كتاب عزرا ونحميا

 

كتاب عزرا ونحميا

مقدمة:
يتألف كتابُ عزرا ونحميا من سفرين هما سفر عزرا وسفر نحميا. كانا يشكِّلان كتاباً واحدا، وقُسما في القرن الخامس عشر ب م فصارا كتابين مستقلين. اما موضوعهما فواحد، وهو حياة شعب الله بعد الرجوع من المنفى، والمحاولات لإعادة بناء الهيكل وترميم أسوار أورشليم. والاطار الذي دُونّا فيه هو هو وكذلك الروح التي نفتحهما. والهدف هو التشديد على دعوة بني اسرائيل التي توجهها الشريعة في الحياة اليومية.
كان عزرا كاهنا من نسل هارون وموظَّفا في بلاط فارس (عز 7: 12). كان مثال الكاتب وصاحب المواقف الثابتة والايمان العميق. جاء في أوائل القرن الرابع يشدِّد عزيمة الراجعين من المنفى، فعاد بهم الى الشريعة يقرأها لهم ويفسّرها (نح 8: 1- 12). وحذَّر المؤمنين من الإختلاط بالأمم الوثنية من خلال الزواج لئلاَّ يخسروا هويتهم.
اما نحميا فوُلد في المنفى وتوظف في بلاط أرتحششتا الملك الفارسي. اخبره اخوه بالضيق والضياع اللذين يعيش فيهما الراجعون من منفى بابل، وبأن اسوار اورشليم مدمَّرة وابوابها محروقة. كان ذلك سنة 445 حين صوَّر له الحالة الدينية في البلاد: صعوبات اقتصادية، نقص في الحياة الدينية، فتور عند الكهنة. عاد نحميا الى البلاد، وقام بعمل مادي فبنى أسوار أورشليم، وبعمل روحي فقرأ الشريعة وجدَّد العهد في وثيقة وقّعها الكهنة واللاويون والشيوخ.
موضوع الكتاب:
يروي سفر عزرا في قسم أول (عز 1- 6) كيف تم رجوع المسبيين الاولين إلى اورشليم بقرار من كورش الملك الفارسي. رمّموا المذبح فوق دمار الهيكل. أما الهيكل فسيُبنى بعد سنوات عديدة في عهد الملك الفارسي داريوس الاول، وفي زمن النبيّين حجاي وزكريا (عز 5: 1- 2).
وفي القسم الثاني (عز 7- 10) ينقلنا الكاتب عشرات السنين، فيعرّفنا إلى عزرا الكاهن والكاتب الذي أرسله ملك الفرس في مهمّة رسمية. وصل إلى أورشليم فرأى الحالة التي يعيش فيها بنو يهوذا فبدأ باصلاح جذري على مستوى العلاقات بين اليهود والوثنيين.
ويبدأ سفر نحميا (نح 1- 7) فيحدثنا عن نحميا ذلك الموظّف في البلاط الفارسي الذي حزن لما سمع بحالة قومه في أورشليم. طَلب فسُمح له أن يعود إلى بلاده يُعيد بناء اسوار أورشليم. هذا ما فعله وأتمه في 52 يوما، رغم مقاومة الأعداء وتخاذل السكّان.
وفي القسم الثاني (نح 8- 9) يحدّثنا الكاتب عن عزرا الذى يعيد تنظيم شعائر العبادة والاحتفال بالأعياد حسب شريعة موسى. أما القسم الثالث (ف 10- 13) فيقدّم لنا الاصلاحات التي قام بها نحميا حين جاء مرة ثانية إلى أورشليم.
كتاب عزرا ونحميا يساعدنا لنتتبع الطريق التي أسَّست الديانة اليهودية في زمن يسوع المسيح. هناك الرجوع من المنفى وقد تم في ثلاث قوافل. وهناك الإقامة في الأرض مع ما في ذلك من صعوبات بسبب الدمار اللاحق بالبيوت، ومن معارضة السكان الجدد الذين وضعوا يدهم على الارض. ما إن عاد المسبيون حتى رمموا المذبح، ثم وضعوا أسس الهيكل وقاموا ببنائه بعد سنوات عديدة بقيادة زربابل ويشوع. وأعاد الشعب بناء أسوار أورشليم، ولما انتهوا منها احتفلوا بتطواف فوق الاسوار.
ولكن لا بد من فصل الشعب المقدس عن الشعوب الوثنية الجاورة. فاهتم المسؤولون بقبول الذين برهنوا عن نسبهم وتركوا الآخرين خارجاً. ولكن العائدين تزوجوا نساء وثنيات، فامتزج الشعب المقدس بشعب الارض، ونسي الاولاد لغةَ الاجداد، وتعلّم السكان ممارسات الامم الوثنية واللا أخلاقية، فتدخلّ نحميا. خاصم الرجال ولعنهم وضربهم ونتف شعر رؤوسهم، واستحلفهم بالله ألاَّ يعطوا بناتهم لابناء الامم ولا يأخذوا بنات الامم لبنيهم. وتدخل عزرا الكاهن بطريقة قاسية، فأبعد النساء الوثنيات حتى لا يتنجس شعب الله بهن.
ويتوقف كتاب عزرا ونحميا على أهمية الشريعة. جاء عزرا وهو الكاهن والكاتب العارف بشريعة الله وفرائضه واحكامه. بعد أن وجَّه قلبه للبحث في شريعة الرب وممارستها وتعليمها لبني اسرائيل، جاء فعلَّم الناس الشريعة. اجتمعت الجماعة في ساحة المدينة، فوقف عزرا بينهم على منبر من خشب مصنوع لذلك. فاحضروا كتاب الشريعة ففتحه عزرا. ولما فتحه وقف الشعب اجمعون ورفعوا ايديهم، ثم خرّوا وسجدوا بوجوههم للرب إلى الأرض، وبدأ عزرا القراءة وكان اللاويون يترجمون النص العبري إلى الآرامية (أم السريانية) وهي لغة كنعان في ذلك الوقت. وطالت القراءة من الصبح إلى نصف النهار وامتدّت على سبعة أيام عيد المظال (نح 8: 1- 18).
وهكذا تنظمت الجماعة اليهودية في زمن الفرس: تجمعت حول الهيكل وداخل اسوار اورشليم، وتنقت من كل عنصر خارجي، وعاشت تحت سلطة كهنتها وكتبتها في المحافظة على شريعة الله.
المعنى الديني لكتاب عزوا ونحميا:
قليلون جدا هم الذين قرأوا كتاب عزرا ونحميا، لأنهم لا يرون فائدة من قراءته اليوم. نحن لا نقابل هذا الكتاب بغيره من الكتب المقدسة، ولكننا نعتبر أن له بعداً دينياً لا بدَّ ان نشدّد عليه، لتكون نظرتنا إلى الكتاب المقدس كاملةً من خلال جميع الاسفار المقدسة التي يشملها الالهام.
لن نجد في كتاب عزرا ونحميا عرضاً لاهوتياً منظماً، ولكننا نستطيع أن نكتشف الأفكار الرئيسية التي دفعت عزرا ونحميا والعائدين من السبي إلى العمل رغم الظروف الصعبة التي رافقتهم. الفكرة الاولى: الهيكل، الفكرة الثانية: مدينة اورشليم، الفكرة الثالثة: جماعة شعب الله. الفكرة الرابعة: الشريعة.
أول عمل قام به الشعب العائد من السبي هو إعادة بناء الهيكل. أجل، ان هدف الرجوع من السبي كما حدده قرار الملك كورش هو إعادة بناء المعبد. فبيت الله هو العلامة الملموسة والمادية لحضور الرب وسط شعبه. وهو المكان الذي يحتفل به المؤمنون بشعائر العبادة. من هنا تبرز اهمية كل ما يتعلق بالكهنوت واللاويين والاشخاص المرتبطين بالمكان القدس، واهمية آنية العبادة والتقدمات. ويبرز كذلك دورُ المذبح الذي رمِّم أولا قبل بناء الهيكل من اجل تقدمة الذبائح. تأخر بناء الهيكل والسبب في ذلك هُم الاعداء، بل التهامل واللامبالاة والقنوط من قِبَل الشعب اليهودي. وسيقول حجاي في ذلك: قال الشعب: لم يبلغ الوقت بعد لإعادة بناء بيت الرب. فكانت كلمة الرب: حان لكم أن تسكنوا في بيوتكم المسقوفة، ولكن تتركون الهيكل خربا. (حج 1: 3- 4). ولكن حين انتهى الشعب من العمل عبّروا عن فرحتهم ودشّنوا الهيكل الذي هو عمل الله قبل أن يكون عمل الانسان (عز 6: 23).
لا يفترق الهيكل عن المدينة، والاهتمام باورشليم المدينة المقدسة في الحاضر وفي المستقبل هو الذي دفع نحميا لان يطلب من ارتحششتا أن يسمح له أن يذهب الى عاصمة الشعب اليهودي ليعيد بناء أسوارها. هذا الاهمام يفسّر غيرة نحميا الدينية والوطنية لاعادة بناء الأسوار بمشاركة السكان (نح 2- 6). وهذا البناء كان لنحميا بمثابة رسالة أوكله بها الرب فقام بها خير قيام رغم الصعوبات، وهو متأكد أن الله معه وأنه يحارب من أجل شعبه. وما اكتفى نحميا ببناء الاسوار، بل عمل على اجتذاب السكان إلى المدينة وعلى فرض تقديس السبت الذي ينجِّسه التجار الغرباء وسكان اورشليم (نح 13: 15- 22). كل هذا يدل على أن أورشليم يجب أن تبقى المدينة المقدسة، كما كانت في الماضي وقبل دمارها سنة 587 ق م.
ولكن لا قيمة للهيكل والمدينة إلاَّ بالشعب الذي يعيش في هذا المكان، والذي يشكّل جماعة شعب الله. غير أن هذه الجماعة التي هزها المنفى تحتاج إلى إعادة بناء على أساس حقيقي هو الطاعة لشريعة الله. هنا تبدو أهمية عمل عزرا ونحميا. فالشعب اليهودي خسر استقلاله الوطني، ولم يعد من سبب لوجوده إلاَّ لأنه جماعة دينية تربط التقليدَ القديم بمتطلبات الحالة الحاضرة. وإعادة البنا، هذه تبرز في ميادين متنوعة ومنها ميدان شعائر العبادة: قراءة احتفالية لشريعة موسى التي حملها عزرا (نح 8) وشرَحَها للشعب قبل عيد المظال. هذا ما سيصنعه الشعب اليهودي في المجامع، وستكون الشريعة أساس حياته عبر العصور.
والطاعة لشريعة الله تفسّر الاجراءات القاسية التي اتخذها عزرا ونحميا ليجعلا الشعب يحفظ الاعياد والسبت والفرائض المتعلقة بالتقدمات والعشور (نح 10؛ 12؛ 13: 1-22)، وليعاضا الزواجات مع الوثنيين (عز 10؛ نح 13: 33- 29). وان نحميا سيقدم اقواله ومثلَ الشخصي، فينطلق من أمانته للشريعة ليَحل المشكلة الاجتماعية التي قسمت سكان المدينة بين غني وفقير. يقول نح 5: تذمر الشعب رجالا ونساء بسبب اخوانهم اليهود. قال بعضهم: بنونا وبناتنا كثيرون، ونود أن نحصل على الحنطة لنأكل ولا نموت جوعا. وقال آخرون: رهنّا حقولنا وكرومنا وبيوتنا لنحصل على الحنطة في أيام الجوع. وقال آخرون أيضا: اقترضنا المال على حقولنا وكرومنا لندفع الضريبة للمَلك. فلما سمع نحميا صراخهم وتذمرهم غضب جدّا من العظماء الذين يفرضون احمالاً ثقيلة على بني قومهم... وطلب من كل واحد ان يترك الدَين للمساكين وان يرّد لهم حقولهم وكرومهم وزيتونهم. فقال العظماء: نرد لهم كما قلت ولا نطلب منهم شيئاً.
هنا نكتشف روحاً دينية عميقة تسود تصرف المؤمنين في الحالات الصعبة التي تلت التهجير والمنفى والذهاب إلى سبي بابل. ونكتشف دور الشريعة التي هي شريعة الله الحي الذي يتكم ويفعل، والذي نحوه يتوجه الشعب في صلاة صادقة تنبع من القلب. في كل وقت يتوجه الشعب إلى الرب ليسأله سؤالا، ليطلب معونته وحمايته، ليشكره بالفرح على نعمه. حين تأسس الهيكل قال الكتاب: "رنِّموا بالتسبيح والاعتراف للرب لأنه صالح، لأن رحمته إلى الأبد على شعب اسرائيل. وهتف الشعب هتافاً عظيماً وهم يسبّحون الرب" (عز 3: 11). وحين تسلم عزرا الرسالة من ارتحششتا قال: "تبارك الرب، إله آبائنا، الذي ألقى مثل هذه الرغبة في قلب الملك لتكريم هيكل اورشليم" (عز 7: 28).
وهذه صلاة نحميا حين علِم بحالة اورشليم وسكانها. قال: "أيها الرب، إله السماوات، الجبار العظيم الرهيب الحافظ العهد لمحبيه والراحم حافظي وصاياه. لتكن عيناك ناظرتين وأذناك مصغيتين لتسمع صلاتي التي أصليها اليوم أمامك... اغظناك ولم نحفظ وصاياك وفرائضك وأحكامك التي أمرت بها موسى عبدك" (نح 1: 4- 11).
وهناك صلاتان تحملان عواطف التوبة والاعتراف بالخطايا والتماس مغفرة الله، والتذكير بتاريخ شعب الله وخياناته. الصلاة الأولى نقرأها في عز 9: 5 - 15، وفيها: والآن يا إلهنا، ماذا نقول بعد هذا الذي حصل لنا؟ قد أهملنا وصاياك التي أمرت بها على ألسنة عبيدك الأنبياء... أيها الرب الاله، أنت عادل... ها نحن بين يديك نجرجر آثامنا ولا يحق لنا أن نقف أمام حضرتك. والصلاة الثانية نقرأها في نح 9: 5- 37، وفيها: أيها الرب، تبارك اسمك المجيد المتعالي فوق كل بركة وتسبيح. أنت يا رب وحدك صنعت السماوات وسماء السماوات وكل الكواكب والارض وكل ما عليها والبحار وكل ما فيها. أنت محي كل خليقة، وقوات السماء تسجد لك. أنت الرب الاله الذي اصطفيت أبرام وأخرجته من أور الكلدانيين وجعلت اسمه ابراهيم...
هذه الصلوات النابعة من كلام الانبياء قادت الشعب إلى عواطف الايمان والتوبة أمام الاله الذي يغفر. ويمكننا ان نصليها نحن ذاكرين ايضا ما عمله يسوع من أجلنا خلال حياته على الارض وما يزال يفعله اليوم من أجل كنيسته.
نقرأ اليوم كتاب عزرا ونحميا، فنتأمل في حياة هذين البطلين المشبعة بالصلاة والمليئة بالتضحية من أجل هيكل الله وشعبه ومدينته. إن دور عزرا يشبه الى حد بعيد دور موسى، وعنه تقول التقاليد اللاحقة إنه دوَّن الشريعة كلّها. ودور نحميا يشبه دور يشوع القائد قرب الكاهن. اننا في هذا الكتاب أمام انطلاقة جديدة لشعب الله، ولكنها إنطلاقة ضيّقة حول الشريعة التي تفرض على المؤمن ان ينفصل عن غير المؤمن ليحافظ على إيمانه. نحن ولا شك بعيدون عما نقرأه في إشعيا الثاني من نظرة تصل بنا إلى الآخرين وتشملهم في خلاص الرب.
ثم إنه سيأتي وقت العبادة بالروح والحق بمعزل عن أي موضع عبادة مهما كان مقدساً (يو 4: 21- 24). إن عملَ الله يتكيّف مع تصرفات البشر، والديانة اليهودية لها مكانتها في حكمة الله المتنوعة. إن الرسالة إلى العبرانيين تعرف أن الله تكلَّم مرات عديدة كلاماً مختلف الوسائل (عب 1: 1) في العهد القديم كما في العهد الجديد، ولكن كلمته ستصل إلى كمالها في الابن الذي هو شعاع مجده وصورة جوهره (عب 1: 3). ولهذا تبقى كلمة العهد القديم ناقصة، وكتاب عزرا ونحميا الذي يحصرنا في الشريعة ضيقاً. هذا ما نفهمه عندما نقرأ ما قاله القديس بولس في الرسالة إلى أهل كلاطية: قبل أن يأتي الايمان كنا مسجونين بحماية الشريعة إلى أن يتجلى الايمان المنتظر. فالشريعة كانت مؤدِّبا لنا إلى مجيء المسيح لننال البر بالايمان. فلما جاء الايمان، لم نبقَ في حراسة المؤدِّب، لانكم جميعاً ابناء الله بالايمان بالمسيح يسوع (غل 3: 33- 26). تلك هي حدود العالم اليهودي إن وقفنا عندها، وتلك هي عظمة العهد القديم ان عرفنا ان نقرأه في مخطط الله ليصل بنا الى يسوع المسيح.
الخوري بولس الفغالي

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM