لفصل السادس عشر: خاتمة الرسالة

الفصل السادس عشر
خاتمة الرسالة
5: 12- 20

في هذه الخاتمة جمع يعقوب بعض التحريضات الهامة من أجل الحياة المسيحيّة في العالم. لا نجد رباطاً وثيقاً وملموساً بين هذه التحريضات. فالأول يتحدّث عن الحلَف (آ 12). والثاني عن الصلاة (آ 13- 18). والثالث عن المسيحيّين الذين ضلّوا عن طريق الحقّ (آ 19- 20). هي مسيحيّة قريبة من الحياة العمليّة، وهي تتسلّم دفعها العميق من الصلاة، وتتفتّح في روح الطفولة وفي ثقة تجاه الله. وهذه الحياة تجد موضوعها الرئيسيّ في الاهتمام بالإخوة وخلاصهم. بدأ يعقوب فتحدّث عن الأخ الضال، وأرى رسالته قائلاً: "إن ضلّ أحد عن الحقيقة". وهي مسيحيّة قريبة من منابعها، قريبة من تعليم يسوع والرسل. فيعقوب هو شاهد أمين و"عبد الله والربّ يسوع المسيح". سمع كلام الربّ، وها هو يوصله إلينا في طراوته الأولى وكما عاشته الجماعة المسيحيّة الفتيّة.
نتوقّف في هذه المقطوعة عند ثلاث محطات. الأولى: لا تحلفوا (آ 12). قبل كل شيء لا تحلفوا. الثانية: صلّوا في كل ظروف الحياة (آ 13- 18). صلّوا في الفرح كما في الألم، صلّوا حين تعانون المرضى وحين تعرفون شقاء الخطيئة. والمحطّة الثالثة: طريق الخلاص (آ 19- 20): من ردّ خاطئاً خلّص نفسه من الموت.

1- لا تحلفوا (5: 12)
هناك شرّاح يربطون آ 12 مع ما سبق بسبب لفظة "دينونة" (كريسيس) التي قد تكون صدى لما قيل عن الفعل "دين" وعن "الديّان". ولكن توجيه الكلام مع المنادى "أيها الاخوة"، وعبارة "قبل كل شيء"، ومضمون الجملة، كل هذا يدلّ على أننا في قطعة جديدة.
وهكذا نبدأ في هذه الآية مع القسم الأخير من الرسالة. فهناك عادة سيّئة نشهد بها الله على أقوال تافهة وغير مهمّة، فنبيّن حقيقة ما نقول. تلك العادة انتشرت بشكل واسع في العالم اليهوديّ كما في الجماعات المسيحيّة التي خرجت من العالم اليهوديّ. وكانوا يعتبرون في الظاهر أنهم يراعون بدقّة الوصيّة الثانية من الوصايا العشر (لا تحلف)، فيتجنّبون التلفّظ باسم الله ويلجأون إلى ألفاظ أخرى: السماء، الأرض، الهيكل (مت 5: 33- 37). ولكن لا شكّ في أنهم كانوا يعودون بقسمهم إلى الله، ويختبئون وراء الكلمات. وكان علماء الشريعة قد قدّموا لائحة متدرّجة بخطورة كل من هذه الألفاظ. ومن كان عالماً بهذه اللائحة يستطيع أن ينصب فخاً لأخيه الذي لا يعرف هذه الفذلكات. فيلجأ إلى كلمات اختارها بدقّة (من حلف بالهيكل فلا بأس، ومن حلف بذهب الهيكل فهو ملتزم، رج مت 23: 16- 22).
كان يسوع قد رفض هذا التجاوز الذي يتنافى وقداسة الله. كما طلب من تلاميذه ألاّ يحلفوا البتّة: "لا بالسماء لأنا عرش الله، ولا بالأرض لأنها موطىء دميه، ولا بأورشليم..." (مت 5: 33- 37). فالربّ لا يريدنا أن نحلف لأننا أبناء الآب السماوي. وبهذه الصفة يكون كلامنا نقياً حقيقياً لا غشّ فيه. يكون كلامنا نعم نعم ولا لا. وما زاد على ذلك فهو من الشّرير.
هنا نقابل بين أقوال يسوع (مت 5: 35- 37) وأقوال يعقوب (5: 12)
يعقوب متى
كل حلف ممنوع كل حلف ممنوع
أمثلة: السماء السماء
الأرض الأرض
أي شيء آخر أورشليم، الرأس
السبب: كل العبارات البديلة
هي حلف أيضاً.
الوصية: النعم نعم العبارة الصالحة: نعم نعم
واللا لا
تهديد بالدينونة رفض كل الاشكال التي بها
نؤكّد على الحقيقة
فعلى تلميذ يسوع ألاّ يلجأ إلى الفذلكات، إلى أنصاف الحقيقة، إلى الحيلة أو الخبث والرياء. فهو يعيش تحت نظر الله الذي يحامي عن الحقيقة، ويدين كل من يتصرف ضد الحقيقة. فالربّ الذي تألّم "شهد شهادة حسنة أمام بونسيوس بيلاطس" (1 تم 6: 13).
هل يعني هذا أن يسوع (ويعقوب) قدّم شريعة عامّة تحرّم على المسيحيين الحلف في أي ظرف كان؟ كلا. فقد يقسمون حين يكون الهدف البحث عن الحقيقة. وما يريد يسوع أن يشدّد عليه، هو أن على المسيحيّين أن يقولوا الحقيقة ويتحاشوا كل تحايل والتباس. كما أن عليهم أن لا يستغلّوا سلطة الله من أجل أهدافهم الشخصيّة. فالذي تخلّص من أركون هذا العالم، من أبي الكذب، عليه أن يمارس الحقيقة في جميع أقواله ومواقفه. هكذا يخلص العالم وتتقدّس الكنيسة (4: 15). وهكذا تتغلغل الحقيقة في العالم، هذا العالم الذي يسيطر عليه الكذب والخبث والغشّ والضلال.

2- صلّوا في كل ظروف الحياة (5: 13- 18)
بعد أن ترك الكاتب توصياته السلبيّة حول الصبر في المحن (5: 7- 11) وحول الامتناع عن الحلف (5: 12)، ها هو يقدّم بدون انتقالة تحريضات إيجابيّة حول الصلاة (5: 13- 18). ترك فجأة الشكل التعليميّ والحكميّ الذي ميّز التوصيات السلبيّة، فلجأ إلى الجدال ليقدّم باسلوب مباشر تحريضاته في أسئلة وأجوبة.
أ- صلّوا في الفرح وفي الألم (آ 13)
نبدأ فنشير بأنها المرة الثالثة التي فيها يرد موضوع الصلاة في يع. في 1: 5- 8، تحدّث الكاتب عن الصلاة الواثقة التي تنال الحكمة من الله. في 4: 2- 3، لام المسيحيين الذين يعيشون في الشهوة والحسد؛ هم لا يصلّون أو لا يعرفون أن يصلّوا. ونقدر أن نزيد المقطع الذي فيه يعتبر اللسان وسيلة بها نبارك الله (3: 9).
وهنا يعالج الموضوع نفسه من زاوية أخرى وبشكل أطول. يدعو الكاتب القرّاء للّجوء إلى الصلاة في كل الظروف الحياتيّة، في الضيق كما في الفرح. ويتوقّف عند طريقة الصلاة ونتائجها. ويطلق نداء حول الاعتراف، وينهي باعلان (يتبعه مثل) يكفل فاعليّة صلاة الأبرار.
موضوع واحد يبدأ بثلاثة استفهامات متوازية. وبعد كل استفهام، فعل في صيغة المفرد (ليصلِّ، ليرنّم، ليدعُ الكهنة). بعد ذلك نجد فعلين في صيغة الجمع: إعترفوا، صلّوا.
"صلّوا في كل ظروف الحياة". تلك هي التوصية الأولى. "هل فيكم من يعاني مشقّة (يتألّم)؟ فليصلّ. أو مسرور؟ فليرنّم" (آ 13 أ). إن صيغة الأمر هنا توازي الجملة الشرطيّة. إن كان فيكم أحد يتألّم (رج 3: 13). ولكن طريقة الكاتب تعطي النصّ حيويّة وانطلاقاً. هو كلام ذو بعد عام. ولكنه يتوجّه إلى كل شخص في الجماعة (واحد منكم، رج 1: 5، 27؛ 2: 14، 16، 18؛ 3: 13). وهذا يعني أننا أمام صلوات غير الصلوات الليتورجيّة، وهي تعني أوضاعاً قصوى في الحياة الخاصة (الألم، الفرح) فتفهمنا أن سائر الأوضاع متضمّنة هنا.
الصلاة (بروسوخي) تفرض نفسها أولاً على الذين يتألّمون، على الذين يضايقهم شّر (كاكوباتيو). رج 2 تم 2: 9؛ 4: 5. والشّر يدلّ على كل أنواع الآلام الفيزيائية والأدبيّة، كما يدل على كل المحن. وهو يقابل حالة الفرح. كان الرواقيون يعالجون الألم بأفكاره أو باحتقاره. أما يعقوب فيدعونا إلى التغلّب عليه بالصلاة والعودة إلى الله. أي صلاة نتلو؟ هذا ما لا يُقال. فلا حاجة إلى ذلك والصلاة شخصيّة في هذا المجال وهي تنبع من القلب. وقد تستلهم المزامير كما فعل الرسل في بداية الكنيسة (أع 4: 24 ي). وفي هذا المجال، طلب بطرس من المتألّمين أن يصلّوا فاعلين الخير (1 بط 4: 9).
وتفرض الصلاة نفسها أيضاً على الفرحين، على الواثقين بنفوسهم والمتحلّين بالشجاعة (اوتيموس). رج أم 15: 15؛ مز 32: 11؛ أع 27: 22، 25. طلب منهم الكاتب أن يرنّموا (بسالو، أن يرتّلوا المزامير)، أن يصلّوا وينشدوا. وإذ طلب الكاتب ما كتب، كان صدى للتقليد الانجيليّ والبولسيّ الذي طلب من المسيحيين أن يصلّوا بلا انقطاع، أن يطلبوا على الدوام، وأن يشكروا ولا يملوا (لو 11: 9؛ 18: 1؛ 1 تس 5: 17- 18؛ غل 4: 6؛ أف 5: 20).
أجل، لسنا وحدنا في الضيق والشدّة، كما لسنا وحدنا في الفرح. ولكن يجب علينا أن ندعو الربّ. حينئذٍ لن تكون الصلاة فقط عوناً في الألم، بل تعبرّ تعبيراً مباشراً عن إيمان نحياه. الصلاة هي للروح مثل التنفّس للجسد.
ب- الصلاة في وقت المرض (آ 14- 15)
ما قيل عن جميع المسيحيين في آ 13، يُقال الآن بشكل خاص عن المرضى الذين يتضّرعون، شأنهم شأن كل المتضايقين. إضافة إلى ذلك، يُطلب منهم أن يلجأوا إلى صلوات أخرى، صلاة الكهنة، صلاة الشيوخ في الكنيسة. "هل فيكم مريض فليدعُ كهنة الكنيسة وليصلّوا عليه، ويمسحوه باسم الربّ" (آ 14).
فالمريض لا يستطيع أن يذهب إلى الشيوخ، لهذا فهو يدعوهم، هو متألّم أو تعب ويرجو أن يخلص (سوساين)، أن ينهض من فراشه. يدعو شيوخ الكنيسة. أية كنيسة وأي شيوخ؟ في السبعينيّة "اكلاسيا". من فعل "اك- كالاين" دعا. هي ترجمة "ق هـ ل" العبريّة التي تدلّ على شعب الله الملتئم من أجل الحرب أو شعائر العبادة (عد 16: 3؛ 20: 4؛ تث 23: 2؛ عز 2: 64؛ نح 7: 66؛ 10: 8؛ رج أع 7: 38). واستعملت اللفظة في اليونانيّة الدنيويّة فدلّت على جماعة الشعب والتئام الناس في المدينة (أع 19: 32، 39، 41). وقد حلّ محلّها في العالم اليهوديّ "سيناغوغي" (أي: مجمع، كنيس، ع د ه في العبرية، عدتو في السريانيّة) الذي يدلّ تارة على جماعة الصلاة وطوراً على الموضع الذي فيه تلتئم الجماعة (يع 2: 2). في العهد الجديد، دلّت اللفظة بعض المرات على مجمل المسيحيّين (غل 1: 1؛ كو 1: 18، 24؛ أً 1: 22؛ 3: 21). ولكنها دلّت في أغلب الأحيان على الجماعة المحليّة (1 تس 2: 14؛ 1 كور 4: 17؛ 11: 16؛ 2 كور 8: 1؛ روم 1: 7)، وفي النصّ الذي ندرس، فهي تدلّ على الجماعة المحليّة التي ينتمي إليها المريض.
ولفظة "شيوخ" (كهنة). في العبريّة "ز ق ن ي م" (كانت لهم لحية في الذقن). في اليونانيّة: "برسبيتاروي". هم في العهد القديم رؤساء البيوت والعائلات، ثم المواطنون الرئيسيون (عد 11: 16؛ يش 9: 11؛ يع 8: 14؛ 11: 5). وهم بعد ذلك، المسؤولون عن الإدارة (عز 5: 9- 10؛ 6: 7- 8). وفي اليونانيّة الدنيويّة الشيوخ هم أعضاء في النقابات، أو موظّفو البلديّة. وفي أورشليم نال بعض أعضاء المجلس الأعلى (سنهدرين) هذا اللقب (مت 27: 41؛ مر 11: 27؛ 14: 43، 53). وكل جماعة يهوديّة في فلسطين أو في الشتات، يديرها مجلس من الشيوخ. والجماعات المسيحيّة في أورشليم وفي أماكن أخرى كان لها شيوخها. أي رؤساء اختارهم الرسل لكي يعينوهم (أع 11: 30؛ 15: 4، 22- 2؛ 21: 18) أو يحلّوا محلّهم (أع 14: 23؛ 20: 17- 28؛ 1 بط 5: 1- 4). فمعطيات العهد الجديد تدلّنا بما فيه الكفاية على أنهم يمارسون دوراً دينياً، يشبه ما في العالم اليهوديّ والوثنيّ، بل يتعدّاه، ولكنه دور يختلف عن دور بعض المواهبيّين المسيحيّين.
فالكاتب يطلب من المرضى أن يرسلوا نداء إلى هؤلاء الشيوخ (أو الكهنة) الذين يترأسون الكنيسة المحليّة. وصيغة الجمع لا تدلّ على أنه يدعو جميع الشيوخ، بل فئة خاصة (مت 2: 20؛ لو 17: 14). وهكذا نعرف هنا أن دور الشيوخ في الكنيسة تضمّن أيضاً العناية بالمرضى. ولا نعجب من ذلك. فيسوع كان قد أرسل رسله إلى المرضى لكي يمسحوهم بالزيت ويشفوهم (مر 6: 13). كما أنه امتدح زيارة المرضى (مت 25: 36) التي كانت معروفة في العالم اليهودي. فالعهد القديم يتحدّث عن عادة زيارة المرضى (مز 35: 13؛ 41: 4؛ عز 34: 4؛ أي 2: 11؛ طو 1: 19 ي). وقد أوصى بها ابن سيراخ فرأى فيها عربون خيرات إلهيّة (7: 34 ي). وحضّ المريض الذي يريد الشفاء على الصلاة وتنقية النفس ثم دعوة الطبيب الذي تفعل صلاته في المريض أكثر مما يفعل علاجه (سي 38: 9- 15). ويمتدح التلمود بدوره زيارة المرضى، فيرى فيها كفالة طول العمر، ويطلب منهم أن يصلّوا لأجل المرضى خلال زيارتهم لهم، ويدعوهم أن يعترفوا بخطاياهم قبل أن ينظّموا أمورهم الزمنيّة. فاليهود كانوا يحسبون حساب الصلاة والاقرار بالخطايا التي اقترفها المريض لكي ينال الشفاء، لأنهم يرون في الألم نتيجة الخطيئة (لا 26؛ تث 28؛ أش 6: 10؛ 40: 5؛ مز 102: 3؛ أي 4: 7 ي؛ 8: 1 ي). وكانوا أيضاً يحسبون حساب العلاجات (سي 38: 1- 5) ولا سيّما المسح بالزيت (أش 1: 6؛ إر 8: 22؛ 46: 11؛ لو 10: 34).
أما دور الشيوخ الذين يدعوهم المريض، فياقوم بأن يصلّوا على المريض ويمسحوه بالزيت. الصلاة هي الأهمّ. وبعد ذلك المسح بالزيت الذي يدخل في الصلاة (لو 2: 16؛ 10: 33). تقال الصلاة على المريض. فما معنى هذا؟ أي يقف الشيوخ قرب المريض وينحنون لكي يمسحوه بالزيت، وتتمّ المسحة "باسم الربّ". أي يدعون اسم الربّ كما في العماد (أع 2: 38؛ 8: 16؛ 10: 48؛ 19: 5). ولكن من دعا اسم الربّ، لجأ إلى قدرته بحيث صارت هذه المسحة عملاً دينياً، لا عملاً سحرياً أو معالجة طبيّة (رج أع 19: 13- 15).
اختلف هذا النصّ عن نصوص العهد القديم والأدب اليهوديّ، فربط رباطاً وثيقاً بين المسح بالزيت والصلاة. كما طلب أن تتمّ المسحة باسم الربّ. وهكذا نكون أمام جديد جديد يرتبط بما فعله يسوع (مر 6: 13) حين أرسل رسله وأعطاهم سلطاناً ليكرزوا في الجليل ويشفوا المرضى بعد أن يمسحوهم بالزيت. من أجل هذا نظنّ أن الرسل رأوا في هذا النشاط الخاص من رسالتهم الجليليّة، اتجاهاً يجب أن ينقلوه إلى الذين يأتون بعدهم. وقد كان هذا التقليد حيّاً في الكنيسة الأولى.
وإذ أراد الكاتب أن يحثّ المريض المسيحيّ على دعوة الشيوخ إلى فراشه، دلّ على هدف تدخّلهم والمنفعة من هذا التدخّل فقال: "فإن صلاة الإيمان تخلّص المريض والربّ ينهضه. وإن كان قد اقترف خطايا تغفر له" (آ 15).
كانت لفظة "أوخي" تعني النذر. أما هنا فتعني الصلاة، مثل "بروسوخي". شدّد الكاتب مرّة أخرى على الصلاة، فدلّ على الموقع النسبيّ للمسحة التي تدخل في الصلاة وتُدعى هذه الصلاة "صلاة الإيمان". رج 1: 5- 8 والصلوات التي نتلوها بإيمان لا تردّد فيه. فهي تنال كل شيء من سخاء الله (مر 5: 34؛ لو 17: 19).
وما هي نتيجة صلاة الشيوخ؟ نوعان. شفاء المريض وخلاصه. فيقوم عن سريره. ثم غفران خطاياه. وإذ يقول الكاتب إن الشفاء يأتي من الربّ، فهو يدلّ على أن صلاة الإيمان التي يتلوها الشيوخ لا تحمل قيمة سحريّة، بل تنال فاعليّتها من قدرة الله وحسب. الربّ هو المسيح كما في آ 14. وبه يرتبط شفاء المريض.
ج- اعترفوا بعضكم لبعض (آ 16 أ)
هذا الشقّ الأول من آ 16 يبدو صعباً. فالكاتب يستنتج ممّا سبق فكرة جديدة حول مغفرة الخطايا فيدعونا إلى الاقرار بها. "اعترفوا إذن بعضكم لبعض بخطاياكم، وصلّوا بعضكم لأجل بعض حتى تبرأوا". ماذا يقول الشرّاح في هذه العبارة؟
بعضهم يرى أن الكاتب يتوجّه في القسم الأول إلى المريض، وفي القسم الثاني إلى الكهنة (الشيوخ) وإلى جميع الذين حوله. عرف أن صلاة الكهنة تغفر له خطاياه، فوجب عليه أن يقرّ بها. وينطلق الشيوخ (والحاضرون) من هذا الاقرار التائب فيصلّون من أجل المريض ليُشفى.
ويرفض آخرون هذه الفرضيّة، لأنها تتبع نظرة اليهود إلى العلاقة الوثيقة بين الخطيئة والمرض، وهي نظرة تزيلها آ 14. ولأنها تنسى الانتقال من صيغة المفرد إلى صيغة الجمع، ووجود عبارة "بعضكم بعضاً" مرتين. هم يرون أن الكاتب لا يتوجّه إلى المسيحيّ المريض بل إلى جميع المسيحيّين. استفاد ممّا قاله في آ 14 عن الخطايا والصلاة، فأوصى بالأعتراف المتبادل والصلاة المتبادلة. هنا نشير إلى أن الأعتراف بالحطايا وُجد في العالم اليهوديّ، وقد مارسه الأفراد (لا 5: 5؛ رج عد 5: 60؛ مز 32: 5؛ أم 28: 13) والجماعات (لا 16: 21؛ 26: 40؛ رج عز 10: 1؛ با 1: 15- 3؛ 8؛ دا 9: 4- 10). وفي قمران، كان إقرار علنيّ ولا سيّما بمناسبة الدخول في العهد. والجموع التي جاءت إلى يوحنا المعمدان كانت تعترف بخطاياها (مت 3: 6 وز). كل هذا يجعلنا في إطار الاقرار بالخطايا الذي تحدّثنا عنه يع. هل كان هذا "الاعتراف" عملاً ليتورجياً وممارسة عاديّة كما سيكون عليه الأمر في القرن الثاني (مثلاً، تعليم الرسل 4: 14؛ 14: 1؛ رسالة برنابا 19: 12)؟ يبدو أن مدلول النصّ لا يتضمّن مثل هذا الموقف.
وهدف الأعتراف والصلاة هو الشفاء الجسدي، وبالاحرى الروحيّ أي مغفرة الخطايا. لهذا يعترف الخاطىء بخطيئته فيتوسّل الاخوة من أجله.
د- صلاة البار (آ 16 ب- 18)
وإذ أراد الكاتب أن يبرّر توصيته بالاعتراف بالخطايا والصلاة بعضنا لأجل بعض، تحدّث عن قوّة صلاة البار (آ 16 ب)، واسند حديثه إلى ما فعله النبي إيليا (آ 17- 18).
هي المرة الثانية نلتقي فيها بلانظة "بار" (ديكايوس). رج 5: 6 (حكمتم على البار). فالبار هنا هو الذي لا يخاف أن يقرّ بخطيئته بحيث يجد نفسه متوافقاً مع إرادة الله. فالصلاة الحارة لها قوّة عظيمة.
عرفنا في نصّين سابقين من الرسالة أن الاستعدادات الداخليّة تؤثّر على فاعليّة الصلاة، وتكفل لنا عطايا الله السخيّة (1: 5- 8). أما الاستعدادات الرديئة فتجعل سخاءه "يتوقّف" (4: 3). أما موضوع قوّة صلاة البار فمتواتر في العهد القديم (تك 18: 16 ي؛ مز 145: 18- 19؛ أم 15: 8، 29؛ عد 21: 7، 12؛ ملا 1: 9؛ أي 42: 8) كما في العهد الجديد (مت 18: 19- 20؛ 21: 21- 22؛ مر 11: 22- 25؛ يو 9: 31؛ 1 يو 5: 14- 15؛ لو 11: 9)
وعاد الكاتب أيضاً (آ 17- 18) إلى العهد القديم لكي يسند تأكيده حول قوّة الصلاة. سبق له وذكر ابراهيم، راحاب، أيوب. وها هو يذكر النبيّ إيليا الذي كان عظيماً في اسرائيل. انتظره الناس كسابق للمسيح (مت 17: 10، مر 15: 34؛ يو 1: 21) مستندين إلى قول في ملا 3: 23- 24 استعاده سي 48: 10. لهذا، توقّف يعقوب عند هذا المثل حول قوّة الصلاة ولم يحتفظ بابراهيم (تك 18: 22- 32)، ولا بموسى (عد 11: 1- 2) ولا بحزقيا (2 مل 20: 2- 5)، ولا بسائر الأبطال في التوراة. ويروي ابيفانيوس أن يعقوب نفسه قد نال بصلاته أن يتوقّف الجفاف في الأرض (مثل إيليا).
وقبل أن يذكر النصّ موضوع صلاة إيليا، ذكر ضعفه: كان إنساناً كسائر الناس، خاضعاً لذات المصير من الآلام (هومويوباتيس، رج أع 14: 15؛ حك 7: 3). يتوخّى هذا التذكير أن يقول للقرّاء إن المثل الذي يعرضه لهم هو في متناول أيديهم، وهم يستطيعون أن يقتدوا به إذا كانوا أبراراً. وهنا نفهم لماذا اختار الكاتب هذا المثال، حول الصلاة والإيمان الحيّ والصبر، ولم يختر يسوع الذي لا يمكن لأحد أن يقتدي بكماله.
عاد الكاتب إلى 1 مل 17- 18 حول الجوع في أيام احاب، ملك اسرائيل (874- 853 ق. م) ليتحدّث عن تدخّل إيليا. فصلاة النبي كانت حاسمة في هذا الظرف من جهتين. من جهة، زال القحط الذي امتدّ على ثلاث سنوات ونصف السنة (1 مل 17: 1؛ يع 5: 17). ومن جهة ثانية هطل المطر (1 مل 18: 1؛ يع 5: 18). في الواقع نحن أمام تحديدين لا يذكرهما كتاب الملوك. كما أن التقليد اليهوديّ اللاحق لا ينسب بداية المطر ونهاية القحط إلى صلاة النبي (سي 48: 2- 3؛ 4 عز 7: 39). في 1 مل 18: 1، امتد القحط ثلاث سنوات لا ثلاث سنوات ونصف كما يقول يع 5: 17 ب والتقليد الانجيليّ (لو 4: 25). أما التحديد الأول فيعتبر تفسيراً لما في 1 مل 18: 42 حيث نجد إيليا ساجداً إلى الأرض منتظراً المطر الذي وعد به. والتحديد الثاني قد يكون ضبط حساب السنين انطلاقاً من 1 مل 17: 1، 7؛ 18: 1.

3- طريق الخلاص (5: 19- 20)
ترتبط هذه القطعة بالقطعة السابقة بكلمتين عاكفتين: خلّص، خطيئة. كما أنها تشكّل خاتمة الرسالة كلها التي تنتهي بشكل مفاجىء. ومع ذلك فهذه النهاية تبدو بألفاظها قريبة جداً من بداية الرسالة. هناك: طريق (1: 8؛ 2: 25؛ 5: 20). ضلّ (1: 16؛ 5: 19- 20). الحقّ (1: 18؛ 3: 14؛ 5: 19). علم (1: 3؛ 2: 20؛ 4: 17؛ 5: 20). الثبات (1: 3؛ 5: 11). أعطى (1: 5؛ 4: 6؛ 5: 18).
تُجمع هذه الألفاظ في أربع نقاط: ضلال من الطريق. الخطيئة والموت. الحقّ. العلم. يبدو "الطريق" هنا في ضوء خاص حين نقابله مع 1: 7 حيث يندّد الكاتب بالانسان المتقلّب "في كل طرقه" ومع 1: 16 حيث يدعو اخوته ألاّ يضلّوا. فكأني بهدف يعقوب أن يُبعد قرّاءه عن ابتعاد وانطلاق. نحن هنا أمام مشاريع تجارة سيوضحها يعقوب في 4: 13. ومثل راحاب صار مثالاً للذين يحسبون نفوسهم مسؤولين عن إخوتهم. وهكذا يتوجّه كلام الرسالة إلى الذين يذهبون فيضلّون، كما إلى الذين ينبغي عليهم أن يحفظوهم من الضلال.
والنقطة الثانية: الخطيئة والموت. فالذي ضلّ هو "خاطىء". والأخ الذي يردّه "يخلّص حياته من الموت" و"ينال غفران خطاياه". في 1: 15 كانت الخطيئة نتيجة الشهوة وعلّة الموت. إذن، أعلن الكاتب منذ البداية نظرته: الشهوة هي في أسالس انحطاط على مستوى النفس وعلى مستوى الجسد. وفي 4: 2 تصبح هدف التجارة التي تريد الاتجّار بمستحضرات الترف. والخطيئة هي أن لا نعرف أن نعمل الخير، ونبحث عن مشاريع يكون الربح هدفها. والموت المذكور هو روحي وجسديّ بسبب ما يهدّد الحياة من عواصف في البحر وأمراض قاتلة.
لهذا يجب على الانسان أن "يخلّص حياته" من الموت (1: 21). في هذا السياق،. هي الكلمة التي تخلّص. هي كلمة الله الثابتة التي تتعارض مع لسان البشر المتقلقل (3: 8). وفي النهاية هي كلمة صالحة يتلفّظ بها أخ فيردّ أخاً من ضلاله ويخلّص له حياته. وفي أي حال، نتكّل على الله الذي وحده يخلّص ويهلك (4: 12).
والضلال عن الطريق هو ضلال عن الحقّ. وهذا الحقّ هو كلمة الله (1: 18) التي ولدتنا فلا نحيد عنها. نحن هنا أمام الجماعة المجذّرة في الله، والمعروفة بثباتها. أما حيث التقلّب والحسد، فهناك كذب ضدّ الحقيقة. تلك هي كلمة الغشّ التي يتلفّظ بها أولئك الذين يدينون الآخرين، ويقومون بمشاريع تدلّ على غيرة مرّة وروح منازعة.
ويقول بولس لقرائه: "إعلموا" (5: 20). إعلموا ما هي مسؤوليّاتكم. سبق لهم وعلموا أن المحن تفترض الصبر والثبات (1: 3). وأن الله وحده يستطيع أن يعطي حكمة تعلّمنا أن نتصرّف باستقامة (1: 5). كما ذكّرهم في نهاية الرسالة بالصبر في المحن التي هي المضايقات والأمراض. ذاك الثبات يتأسّس على الإيمان (1: 6؛ 5: 15) الذي يمنحه الله (1: 17؛ 5: 18). كل هذا العلم المشترك يصل إلى معرفة عمليّة (4: 17) تؤمّن تماسك الجماعة المهدّدة بالتفكّك. كل هذا قاله يعقوب بوجه الذين يظنّون أنهم يعرفون، فيتكلّمون بصوت عالٍ في الجماعة ليدلّوا على أنهم متأكّدون ممّا يقولون.
وهكذا نفهم أن المسيحيّ مسؤول عن أخيه في الإيمان. هو مسؤول عنه إذا خسر إيمانه. وهو مسؤول إن وجد إيمانه مهدّداً. فما يحصل للخراف الضالة في الجماعة، لا يمكن أن يترك الآخرين لا مبالين. وحبّ الربّ للضالين يدعونا إلى أن نبحث عن أخينا وندعوه إلى التوبة. لا شكّ في أن هذا الأمر صعب. لهذا، نلجأ إلى الصلاة المتواصلة في الإيمان الذي لا يثنيه شيء.
لا تنتهي رسالة يعقوب بالتحيّة والتمنيات التي نجدها عادة في رسائل ذلك الزمان. بل تقدّم درساً جديداً حول ارتداد الأخ الضال. ومن اهتمّ بأخيه، نال الخلاص لنفسه، وحصل على مغفرة خطاياه. نهاية يع تشبه نهاية ابن سيراخ (51: 30: "إعملوا عملكم قبل فوات الأوان، والربّ يجازيكم خيراً في أوانه)، أو سفر الحكمة (19: 22: "لأنك يا ربّ عظّمت شعبك في كل شيء، ومجّدته ولم تهمله، بل ساعدته في كل زمان ومكان). إن هذه النهاية المفاجئة تذكّرنا أن يع هي كتاب حكميّ يتوجّه إلى جماعات لا يعرفها الكاتب. وليست رسالة كما تقول بعض المخطوطات في الخاتمة: "نهاية رسالة يعقوب بن زبدى".

خاتمة
صلاة فرديّة وصلاة كنسيّة. صلاة فرديّة يتلوها المؤمن الذي يعرف الشدّة والألم. وصلاة كنسيّة يتلوها شيوخ الكنيسة وهم يمسحون المريض بالزيت المقدّس. وهذه المسحة التى تسبق الصلاة تتجدّد في عمل طبيّ (لو 10: 34) ودينيّ (مر 6: 13) في خطّ ما أوصى به يسوع تلاميذه حين أرسلهم أمامه. وبما أنها تتمّ باسم الربّ، شأنها شأن العماد، فهي تدلّ على إيمان من الكنيسة بقدرة الربّ القائم من الموت، وتمارس كطقس من الطقوس. ويرد فعل خلّص وقام فيدلاّن على شفاء من المرض كما على خلاص اسكاتولوجيّ. يدلاّن على قدرة الله التي تشفي المريض وتخلّص الخاطىء. وتجد هذه المقطوعةُ حول الصلاة ذروتهَا في مثال إيليا وتشفّعه من أجل شعبه. وتنتهي رسالة يعقوب بنداء إلى الاصلاح الاخويّ: "من ردّ خاطئاً عن طريق ضلاله، خلّص نفسه من المرت وستر جماً من الخطايا".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM