الفصل الثالث والثلاثون: الحب والامانة في الكتاب المقدس

الفصل الثالث والثلاثون
الحب والامانة في الكتاب المقدس

كيف نتكلّم عن الزواج إن لم نتكلّم عن الحبّ والامانة في الزواج؟ هذا ما نتوسّع فيه غير طالبين الدراسات السيكولوجيّة، بل النصوص الكتابيّة التي تدخلنا في الجوّ منذ البداية حين تقول لنا: "يترك الرجل أباه وأمه ويتّحد بامرأته فيصيران كلاهما جسداً واحداً" (تك 2: 24). هذه هي شريعة الوجود: نترك البيت الأبوي لنؤسّس بيتاً جديداً. وفي تلك التي هي "عظم من عظمه ولحم من لحمه" (تك 2: 18)، وجد الرجل النفس التي تؤاخيه، التي "تكون عوناً بإزائه" (تك 2: 18). وتسيطر عليه عاطفة عميقة: لقد "التصق"، "ارتبط بامرأته" حتى ترك الأسرة التي ولد فيها وكانت النتجية: "الاثنان يصيران جسداً وحداً". لا شكّ في أن هناك إتحاداً على مستوى الجسد فيه يتم الواحد في الآخر. ولكن هناك جمعاً بين حياتين، بين وجودين، يساعد وجود كل واحد على تفتّحه الكامل وتألّق شخصيته.
نتوقّف في هذا المقال عند الأمانة الصعبة والتي لا يستطيع الانسان أن يعيشها لولا قوة الله. ثم عند الأمانة التي جدّدها الله في شخص يسوع المسيح.

1- الأمانة الصعبة
جعل الربّ من الزواج نظاماً سامياً، فيه يكون الرجل والمرأة على مثاله. فالرجل وحده ليس على مثال الله ولا المرأة. بل الرجل والمرأة معاً. وكان الرجل للمرأة والمرأة للرجل من أجل حبّ يبحث عن المطلق، يبحث عن العطاء، يبحث عن الله. ولكن أين صار هذا النظام؟
أ- وانحط هذا النظام
يعرف العهد القديم أن البشر إجمالاً لم يحقّقوا المثال الأصلّي للنظام الزوجيّ. لن نتحدّث عن الفوضى في المجال الجنسي كما عرفها العالم الوثني من رجل يبيع امرأته، ورجل يتجامع مع ابنته. لن نتكلم عن البغاء السري في كل معابد بعل وغيره من الآلهة. يقول عنهم بولس في الرسالة إلى رومة (1: 25 ي): "أسلموا إلى أهواء الفضيحة. الاناث غيرّن الاستعمال الطبيعي، وفعلَ الذكور بالذكور الفحشاء". كل هذا ستشجبه شريعة موسى فتقول مثلاً: "لا تتجامع مع زوجة قريبك. لا تضاجع الذكر مضاجعة النساء. إن تجامع رجل مع بهيمة فليقتل قتلاً، والبهيمة أيضاً فافتلوها" (لا 18: 20- 23؛ 20: 15- 16). وما يقال عن الرجل يقال عن المرأة.
واتسع الشقّ بين الزواج الأحادي حيث يكون لكل رجل امرأته ولكل امرأة زوجها كما يقول القديس بولس (1 كور 7: 2) في خط سفر التكوين، وبين تعدّد الزوجات الذي سيعرف أشكالاً مختلفة. لقد دخلت الخطيئة إلى العالم فحملت معها ثمار الموت. كل هذا بدأ مع لامك المتوحّش (تك 4: 19). كان له زوجتان. وعرف الانتقام عنده صورة مريعة: قتلت شخصاً لأنه جرحني. وانتقمت 77 مرة.
وسوف نرى لإبراهيم أكثر من امرأة: سارة، هاجر، قطورة. وليعقوب راحيل، ليئة، زلفة، بلهة. أما داود فسيكون له ما يقارب العشرون. ولن نتحدّث عن سليمان وحريمه اللواتي تعدّ بالعشرات (1 مل 11: 1- 3). ولكن سفر التثنية سيحكم عليه، لأنه أضاع ربّه وأضاع أساس مملكته (تث 17: 17).
نسي العالم القديم العلاقات الشخصية بين الرجل والمرأة، فشدّد على النسل الذي يذكر الوالد بعد موته. أراد إبراهيم نسلاً له، فأخذ جاريته. وكذلك فعل يعقوب. وكذا يُفعل اليوم، ويا للأسف، حيث الرجل يفرض سلطته على المرأة ولو كان النقص منه. في هذا الاطار يسيطر الحسد والبغض. إنحسدت سارة من هاجر التي هي أمتها، فخطّأت إبراهيم. وانحسدت راحيل من أختها التي ولدت ليعقوب الصبي بعد الآخر، بينما ظلت هي عقيمة.
ثم كيف نتخيّل أن يقسم الانسان قلبه بين أكثر من إمرأة، هذا إذا بقي له قلب؟ كيف لا يفضّل الواحدة على الأخرى، كما فضّل يعقوب راحيل على أختها ليئة، والقانة (والدة صموئيل) حنّة على ضرّتها فننة. وهنا يدبّ الخلاف فيصبح البيت جحيماً. إلاّ إذا كانت النساء "جواري" يستحقّقن الضرب ويتوجّب عليهن حياة العبودية في خدمة الرجل وأهوائه وأولاده.
لا نستطيع هنا أن نتحدّث عن الأمانة الزوجية. ثم هناك تعليمان خلقيان مختلفان: واحد يتوجّه إلى الرجل والآخر إلى المرأة. عليها أن تكون بكليّتها لزوجها والويل لها إن خانته. أما الرجل فيسمح له بأن يأخذ أكثر من امرأة، ويعاشر المومسات (تك 38: 15) ويعاشر سبايا الحرب (تث 21: 10). أين هي العلاقة بين شخصين صارا كلاهما جسداً واحداً؟ لا مجال لحبّ يتوق إلى المطلق. كيف يعود الزواج إلى نقائه الأوّل بعد أن وصل إلى الطريق المسدود؟
ب- وتحطّم رباط الزواج
يتحطّم رباط الزواج حين يبحث كل من الرجل والمرأة عن اللذّة من أجل اللذة، دون أن يرتبط عملهما بشريعة الله، دون أن يرتبط بماهيّة الحبّ الذي هو أقوى من الموت. فأسفار الشريعة حدّثتنا عن الذي يغوي فتاة عذراء (خر 22؛ 15- 16). كما أن كتاب صموئيل يُخبرنا كيف زنى داود مع بتشابع، وكيف اغتصب أمنون تامار، أخته من أبيه، فكرهها بعد أن أحبّها (1 صم 11: 2- 4؛ 12: 10- 11).
ويحدّثنا الكتاب عن المرأة التي تحاول أن تغوي رجلاً. هذا ما حاولت زوجة فوطيفار أن تفعل مع يوسف بن يعقوب. قالت له: "ضاجعني". فأبى وقال لمولاته: "كيف أصنع هذه السيّئة العظيمة وأخطأ إلى الله" (تك 39: 7- 9)؟ وهكذا فعلت تامار مع أمنون الذي طلب أن يضاجعها. قالت: "لا تفعل هذه الفاحشة" (2 صم 13: 11- 13). لم يسمع أمنون لها بل اغتصبها. وانتقمت إمرأة فوطيفار من يوسف، فوشت به إلى زوجها الذي وضعه في السجن. وقد نقول: "هذا جزاء الفضيلة". "إن جميع الذين يريدون أن يحيوا بالتقوى في يسوع المسيح يُضطهدون" (2 تم 3- 12). ولا ننسى شمشون الذي أغوته دليلة وجعلته يخون عهده مع ربّه (قض 16: 1- 21). كان شعره علامة تكريسه للربّ، فسهّل لدليلة أن تقصّه له.
هذه الأخبار النموذجية جعلت الأسفار الحكمية تعطي النصيحة للشبّان فلا يُؤخذون بحبائل الزنى: "إن تعلّمت أقوالي يا بني، تنجُ من المرأة العاهرة، من الفاجرة المعسولة الكلام التي تركت رفيق صباها ونسيت عهدها له" (أم 2: 16- 17). وقال أم 5: 3 ي: "شفتا العاهرة تقطران العسل، وكلامها ألين من الزيت. أما عاقبتها فمرّة كالعلقم، ومسنونة كسيف له حدّان... أبعد (يا ابني) طريقك عن تلك المرأة. ولا تقترب من باب بيتها" (رج 6: 24- 27؛ سي 9: 1- 9).
ويُقدّم لنا سفر الأمثال (7: 6- 23) مشهداً من الغواية يقع فيه شاب غرق في حبائل إمرأة لها خبرتها البعيدة في عالم الجنس. وتقول له: "تعالَ نرتوي حباً إلى الصبح وننعم باللذائذ. زوجي غائب عن البيت... ولا يعود قبل أيامٍ كثيرة... فجذبته بكثرة مفاتنها، ودوّخته بمعسول كلامها، فمشى وراءها في الحال، كثور يُساق إلى الذبح، أو غزالٍ يسير إلى الأسر... فاسمعوا لي أيها بالأبناء وأصغوا إلى كلمات فمي. لا تمل قلوبكم إلى طرقها، وفي مسالكها لا تشردوا. كم أوقعت بأولاد الحلال وجميع ضحاياها من الأقوياء".
شهوةٌ دون التزام تجاه الآخر. علاقة بين شخصين تنحصر في لذّة الشاب والشابة في طريق تقود إلى الموت. هل هذا هو العون الذي خلقه الله حين خلق المرأة؟ ينقاد الشاب للمرأة التي "بيتها طريق إلى عالم الاموات وهبوط إلى دهاليز الموت" (أم 7: 27). هل هذا هو معنى "حواء"؟ إنها أم الأحياء. وهنا يرتسم في الأفق طيف حواء التي تقدّم إلى آدم ثمرةً طيبة للمأكل وشهية للعيون (تك 3: 6). ترك مثل هذان الشخصان شريعة الله، وقرّرا بمعزل عن الله ما هو خير وما هو شرّ. أكّدا على حرّيتهما بعد أن صارا "كالآلهة". وبدا العمل الذي يجعلهما جسداً واحداً وروحاً واحداً، بدا فقيراً جداً، فخسر معناه وصار مسخاً (1 كور 6: 16).
وهكذا ينقطع رباط الزواج، وهكذا يقسو قلب الرجل على امرأته والمرأة على زوجها. وهكذا حدّدت شريعة موسى ظروفاً ينفصل فيها الرجل عن امرأته إن كرهها (تث 24: 1- 4). وهكذا يُدمّر البيت العائلي. لن نبحث عن الاسباب التي نجعلها كبيرة أو صغيرة حسب ميولنا، بل نرى نتائج خيانات متعدّدة، صغيرة كانت أم كبيرة. نتائج حياة مستقلّة يعيشها كلّ من الزوجين، فلا يريان أمامهما إلاّ الطلاق. هما يبحثان عن راحتهما وإن تمزّقت العائلة، وضاع الأولاد، وامتلأ قلب الجميع بالحزن. هما يبحثان عن راحتهما حتى ولو داسا وصيّة الله. جعلهما الله واحداً. فأراد أن يكونا اثنين ويبتعد الواحد عن الآخر.

2- الأمانة المجرّدة
هذا هو الوضع الذي جُعلت فيه الخطيئة البشرية. لقد أفسدت جميع القيم. جرحت الكائن الحميم في الانسان. أصابت في الصميم الرجل والمرأة في علاقتهما الأساسية. والشفاء من هذا الجرح العميق ليس في مقدور الانسان. تُرك الانسانُ العتيق وحده، فسار في انحطاط لا رجوع منه. ولكن هل يترك الله الانسان بدون خلاص؟ كلا، فهو بيسوع المسيح سيجدّد البشرية وبالتالي سرّ الزواج. هو الإله الأمين وسيعلّمنا طريق الأمانة.
أ- أمانة الانسان
رغم أن الانسان مقسّم بين الشرّ الذي لا يريده ويفعله، والخير الذي يريده ولا يفعله، ورغم إطار الأسرة المتعدّدة الزوجات، ورغم النقص في العلاقات بين الرجل والمرأة والطلاقات المتعددة، هناك حبّ حقيقي يولد في المجتمع ويستمرّ مع الزمن. لقد ظلّ إبراهيم أميناً لسارة ولم يطلّقها رغم أنها عاقر. وأحبّ إسحق رفقة حبّاً تعزّى به عن فقد أمه (تك 24: 67). ويوسف العفيف تزوّج امرأة واحدة (تك 41- 45). وكان القانة يهتم بزوجته العاقر فيقول لها: "ألست أنا خيراً لك من عشرة بنين" (1 صم: 8)؟ وإن قالت راحيل ليعقوب إنها تريد ولداً، فهي تريد ولداً منه وهكذا يكتمل حبّهما (تك 30: 1).
وينشد سفر الأمثال (4: 15- 19) عظمة الحبّ المستمر وقلب المرأة الأمينة، وتأثيره على تعلّق الرجل بامرأته. "إمرأتك ماء مباركة نازلة في وسط بئرك. فلو فاضت الينابيع إلى الخارج، كسواقي مياه في الساحات، فلتكن لك دون سواك ودون أي من الآخرين. هكذا يبارك نسلك وتفرح بامرأة شبابك. فتكون لك الظبية المحبوبة والوعلة الحنون الصغيرة. يرويك ودادها كل حين، وبحبّها تهيم على الدوام".
وتُعطى لنا أمثلة عن هذه الأمانة المُعاشة في قصة سوسن التي قاومت ببطولة الشيخين المتصابيين. قالا: "نحن مولعان بك، فوافقينا وكوني معنا كما نريد وإلاّ نشهد عليك...". أجابت: "لا حيلة لي معكما... ولكن خيرٌ لي أن لا أفعل (السوء) ثم أقع في أيديكما ضحيّة بريئة من أن أخطأ أمام الربّ" (دا 13: 20- 23). زوجتا أيّوب وطوبيت ظلّتا على الأمانة لزوجيهما، ولكنهما دلّتا على سوء طباعهما. وطوبيا وسارة يُشكّلان الزوجين المثاليين الذين يتجاوبان ومخطّط الله. حين يتجذّر الحبّ في حياة روحيّة صادقة، يستطيع أن يعبر الزمن ويدوم إلى الموت. بل هو يتغلّب على الموت نفسه. هكذا ظلّت يهوديت أمينة لزوجها الذي مات ولم تطلب زوجاً غيره (8: 4- 6؛ 16: 22). لماذا؟ لأنها كانت تخاف الله. ستكون مثالاً في العهد الجديد للأرامل المكرّسات لله بجانب العذارى.
ب- أمانة الله
مثل هذه الأمانة عند البشر تجد سندها في الله. إنّها تتجاوز نظرة الأخلاق والحقوق، فتدخلنا إلى واقع الله. فحبّ الرجل والمرأة لا يصل إلى ملء معناه إن حمل فقط إلى الزوجين المساعدة المشتركة، وتفتّح الواحد على الإخر، مع الولد الذي هو علامة مستمرّة لهذا التّفتح، والذي هو هنا لأن الرجل والمرأة صارا جسداً واحداً. هو يصل إلى ملء معناه حين يعود إلى الحب السامي الذي هو صورة منظورة عنه، حين يعود إلى حبّ الله.
منذ العهد القديم، تحدّث الانبياء عن علاقة الله بالبشر في صورة الزواج. هناك الزوجة الخائنة التي تدلّ على الامّة التي تخون ربهّا في العبادات الوثنية. وهناك الطلاق: "لم تعد امرأتي، ولم أعد زوجها" (هو 2: 4). وهناك نسيان مودّة الصبا (إر 2: 1). ولكن الله هو الله وليس إنساناً. فإن نسته زوجته الخائنة فهو لا ينساها (أش 49: 15). فهو لا يتركها إلاّ ليجعلها تعي الشرّ الذي صنعته وتتوب عنه فتعلن: "أريد أن أعود إلى زوجي الأول، لأن حالي كانت خيراً مما هي عليه الآن" (هو 2: 19).
الوعد الذي أعلنه الله الأمين يُلزمه بالآخر إلزاماً لا رجوع عنه. قال: "هجرتك لحظة، وبرحمة فائقة أضمّك. في هيجان غضب حجبت وجهي قليلاً عنك. وبحبّ أبدي رحمتك. هكذا قال فاديك الربّ" (أش 54: 6- 8).
لهذا يختلف الربّ عن الزوجين اللذين لا يعرفان أن يغفرا. فهو يستعيد الزوجة التي تركته، ويعاملها كما في أيام صباها: "لذلك سأفتنها وأجيء بها إلى البرية وأخاطب قلبها" (هو 2: 16).
لقد انقلبت الأخلاقيّات البشرية انقلاباً تاماً. حين يُترك الزوج ويُهمل، فالحب الذي فيه (أو فيها) يتحوّل إلى غيظ ويطلب الانتقام. أما عند الله، فهو يستمرّ وبنتظر، وفي النهاية ينتصر. فالاعراس الجديدة تجعل في قلب الزوج (أو: الزوجة) الذي غفر له (لها) ما نقصه في الماضي: الحق والعدل، الحنان والحب، الامانة والثبات، ومعرفة لحقيقة الآخر تؤمّن الاستمرار (هو 2: 21- 22). هذا ما يريده الله للبشريّة الخاطئة. دعاها الله منذ البداية إلى الحبّ، وهو ما زال يحبّها حتى وإن انفصلت عنه.
هذا هو مثال الحبّ الذي يقدّم للبشر. كل حبّ على الأرض ينبع من قلب الله، وهو يسير إلى اكتمال بقدر ما يقترب من المثال الذي يقدّمه الله. حبّ دائم. حبّ تملأه التضحية والعطاء. حبّ فريد. وهكذا نصل إلى سّر الزواج الذي لا يكون جوهره فقط الكلمة التي تلفّظ بها العروسان يوم زواجهما، بل زواج المسيح مع كنيسته، زواج الله مع البشرية الخاطئة.
ج- في المسيح يسوع
"أيها الرجال أحبّوا نسائكم كما أحبّ المسيح الكنيسة" (أف 5: 25). إن النصيحة التي أعطاها بولس الرسول إلى أهل أفسس ليست فقط مشورة أخلاق مسيحيّة جاء المسيح يزيد في قيمتها. فالرسول يعرف أنه منذ زمن المسيح اتخذ النظام الزوجي بُعداً سرياً لم يُعرف من قبل. فالكنيسة التي نحن أعضاؤها هي جسد المسيح وعروسه. وإن كان الرجل والمرأة يتزوّجان فيصبحان "جسداً واحداً"، فعلى مثال الوحدة التي تربط المسيح وجسده معاً، المسيح وعروسه، المسيح وكنيسته. والزواج هو الرمز لهذه الوحدة التي تؤسّس كل تدبير الفداء. وهذه العلاقة بواقع علوي تشكل عمق هذا السر الذي هو علاقة معاشة بين شخصين يتكاملان في عطاء من الحبّ يلزم وجودهما كله. غير أن هذه العلاقة مهدّدة بالانحطاط. لهذا لا بد من عيشها في يسوع المسيح. فترتفع عندئذ إلى مستوى الواقع الكنسي الذي هو علاقة حسيّة لحضورة الله على الأرض (أف 5: 31- 32).
إن العلاقة الشخصيّة بين الزوجين تجد هنا توازناً جديداً على مستوى الطبيعة التي جدّدتها النعمة. فالزوج يبقى رجلاً، والزوجة تبقى امرأة داخل هذا الكائن الجديد الذي هو سر الزواج. ووظائف كل منهما تبقى على ما هي. وموقف الاثنين في الحب المتبادل يحافظ على أشكاله الخاصة لدى الرجل والمرأة. لهذا حين قدّم بولس مثال العلاقات بين الزوجين المسيحيين، تكلّم عن "الخضوع" (أف 5: 22- 24) لدى المرأة التي "تهاب رجلها" (أف 5: 33). ولكن الرجل لم يعد ذاك الذي يسود ويتسلّط (تك 3: 16)، بل ذاك الذي "يحبّ" ويستعد مثل المسيح أن يبذل نفسه من أجل زوجته. لم تعد المرأة كائن رغبة يغوي ويميل بالرجل عن الله (تك 3: 6- 12). بل أخذت صورة الكنيسة في علاقتها مع المسيح (أف 5: 24).
وهكذا يستعيد الحبّ المتبادل نظامه الخاص بعد أن يُخلق من جديد في المسيح. في هذا المنظار الجديد، لم يعد من تساؤل حول استمراريّته عبر الزمن: فحبّ المسيح لكنيسته الذي وجد على الصليب ذروته وتكريسه، هو واقع أزلي. وكذلك نقول عن حب الكنيسة- العروس للحمل عريسها (رؤ 21: 1- 4). إذن تتضمّن شريعة الزواج المسيحيّة عودة تامة إلى المثال الأوّلاني، وإلغاء للتجاوزات التي احتفظت بها الشريعة القديمة "بسبب قساوة قلوبكم": لا تعدّد زوجات بعد اليوم. لا طلاق بعد اليوم (مت 19: 1- 9). لا خيانة زوجيّة ولا زنى من أي نوع كان. "أما تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء المسيح، أفآخذ أعضاء المسيح وأجعلها أعضاء زانية؟ حاشا. أولا تعلمون أن من اقترن بزانية يصير معها جسداً واحداً؟ أما الذي يقترن في الرب (في زواج تحت نظر الربّ) فيكون معه روحاً واحداً" (1 كور 6: 15- 17).
لقد اجتاحت قوة النعمة التاريخ. وروح الله يسكن في البشر. وهو يدفع الرجل والمرأة ليعطيا التزام حبّهما وجه الأبديّة، فيفلت من بلى الزمن. فالتدبير الاسراري الذي يشاركان فيه يجعل أبديّة الله حاضرة في قلب الزمن. فالحب الذي يتحقّق في هذا العالم لا يعود من هذا العالم. بل هو انتُزع منه بشكل جذريّ على مثال الانسان الذي يجعله العماد يموت للخطيئة ليصير كائناً جديداً في يسوع المسيح. فلا يبقى للأزواج إلاّ أن يعيشوا في الواقع اليوميّ حقيقة النعمة هذه التي تشارك في "العالم" الآتي وتتضمّن قيمته الخفيّة.

خاتمة
إن حبّ الزوجين المسيحيين سيعرف المحنة، ولكن المحبة التي ينبوعها في يسوع المسيح، تتيح له أن يبقى كما هو: عطاء وتفانٍ، استعداد تام لتقدمة الذات من أجل خلاص الآخر وفدائه. وهكذا يتقدّس الزوج غير المؤمن بالمرأة المؤمنة، والمرأة غير المؤمنة بالزوج المؤمن. قد يصطدم أحد الزوجين بالمحنة. قد تبرد المحبّة في قلبه. قد يقوده البحث عن أنانيته ولذّته الشخصية إلى الخيانة. هذا هو الواقع المؤلم الذي نعرفه فينا وحولنا.
إذا توقّفنا على مستوى تنظيمات العهد القديم، وجدنا الجواب السريع: فأي زوج يستطيع أن يتجاوز غضبه حين لا يعود الآخر يحبّه، حين يكون الآخر قد جرح هذا الحب؟ ولكن الحبّ المسيحي يجد في مثال المسيح إمكانيّة الغفران. فتعطيه نعمةُ الله إمكانيّة الفداء التي لا يفهمها العالم. إن الحبّ الذي هو أقوى من الموت (نش 8: 6) يشارك في قدرة يسوع الذي قال: "أنا غلبت العالم".
لا نجاح لحبّ بشري منغمس في الزمن، في عالم يسيطر عليه الشرّ، إلاّ بهذا التجديد الذي يحمله المسيح. فكل أمانة حقيقيّة يعيشها الزوجان، تستند في الواقع إلى نعمة المسيح. أجل الحب والأمانة قيمتان مهدّدتان. وانجذاب الانسان نحو الجسد (بما فيه من ضعف) ونحو الروح هو وضع نعيشه كل يوم. أجل هناك خبرة معروفة تكشف لنا ضعف بشريتنا والاخطار التي تهدّدنا. ولكن هناك إيضاً خبرة الإيمان الروحيّة التي يعيشها المسيحيون فتكشف لهم قدرة روح الله. حينئذٍ تجد أمانتهم في أمانة الله أساسها وانطلاقتها لخلق عيلة هي كنيسة الله على الأرض.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM