الموسومين". وسبعة منهم يشكّلون مجلس إدارة "جمعيّة برج المراقبة". هم يستندون بشكل مستمرّ إلى السلطة المعصومة التي نجدها في البيبليا، في الكتاب المقدّس. والحلقة المركزيّة هي أيضاً معصومة. وهي تعيش في "بيت إيل"، في بروكلين، في بناية يقيم فيها 800 شخص يعيشون حياة عسكريّة.
الحلقة المركزيّة تحدّد المواضيع الواجب معالجتها. كما تنظّم روزنامة العمل في 232 بلداً نجد فيها شهود يهوه. وأخيراً تعيّن جميع المسؤولين على كلّ المستويات.
لن نتحدّث هنا عن الترتيب المنظّم بين الحلقة المركزيّة وآخر شخص في الجماعات. ولكن يبقى أن العمل هو الكرازة ونشر الكلمة. وهذا ما يسمّى "خدمة الحقل". يطرق "الشهود" جميع الأبواب، فيعرضون منشوراتهم. لا ننسى هنا أن كلّ "شاهد" هو خادم الله. والمعموديّة قد أدخلته في إحدى الفئات التالية:
* المعلنون: يبشّرون، يبيعون المنشورات، يُطلب منهم أن يعطوا حتى مئة ساعة من عطلتهم السنويّة.
* الرائدون العامون: يعملون أقلّه مئة ساعة في الشهر. يُعطَون أجراً شهرياً ويكون لهم بعض الشيء من بيع المنشورات.
* الرائدون الخاصّون: يكرزون أقلّه 150 ساعة في الشهر. يتسلّمون من الجمعيّة العون الماديّ من أجل حياتهم.
ويُطلب من كلّ واحد من هذه الفئات الثلاث أن يقدّم تقريراً مفصّلاً عن المبيعات، عن الأشخاص الذين زارهم... تنظيم مدهش لدى أبناء الظلمة... يا ليت أبناء النور، أبناء الكنيسة، يُظهرون الغيرة نفسها في حمل كلمة الله إلى النفوس المتعطّشة!
ثانياً: حياة الجماعات المحليّة
تعقد كلُّ جماعة اجتماعاتها في مكان يسمّى "قاعة الملكوت"، الذي قد يكون بناءً كبيراً أو غرفةً في حيّ شعبيّ. وفيه تُعقد عدّة اجتماعات.
* اجتماع يوم الأحد: اجتماعُ الأحد مفتوحٌ للجميع، يُدعى إليه المتعاطفون الذين اكتشفهم "المبشّر" خلال مروره على البيوت. يتمّ الاجتماع بعد ظهر الأحد أو في مسائه. هناك يُنشَد مزمورٌ من المزامير. تتلى عظة تدوم ساعة حول موضوع دينيّ وتستند بشكل دائم إلى الكتاب المقدّس. أما تصميم العظة ومضمونها، فتقدّمهما "شركة برج المراقبة"، ويفرض على كلّ أعضاء الجماعة أن يأتوا ليسمعوها، ويصطحبوا معهم الأشخاص الذين حرّكوا فيهم الاهتمام "بحقائق الملكوت". لا يجمعون الصينيّة (التبرّعات)، ولكن يُقال للآتين الجدد، بشكل خفيّ، إن هناك صندوقاً تضعون فيه "مشاركتكم الطوعيّة". وخلال كل اجتماع يُحصى الأشخاص الحاضرون من أجل تقرير يُرسل إلى مركز المنظّمة في نيويورك. هنا نتخيّل كيف أن تحرّكات كل واحد هي تحت المراقبة. كان وحيداً منعزلاً، فدخل في جماعة متماسكة أعطته بعض الطمأنينة. فهل يستطيع أن يتفلّت من هذا القيد الذي سجن نفسه فيه؟ نعم. شرط أن نقدّم له إطاراً جديداً يحسّ فيه أنه محاط بإخوة يحبّونه.
* اجتماع الخدمة: يتمّ مرّة في الأسبوع، يوم الأربعاء، أو يوم الجمعة. وهدفه تكوين الشهود. يشارك فيه العاملون في "الكرازة" أو الذين يستعدّون لها في وقتٍ قريب. وهناك نشرة تسمّى "خدمتنا للملكوت"، وهي تدلّ على التصميم الواجب اتّباعه، وتعطي مادةً للتفكير. يبدأ الاجتماع بصلاة أو نشيد ثم تُدرس مواضيع النشرة بشكل سؤال وجواب. وخلال هذا الاجتماع تُقرأ الإحصاءات، ويُحدّد الموقع الذي وصلوا إليه، كما تحدّد الأهداف المقبلة. وينتهي الاجتماع بصلاة أو نشيد. هذا ما يتمّ في اجتماعات المنظّمات الرسوليّة.
* اجتماعات أخرى: هناك اجتماع يتمّ بعد جماعة يوم الأحد، وإليه يُدعى "الأشخاص ذوو الإرادة الصالحة" الذين يدرسون جريدة "برج المراقبة". وهناك اجتماعٌ آخر مخصّصٌ لدراسة الكتب التي تنشرها الجمعيّة، وذلك بشكل سؤال وجواب ليتجنّبوا كل نقاش وكل مواجهة في النظر بين المشاركين. وهكذا يُطلب من الأعضا خمسَ أو ستَّ ساعات في الأسبوع وقد يكون تجمّع حاشد يُدعى إليه الشهود فيعرفون أهميّة الحركة التي ينتمون إليها.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM