الفصل الحادي عشر: الحكمة الحقة والحكمة الكاذبة

الفصل الحادي عشر
الحكمة الحقة والحكمة الكاذبة
3: 13- 18

نبدأ هنا مقطعاً جديداً من رسالة يعقوب، يندّد بالاسباب العميقة للخصومات والتوتّرات داخل الجماعات، بنقص في المحبّة بين الأفراد. وهكذا نكون أمام عدد من الأقوال المأثورة ترتبط بعضها ببعض برابط متراخٍ. وقد توخّى الكاتب أن ينطلق من وجهات مختلفة فيدلّ على هذا الشرّ، ويحاول تجاوزه. فأبرز في البداية القاعدة الأساسيّة من أجل موقف مستقيم: حبّ مملوء وداعة. وجعل السلام فوق كل شيء. تلك هي الحكمة الحقة "الآتية من فوق".
هذا ما نتأمل به في هذا المقطع مشدّدين على ثلاثة أمور: الحكمة الحقة والسلوك الصالح (3: 13). جذور الحكمة الكاذبة وثمارها (3: 14- 16). جذور الحكمة الحقة وثمارها (3: 17- 18).

1- الحكمة الحقة والسلوك الصالح (3: 13)
من لا يريد أن يكون حكيماً؟ من لا يريد أن يفهم في العمق ما يلامس حياة الانسان كي يستخلص الموقف الفطن الذي يتكيّف مع الظروف، لكي يستخلص الحكمة التي تعلّمه كيف يعيش؟ وهذا الفهم في نظر المؤمن، يعني أولاً طريق الخلاص وإرادة الله الخلاصّية. إذن، الحكيم هو ذلك الذي يفهم فهماً صحيحاً إرادة الله ويسيّر حباته بحسبها.
من الواضح أن الرغبة في فهم صحيح لوحي الله، قاد بعض أعضاء الجماعة إلى الحسد والمنازعات والتوتّرات، على ما حدث في جماعات أخرى (1 كور 1: 10؛ 3: 3؛ 14: 33؛ 2 كور 12: 20؛ فل 1: 17؛ أف 1: 17 ي؛ كو 1: 9 ي؛ 2: 1- 10؛ 1 تم 6: 20). وقد تكون هذه التوتّرات وُلدت من الجدال حول العلاقة بين الإيمان والاعمال (2: 14- 26). فشدّد يعقوب قائلاً بأن الحكمة الحقيقيّة لا تنكشف إلاّ في طريقة عيش يلهمها حبّ الله. وهنا يعود الكاتب مرّة أخرى إلى مثال المسيح (مت 5: 5؛ 11: 29) كما سبق له وفعل في 1: 21. فالحكيم هو الذي يسير في خطى المسيح، فيكون مثله متواضعاً، حليماً، وديعاً. فينال ميراث الله.
وهكذا توجّه الكاتب إلى الذين يعتبرون نفوسهم حكماء. فطلب منهم أن يبرّروا اعتبارهم هذا بالوداعة في سلوكهم. ونسأل: هل نستطيع أن نعرف إلى من يتوجّه الكاتب في آ 13- 18؟ هل يدلّ على جميع قرّاء الرسالة أم على المعلّمين والذين يتوقون إلى "مهنة" التعليم كما في 3: 1؟ نحن نعرف أن العالم اليهودي سمّى المعلّم "حكيماً" (ح ك م، حاخام، رابي، معلّم). يبدو أننا أمام تحرصين (3: 1- 12؛ 3: 13- 18) يتوجّهان إلى المعلّمين في الجماعات (3: 1- 2 أ). من جهة، يدعوهم الكاتب إلى أن لا يستسلموا لزلقات اللسان في مواعظهم (3: 2 ب- 12). ومن جهة ثانية، يدعوهم ألاّ يعتبروا نفوسهم حكماء، إلاّ إذا استلهم سلوكهم حكمة إلهيّة تولّد السلام، لا حكمة بشريّة تخلق البلبلة (3: 13- 18). وقال أصحاب هذا الرأي إن التحريضين يتوجّهان إلى المتهوّدين الذين لم يتسلّموا مهمّة رسمية، ومع ذلك يفرضون على الآتين من العالم الوثني الختان وسائر الممارسات الموسويّة (رج أع 15؛ غل 2).
هذا رأي. وهناك رأي آخر يعتبر آ 13- 18 مستقلّة عن المقطوعة السابقة. وهي تتوجّه إلى جميع قرّاء الرسالة سواء كانوا معلّمين أو أعضاء في الجماعة. فلا علاقة منظورة بين آ 13- 18 والمقطوعة التي سبقتها. ثم إن العبارة "هل فيكم" تبدأ عادة مقاطع تتوجّه إلى جميع قرّاء الرسالة (1: 5، 22، 23، 26؛ 2: 8، 9، 15، 18؛ 5: 13). ونعطي مثلاً على ذاك. كتب يعقوب: "هل فيكم من يتألم؟ فليصلِّ... هل فيكم مريض؟ فليدعُ كهنة الكنيسة وليصلّوا عليه" (5: 13- 14). ترد عبارة "هل فيكم" مرتين كما في 3: 13. ونتساءل: هل المعلمون وحدهم يتألّمون ويمرضون، أم جميع المؤمنين؟ وإذا تذكّرنا أن يعقوب يعود إلى العالم الحكميّ، نفهم أن هذه الحكمة تتوجّه إلى الجميع لا إلى فئة معيّنة.
ظنّ بعض المسيحيّين أنهم حكماء، فدعاهم الكاتب إلى سلوك يتوافق مع ظنّهم. "أفيكم ذو حكمة ودراية... فليدلّ أن أعماله متّسمة بوداعة الحكمة" (آ 13). فالنداء الآتي في بداية الآية بشكل سلبيّ، وطريقة وضع شخص أمامنا سوف ننساه سريعاً، يعلنان بشكل حيّ موضوعاً جديداً. هذا ما نجده في عدد من أسفار العهد القديم. مثلا، أش 50: 10: "من منكم يخاف الرب...؟ ليتوكّل على اسم الربّ". إن هذا النداء بشكل سؤال يمكن أن يقال: "إذا كان فيكم أحد...".
لا ترتدي لفظة "حكيم" (سوفوس) هنا معنى نجده في الأناجيل أو الرسائل البولسيّة: الحكيم على المستوى العقلي، الكاتب، معلّم الشريعة، الفيلسوف (مت 11: 25؛ 23: 34؛ روم 1: 14، 22؛ 1 كور 1: 19 ي). الحكيم هنا يقف على المستوى الأخلاقي كما يحدّده ابن سيراخ: يكرم الربّ، يحفظ شريعته، لا يقترف خطأ، وإن لم يكن ذا عقل ثابت (سي 19: 18- 27). فالحكيم بحسب يع هو صاحب السلوك المثاليّ. هذا ما نكتشفه في سياق النصّ. وهناك لفظة ترد مرّة واحدة في العهد الجديد: "ابستامون" (مختبر، صاحب دراية). نفهمها في ذات الخطّ الأخلاقي (تث 1: 13، 15؛ 4: 6؛ دا 5: 12: نجد اللفظتين معاً).
فبين قرّاء الرسالة، هناك من نسيَ هذا الحسّ الأخلاقي. اعتبروا نفوسهم حكماء لأنهم يمتلكون أو يظنّون أنهم يمتلكون بعض المعلومات الدينيّة. وأمرهم يعقوب أمراً: لا يغشّوا أنفسهم. ولا يغشّوا الآخرين. ليبرهنوا بسلوكهم. هذا ما فعله بولس أيضاً في كورنتوس. يجب أن يكون سلوكنا صالحاً (1 كور 2: 3، 7- 8؛ 4: 17)، أي أن يتجلّى في الأعمال التي تدلّ على إيمان حيّ (يع 2: 14 ي) وعلى رفض المحاباة (2: 1 ي). في أعمال تحمل المحبّة والسلام (3: 13- 17). ونتذكّر بطرس الذي طلب من المسيحيّين العائشين وسط الوثنيّين سلوكاً يجعلهم يمجدّون الله حين يرون أعمالكم الحسنة (1 بط 2: 12؛ رج 3: 16).
والأعمال المطلوبة من ذاك الذي يرى نفسه حجماً، تتحقّق في وداعة الحكمة. قال لنا يعقوب في 1: 21 إن الوداعة تنفي كل عنف. وهو يقولي لنا الآن إنها ثمرة الحكمة. وفي آ 17 سيحدّد ما تتضمّن. أنشد العهد القديم وداعة الربّ وتجلّياته (مز 31: 20؛ 86: 5؛ 109: 103؛ أم 24: 13؛ سي 24: 20؛ حك 8: 1؛ 16: 20- 21)، وبيّن أن الحكمة تعني أن نرى كل شيء في عين الله. ينتج عن كل هذا أن الوداعة تجري من الحكمة كالماء من النبع، وتفرض نفسها على من يسمّي نفسه حكيماً. يقول سي 3: 17 لتلميذه: "أتمَّ يا ابني أعمالك بوداعة" (براوتس). ويرينا التقليد الانجيلي يسوع "الوديع والمتواضع القلب" (مت 11: 29). وهو يطوّب الودعاء (مت 5: 4)، ويكشف للبشر وداعة الله (مت 12: 18- 21= أش 42: 1- 4). وأعلن بولس أن الوداعة هي ثمرة الروح (5: 13)، وهي صفة من صفات المسيح (2 كور 10: 1) وتلاميذه (غل 6: 1؛ كو 3: 12؛ أف 4: 2؛ رج 1 بط 3: 16: بوداعة واحترام). وهكذا تتجذّر وصيّة يعقوب عن الوداعة في التقليد البيبلي تجذّراً عميقاً، وتتوافق كل الموافقة مع التقليد المسيحيّ.

2- جذور الحكمة الكاذبة وثمارها (3: 14- 16)
تدلّ القاعدة المذكورة هنا حول "تمييز الأرواح" أن الثمار الرديئة التي ترتبط بحكمة "كاذبة" عند بعض المسيحيين، تحمل جذور الشرّ، جذور الشيطان. فالحسد والكبرياء والافتخار بالذات، وروح المنازعة، كل هذا يتعارض وروح الله. وهذا ما يصفه الرسول بـ "الشهواني". هذا ما يسبّب الشرّ في العمل، في مواقف الجماعة، في حياة كل عضو من الأعضاء. فكل ما يعارض المحبّة، يعارض الحقيقة. وكل ما يخرج من روح العالم المنحطّ، يؤثّر على المؤمنين تأثيراً مدمّراً. إذن، من افتخر بحكمته افتخاراً ينتقد الآخرين ويحتقرهم، صار عامل تشويش وانقسام في الكنيسة، و"كذب على الحقّ". ودلّ في نظر الله على أنه "خادم الشيطان".
أجل، يبتعد عدد من المسيحيّين عّما تفرضه الحكمة. بل إن استعداداتهم تعارضها. وهذا ما يدلّ على الخطأ الذي فيه يقيمون. قال يعقوب: "إن كان لكم في قلوبكم غيرة مرّة وروح منازعة، فلا تفتخروا، ولا تكذبوا على الحقّ" (آ 14). ترك يعقوب ذاك الشخص الذي ناداه في آ 13، وتوجّه الآن إلى الجماعة. ترك طريقة السؤال وأخذ بالشرط: "إن كان". فكأني به يقوله: "في الواقع، في قلوبكم غيرة وحسد".
تدخّل يعقوب ضدّ مثل هذه العقليّة، فدلّ على أنه عالم بما في هذه الجماعات. هناك غيرة يُلامون عليها لأنها مرّة (بكروس)، لأنها تحمل العداء للآخرين (1 كور 3: 3؛ روم 13: 13). مثل هذه الغيرة تبتعد كل البعد عن تلك التي يمتدحها الكتاب المقدس لأنها حميّة من أجل الخير (1 مل 19: 10، 14؛ سي 48: 2؛ أع 21: 20؛ يو 2: 17؛ روم 2: 8). أما النتيجة فدمار سيكشفه يعقوب في آ 15. بعد هذا، هل نستطيع أن نفتخر، أن نعتبر نفوسنا حكماء؟ إن فعلنا كنّا من الكاذبين.
فالحكمة التي يفتخر بها مسيحيّون يعرفون المرارة والمنازعة، لا علاقة بها بالحكمة الحقيقيّة. بل عكس ذلك. "هذه الحكمة ليست منحدرة من فوق، بل هي أرضيّة، حيوانيّة، شيطانيّة" (آ 15). هناك طريقان للدلالة على أصل هذه الحكمة الكاذبة وطبيعتها العميقة، طريق سلبي يقول: انها لا تأتي من فوق، من العلاء. وطريق إيجابي يقول في ثلاث ألفاظ: إنها تأتي من موضع آخر. وهكذا نكون في إطار حكميّ.
شدّد التقليد البيبليّ على الأصل الإلهيّ والسماويّ للحكمة (أم 2: 6؛ 8: 22 بـ 31؛ سي 1: 1- 4؛ 24: 3 ي؛ حك 7: 25- 26؛ 9: 4 ي). هي "من فوق" (انوتان) كما في 1: 5 حيث أكّد الكاتب على أصلها، وأوصى الذين لا يملكونها بأن يطلبوها من الله في صلواتهم. مثل هذه الحكمة التي افتخر بها هؤلاء، ليست سماويّة، بل "أرضيّة" (أبيغايوس)، أي يلهمها البشر لا الله. وقد دلّت الكنيسة الأولى على هذا التعارض بين ما يأتي من الله، من العلاء، من السماء، وبين ما يأتي من البشر، من الأرض (فل 2: 10؛ 3: 19 ي؛ كو 3: 2؛ يو 3: 12، 31؛ 8: 23). وحين نعلن أن هذه الحكمة هي أرضيّة أو بشريّة، نجعلها أدنى من السماويّة، ولكننا لا نعتبرها رديئة. ولكن السياق يجعلنا نعتبرها كذلك.
فهذه الحكمة هي "حيوانية" (بسيخيكي). على مستوى الكائن الحيّ. ما يعارض الروح والعقل الذي ينيره الله. يسمّي يهوذا هؤلاء المسيحيّين: مسبّبي الفوضى (آ 9). وبولس يعتبر أنهم ما زالوا أطفالاً، فما استطاعوا أن يدركوا مخطّط الله الخلاصيّ (1 كور 2: 14- 16). ويدعوهم "جسدانيين" لأنهم يعيشون عيشاً بشرياً في الغيرة والمنازعة (1 كور 3: 3).
وأخيراًَ، يصف يعقوب هذه الحكمة بأنها "شيطانيّة". آتية من الشيطان. متأثّرة بعالم الشيطان مثل اللسان (3: 6؛ 4: 7؛ مت 6: 13). تشبه عالم الشرّ. وذلك مثل الإيمان الذي لا أَعمال فيه فيشبه عالم الشيطان (2: 19).
وبعد أن وصف الكاتب حكمة المسيحيّين هؤلاء بكاذبة وأرضية وشيطانيّة، برهن بأن الأمر هو كذلك، فقال: "حيث تكون الغيرة (المرّة) والمنازعة، فهناك التشويش وكل أمر رديء" (آ 16). فالجماعات التي يعيش فيها مثل هؤلاء "الحكماء" لا تعرف السلام، بل البلبلة والفوضى. فاللفظة "اكاتاستاسيا" تدلّ على غياب كل ثبات واستقرار (رج 1: 8؛ 3: 8). وهنا، نحن أمام فوضى أخلاقيّة وغياب السلام. قال بولس في هذا المجال: "ليس الله إله تشويش، بل إله سلام" (1 كور 14: 33). وفال في 2 كور 12: 20: "بينكم خصومات وحسسد ومقاضيات ومنازعات واغتيابات ونمائم وانتفاضات واضطرابات".
ومع التشويش والفوضى، نجد "كل أمر رديء". كل ما يعارض الخير والصلاح (2 كور 5: 10؛ روم 9: 11). لا يوضح الكاتب هذا الشرّ الذي يتحدّث عنه. ولكننا نستطيع أن نتخيّله إنطلاقاً من آ 17 التي تتحدّث عن شرور تستبعدها الحكمة الحقّة: غياب الرحمة والحلم. المرارة والمحاباة.

3- جذور الحكمة الحقّة وثمارها (3: 17- 18)
فالحكمة التي تُعطى "من فوق"، التي يعطيها الله، تستطيع أن تتمّ إرادة الله المحبّة. هي تنبثق من الله، وتستطيع أن تخدم عمل الله ومقاصده في العالم. أن تعمل من أجل نموّ الكنيسة من الداخل ومن الخارج. هي ليست مشغولة بالترفّع والافتخار وتبرير الذات، بل بإتمام وصايا الله داخل جماعة المؤمنين. وفي هذه الخدمة تحمل الحكمة الحقّة ثمارها.
لا يستطيع الانسان أن يعيش بحسب الحكمة بذاته ولذاته. فهذه الإمكانيّة تأتي من الله وتُعدّ لتكون في خدمة الله. والحكمة التي نبحث عنها بقوانا ومن أجل منفعتنا الخاصة، تبقى ناقصة ولا تحمل ثماراً يرضى عنها الله. تنقصها القوّة الحقيقية والسلوك الحقّ والهدف الحقيقيّ. قال بولس الرسول: "إن حسب أحد منكم أنه حكيم في هذا الدهر (العالم) فليصر جاهلاً ليصير حكيماً. فإن حكمة هذا العالم جهالة عند الله" (1 كور 3: 18- 19).
أراد الكاتب أن يساعد قرّاءه على نزع القناع عن حكماء كاذبين في كنائسهم، وأن يدلّهم على طريق العودة والارتداد، فرسم لوحة عن الحكمة الحقّة، الآتية من الله. ما قال شيئاً عن طبيعتها ولا عن تعليمها، بل ذكر مزاياها فدلّ على أن كلامه هو عملّي بالدرجة الأولى (آ 17).
أول ما يميّز الحكمة الآتية من الله، هو نقاوتها. لا طهارة على مستوى الشريعة، لا طهارة على مستوى الأفكار والنوايا، بل الابتعاد عن كل انحراف أخلاقيّ، والتوافق التام مع قداسة الله. نقرأ في 4: 7- 8: "إخضعوا لله... اقتربوا إلى الله... طهّروا أيديكم أيها الخطأة، وفّقوا قلوبكم يا ذوي النفسين". وكان قد قال في 1: 27: "التديّن الطاهر الزكي في نظر الله الآب هو... صيانة النفس من دنس العالم". هذا ما أراده يعقوب من قرّائه: نبذ كل نجاسة ورداءة من الوداعة.
وهناك مزايا أخرى ترتبط بالنقاوة الأخلاقيّة، فتساعدنا على التعرّف إلى الحكمة الحقة: هي مسالمة، حليمة، سهلة الانقياد... هنا نتذكّر لوائح الفضائل والرذائل في روم 1: 28- 31؛ غل 5: 19- 21؛ 1 كور 6: 9- 10. وفي فل 4: 8 أورد بولس ثماني مزايا: "حق، كرامة، عدل، نقاوة، لطف، شرف، كل ما هو فضيلة، كل ما يُمتدح".
الحكمة الآتية من فوق هي مسالمة (أم 3: 17: طرقها طرق سلام؛ رج روم 8: 6). هي حليمة تعرف الصبر والهدوء، وتبتعد عن كل إفراط (فل 4: 5؛ أع 24: 4؛ 2 كور 10: 1؛ 1 بط 2: 18). هي سهلة الانقياد. تثق بالآخرين. تقتنع بسهولة. هي مليئة بالرحمة والثمار والطيّبة. فالحكمة الحقّة والديانة الحقّة والايمان الحقّ تدلّ عليها الأعمال الصالحة. هذه الحكمة لا تحابي، أي لا تحكم على الآخرين. ولا ترائي، ولا تعرف الخبث والكذب فتقول ولا تفعل، بل تعيش في الصدق.
ونقرأ في آ 18: "ثمر البرّ يُزرع في السلام، لأجل فاعلي السلام". ثمر البرّ هو البرّ وهو الحياة في القداسة، الحياة بحسب إرادة الله ووصاياه. فالذي يتصرّف بهذا الشكل، يسير بحسب مثال المسيح: لقد صار خادمَ الجميع من أجل خلاص البشر. ومثل هذا الحكيم لا ينتج إلاّ الثمار الصالحة. والصالح هو ما يخدم السلام وبناء الكنيسة. والحكماء الحقيقيّون هم الذين يضعون السلام في جماعاتهم فيبتعدون عن المنازعات والتحزّبات وكل موقف متعصّب. يعرفون الكلمة الصادقة والأخويّة التي تنبع من قلب مسؤول ومحبّ. ويعرفون العمل المتجرّد الذي هو خدمة حقيقية للقريب لا تتوقّف.
مثل هذا البذار يحمل ثمراً يدوم. فقد قال الرب: "طوبى لفاعلي السلام فإنهم أبناء الله يُدعون" (مت 5: 9). فالله الآب نفسه يرى في هؤلاء الحكماء أبناء حقيقيّين له حين يُخضع أعمال الجميع لدينونته. هذا البذار يُزرع في السلام. فيكون السلام سبب البرّ. وهذا البرّ هو نتاج من أجل فاعلي السلام.

خاتمة
بعد أن وجّه يعقوب كلاماً قاسياً إلى المعلّمين، قدّم مديحاً حول الحكمة التي هي ينبوع كل تعليم. وقابل بين نمطين من الحكمة: الحكمة الكاذبة التي هي أرضيّة، حيوانيّة، شيطانيّة. إنها ترتبط بعالم الخطيئة والكذب، وتُعارض الحقّ كل المعارضة. والحكمة الصادقة التي هي مزيّة الانسان الكامل. هي تأتي من فوق، شأنها شأن كلمة الحق، فتحمل ثمار السلام والرحمة والوداعة. وهكذا نبقى مع يع في قلب التحريض الأخلاقيّ البعيد عمًّا نجده من تعليم بولسي حول الحكمة الحقيقيّ كما في 1 كور 1: 18- 2: 15.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM