الفصل الرابع والعشرون: المعمودية والقيامة ورموز الماء

الفصل الرابع والعشرون
المعمودية والقيامة ورموز الماء

كانت الكنيسة الأولى، وما زالت كنائس عديدة اليوم، تمنح سرّ العماد للبالغين الذين استعدُّوا خلال الصوم، تمنحهم سرّ العماد ليلة عيد الفصح. وهكذا تدلّ على انّهم ماتوا مع المسيح ليقوموا معه. وهم يحافظون خلال الاسبوع الاوّل من القيامة، اسبوع الحواريين، على الثوب الأبيض الذي يلبسه المعمّد ولا يخلعه إلاّ في الاحد الجديد. يرمز هذا الثوب إلى الانتصار الذي حقّقه الله في هذا المعمَّد الجديد. والبياض رمز إلى الانتصار، قبل أن يكون رمزاً إلى الطهارة. ويرمز الأحدُ الجديد إلى الحياة الجديدة التي وعدَ هذا المسيحيُّ بأن يحياها، منتظراً، مثل الرسل، عيدَ العنصرة وحلولَ الروح القدس.
هذا ما دَفعنا لأن نتحدّث اليوم عن رموز العماد المسيحي مع التشديد على الماء كقوّة موت وحياة، كقوّة خلق وخلاص.

1- رمز الماء في الكتاب المقدس
إذا عدنا إلى المستوى الرمزي الطبيعي، نلاحظ أنّ الماء يشكّل السند لكلّ خليقة. كلّ شيء يولد فيها، وكل شيء يعود إليها. إنّها قابلة كلَّ بذار الحياة. وفي نظر الانسان يرمز الماء إلى إمكانيّة الحياة كما يرمز إلى تقهقر هذه الإمكانيّة. يمكننا القول إنّ العالم الماديّ يغرق كلّه في هذا الرمز، وهكذا يكون موضوع الطوفان موضوعاً طبيعياً. فانغمار الكون بالماء يلغي التاريخَ ويعيد كلّ شيء إلى نوع من مادة أولى لا شكلَ لها. أمّا الخروج من الماء فيدلّ على انطلاقة جديدة للكون بعد أن تنقّى خلال عبوره بالماء.
ولكن، لا نضخِّم أهميّة الماء الذي يبقى خصبُه ملتبساً خارج الله والمسيح. تحدّث ترتليانس عن رمز الماء قبل المسيح، فقال للوثنيين: "مياهكم فارغة". فالخالق يعطي الحياة قوّة الخلق وهو يمارس عليها سيادته (مز 104: 10- 18). ولكننا سننطلق من النظرة إلى مجيء المسيح لنفهم الاستعدادات البطيئة التي رفعت الرمز من العالم الطبيعي إلى مستوى مخطط الله. فالخلق والطوفان والبحر الأحمر والاردنّ تشير إلى أحداثٍ من تاريخ الخلاص تدلُّ على طابع الماء المحيي والمدمِّر، على خليقة الله الذي يجعل منها أداة نعمته.
وحين تتحدّد الأحداث الجوهريّة في العهد القديم، يكشف رمزُ الماء كلَّ عُمقه ولا سيما في أسفار المزامير والانبياء: المياه تنقّي وتطهِّر. هذا ما فعلت بنعمان السرياني (2 مل 5: 13). وقد قال المرتِّل: "نقِّني بالزوفى فأطهر، واغسلني فابيضَّ أكثر من الثلج" (مز 5: 9). وتحدَّث زكريا النبيّ (13: 1) عن "ينبوع مفتوح لبيت داود وسكان أورشليم، ليغسل خطاياهم ورجاساتهم".
إن هذه المياه تتضمّن قوَّة حياة وترمز إلى خصبٍ خلاصيّ ننتظره يومَ تجري الينابيع في الصحراء وتتفجَّر العيون فتروي صهيون. قال الرب: "أفيض المياه على بلاد تموت عطشاً وأجري السيولَ على أرض يابسة. أفيض روحي على ذرّيتك، وبركتي على سلالتك، فينبتون كالبَان الأخضر، كالصفصاف على مجاري المياه" (أش 44: 3- 4). ويدعو أشعيا المؤمنين: "تستقون المياهَ من ينابيع الخلاص مبتهجين" (أش 12: 3). ويقول: "أيها العطاش، هلمُّوا جميعاً إلى المياه. والذين لا فضَّة لهم، هلمّوا خذوا وكلوا. هلمّوا خذوا بغير فضّة ولا ثمنٍ خمراً ولبناً حليباً" (أش 55: 1). ويَعدُهم بالبركة: "يهديك الربُّ في كلّ حين ويُشبع نفسك في الارض القاحلة، ويقوّي عظامك فتكون كجنّة ريَّا وكينبوع مياه لا تنضب" (أش 58: 11).
هذه الحياة تخرج من تحت بيت الله وتتوجّه نحو الشرق (حز 47: 1). هي تجري صيفاً وشتاء ولا تنضب (زك 14: 8). وهكذا نصل إلى قول في تاريخ الخلاص وهو أنّ الماء يرمز إلى العطيّة السُميا، إلى فيض الروح في نهاية الأزمنة (أش 32: 15). وهذا التدبير المقبل الذي يصوِّره حزقيال (36: 25- 29) سيُتمّ تطهير الخطايا ويحوّل القلوب فيجعل من البشر شعباً جديداً.
"أرشّ عليكم ماءً طاهراً، فتطهرون من كلّ نجاساتكم. وأطهّركم من أوثانكم القَذرة. وأعطيكم قلباً جديداً وأجعل فيكم روحاً جديداً. وأنزع من لحمكم قلب الحجر، وأعطيكم قلباً من لحم. وأجعل روحي في أحشائكم وأجعلكم تسيرون على فرائضي وتحفظون أوامري وتعملون بها. وتسكنون في الارض التي أعطيتها لآبائكم، وتكونون لي شعباً وأكون لكم إلهاً وأخلِّصكم من كلّ نجاساتكم".
وهكذا نرى منذ الآن، دورَ المياه في التدبير المسيحاني. فبحسب يوحنّا (7: 37- 38)، المسيح هو الذي يعطي ماء الروح، يعطي ماء تصير في الذي يتقبّلها "ينبوعَ ماء يجري حياة أبدية" (يو 4: 14). هذه هي نهاية مسيرة الماء في الكتاب المقدّس.
عمّد يوحنا المعمدان في الماء، من أجل التوبة. أعلن عماد توبة لمغفرة الخطايا (مت 3: 11؛ لو 3: 3). أمّا العماد المسيحي فينقّي الانسانَ بصورة أعمق. إنّه اغتسال النفس كما يقول القدّيس بطرس (1 بط 3: 21). وهو يزيل قذارة الخطيئة ويمنح الإنسان نداء المسيح (أع 22: 16). قال بولس الرسول: "قد غُسلتم فتقدّستم وتبرّرتم باسم ربّنا يسوع المسيح وبروح الهنا" (1 كور 6: 11). ولكنّ الجديد الجديد في العماد المسيحي هو أنّه يمنح الروح. فالعماد المسيحي هو عماد في الروح (مر 1: 8). إنه يلدنا مرّة ثانية ويجذّرنا. قال القدّيس بولس: "شاء الله برحمته أن يخلّصنا بغسل الميلاد الثاني والتجديد الآتي من الروح القدس. أفاض علينا هذا الروح وافراً بيسوع المسيح مخلّصنا حتى نتبرّر بنعمة المسيح ونرث في الرجاء الحياةَ الابدية" (تي 3: 5- 7). وحدّثنا يوحنّا عن "مولدنا من الماء والروح" لنتمكّن من الدخول إلى ملكوت الله. وبيّن لنا كيف تعود إلى الانسان الخاطىء صحّةُ الروح وشفاء النفس. ذاك هو رمز شفاء المخلّع (يو 5: 1- 8) واستعادة الأعمى البصر. "ذهبَ واغتسل فرجع يبصر" (يو 9: 8).

2- الخلق والمعمودية
أيّ نور يلقيه موضوع الخلق على العماد المسيحي؟ يرى الكتاب المقدّس أنّ الحياة تبدأ في الماء. إنه يؤكّد في أصل كل شيء قدرةَ كلمة الله الخلاّقة وحضور الروح الذي يُخصب المياه الأولى (تك 1: 1- 24). فعبر الماء يتمّ عمل الله الخلاّق. وبجانب الماء يلعب النورُ دوراً مميّزاً في خبر البدايات. فملك الظلمة يتوافق مع الشواش الأول الذي يشكّله الغمر والمياه العميقة. خلق النورَ أوّلاً ففصلته كلمة الله عن الظلمة واعتبرته حسناً. لقد جعلَ الله النور في خدمة شعب الله: إنه يساعد على تنظيم الشواش الأولى ويؤمّن تقسيم الزمان إلى نهار وليل.
أ- الخلق والخلاص
نلاحظ أنّ نظرة الكاتب الملهَم في نشيد الخلق (تك 1) تتوقّف لا عند تكوين الكون بل عند سّر الخلاص. فواقع العهد يشرف بنظرته اللاهوتيّة على الخلق الطبيعي. إنّه يدّلنا على عمل الخلاص الأوّل الذي يعمله الله من أجل شعبه. وهكذا تبدو الخليقة صورة عالم جديد واسكاتولوجي تلعب فيه الكلمة والروح والنور والماء دوراً رئيسياً.
إنّ تدبير نهاية الأزمنة الذي دشّثه يسوع المسيح، ممهورٌ بمواضيع مهمّة مثل: "الولادة الجديدة" (يو 3: 5)، "الخليقة الجديدة" (2 كور 5: 17)، "التجديد" و"الولادة الثانية" (تي 3: 5). هذه المواضيع تعبّر عن واقع الخلاص المسيحي الذي يمنحه العماد. وببيّن بولس (أف 2: 1- 10) أنّ العماد يشكّل نقطة انطلاق الخليقة الجديدة في يسوع المسيح. "إنّا من صنع الله الذي خلقنا في المسيح يسوع لأعمال صالحة أعدّها سابقاً لكي نمارسها" (أف 2: 10).
وتلميح بولس (كو 3: 9- 10) إلى خلع الانسان العتيق ولبس الانسان الجديد هو أكثر وضوحاً. فالفعلان المستعملان (خلعتم، لبَستم) يدلان على عمل واحد هو العماد الذي نلناه فيما مضى.
لقد تصالح المسيحيّون في المسيح فتجدَّدوا على صورة خالقهم. صاروا مثل الانسان الأول، على صورة الله ومثاله (تك 1: 26)، فشكّلوا مع المسيح الانسانَ الجديد العائش بسلام مع الله ومع البشرية كلّها (أف 2: 15- 17).
وموضوع الولادة الجديدة التي يتمّها العماد نجده أوّلاً في التقليد الانجيلي. إن متى (19: 28) يسمّي نهاية الأزمنة "التجديد" و"الولادة الثانية" فيعلن يسوع لتلاميذه: "الحقّ أقول لكم: إن لم تعودوا مثل الأطفال لا تدخلوا ملكوت السماوات" (18: 3). ولكن يوحنا هو الذي يتحدّث بوضوح عن المعموديّة: إنّها ولادة علويّة بالماء والروح: "الحقّ الحقّ أقول لك: من لا يولد من العلاء لا يستطيع أن يرى ملكوت الله... مَن لا يولد من الماء والروح، لا يستطيع أن يدخل ملكوت الله" (يو 3: 3- 5).
وهذه الولادة الجديدة، الولادة الثانية، ينسبها العهد الجديد، تارة إلى عمل الروح (تي 3: 5- 6)، وتارة إلى كلمة الله. "وارغبوا كالأطفال الرضّع في حليب الكلمة الصافي لتنموا به من أجل الخلاص" (1 بط 1: 2- 3).
ب- الاستنارة العمادية
خلقَ الله الدور في اليوم الأوّل من أجل شعبه، فلعب النور أيضاً دوراً مميّزاً في المعموديّة. فهذا السرّ ينقذ الخطأة من عالم الظلمة (أف 4: 18)، ويجعلهم يشاطرون القدّيسين ميراثهم في النور (كو 1: 12). هذا ما يذكّرنا به القدّيس بولس (2 كور 4: 6). تتضمّن الخبرةُ المسيحية استنارة من قِبل الذي خلق النور في بدايات العالم. ولهذا فتسمية "المستنيرين" تدلّ على المعمّدين. يسمّي الكتاب المسيحيين أولئك الذين أنيروا مرة بالمعمودية وذاقوا الهبةَ السماوية وصاروا مشاركين في الروح القدس واستطابوا كلامَ الله الحسَن". وتتحدّث الرسالة إلى العبرانيّين (10: 32) عن المعمّدين فتقول لهم: "أذكروا الايامَ السابقة وكيف جاهدتم جهاداً طويلاً بعدما أنِرتم". وهناك مقطع من نشيد عماديّ يبيِّن لنا أنّ الكنيسة المسيحيّة الأولى اعتبرت العمادَ استنارة يقوم بها المسيح النور في المسيحي: "استيقظ أيها النائم وقُم من بين الأموات والمسيح يضيء لك" (أف 5: 14). ونجد هذا الموضوع في الانجيل الذي يصوِّر المسيحَ كالنور المسيحاني الذي يبدّد الظلمات ويشرق على الساكنين في عالم الموت (مت 4: 14؛ أش 9: 1). ويتوسّع يوحنا أيضاً في هذه الفكرة في إطار عماديّ محض. فالكلمة هو في نظره "نور البشر" (يو 1: 4) ومنه تصدر الحياة. إنه "النور الحقيقي" الذي "ينير كلّ إنسان" منذ الآن، ولا ينير الشعب اليهودي وحده (يو 1: 9). ويأتي خبر شفاء الأعمى منذ مولده ليشكّل كرازة عماديّة حقيقيّة، فيبلغ ذروته في كلام يسوع: "ما دمت في العالم، فأنا نور العالم" (يو 9: 5)، من هنا يتّخذ انفتاح عينَي الأعمى كلّ معناه. فهو يُتيح له، عبر حوار إيمانيّ يذكّرنا بأسئلة تطرح في رتبة العماد (يو 9: 35- 38)، أن يتعرّف إلى "مرسَل" الآب الذي غسل القذارةَ عن عينيه (يو 9: 7). منذ ذلك الوقت انفصل ذاك الذي شُفي عن شعبه. لقد صارَ ينتمي إلى عالم النور، إلى الكنيسة (يو 9: 23- 24). والكنيسة رأت في النور أكثر من خليقة برأها الله، فأقرّت أنّ يسوع هو النور الحقيقية وسجدت، أمامه كما فعل الأعمى بعد أن شُفي.
ج- العودة إلى الفردوس
العماد المسيحي هو خلق جديد ينقلنا من الظلمة إلى النور، وهو يفتح لنا أيضاً طريق الفردوس الذي أغلقته الخطيئة وحرسته الملائكة (تك 3: 24). ويبيّن لوقا (23: 42) أنّ موت آدم الجديد، يجعل الطريق الموصلة إلى جنّة عدن سالكة. فيسوع، وهو آدم الجديد، قد استطاع حالاً بعد عماده، أن يحيا في البريّة وسط الوحوش وأن تخدمَه الملائكة (مر 1: 13). وسيجمع التقليد فيما بعد المعمودية إلى الملائكة (عب 10: 19- 22).
ويقرّب يوحنّا (19: 34) موت المسيح على الصليب من رقاد آدم: فحوّاء الجديدة، أي الكنيسة، وُلدت من الجنب الذي طُعن بالحربة فخرج منه دمٌ وماء يرمزان إلى الافخارستيا والمعمودية. ومنذ ذلك الوقت خرج نهر الحياة الذي يرمز إلى حياة الثالوث السريّة، خرج من عرش الله والحمل (رؤ 22: 1- 2؛ تك 2: 10؛ حز 47: 1- 12). خلق جديد، بنية ثالوثيّة للعبور، جَمْع بين الماء والروح، كلّ هذا يُشير إلى البُعد العماديّ في موضوع الفردوس. ويستعيد بولس الرسول هذا الموضوع بطريقته فيصوِّر المعمودية كطقس زواج (أف 5: 25- 28). إن "العروس المزيّنة لعريسها" (رؤ 21: 2) هي الكنيسة التي قدّسها المسيح "حين غسلها بغسل الماء الذي ترافقه كلمة".
ويرتبط أيضاً بموضوع الرجوع إلى الفردوس رمزٌ نجده في المعمودية: رمْز خلع الانسان العتيق ولبس الانسان الجديد. فقبل الخطيئة عاش الرجلُ والمرأة عريانين، الواحد تجاه الأخرى دون حياء (تك 2: 25). فالعماد يعرّي الخاطىءَ من فساد الشهوات ليلبسه المسيح: يدمّر فيه جسدَ الخطيئة، وبتيح لحياة المسيح أن تمتدّ (روم 6: 6؛ غل 3: 27). وتتضمّن هذه الحياة العماديّة نمواً مستمراً وتجدّداً متواصلاً من أجل إعادة صورة الله.
قال بولس الرسول: "خلعتم الانسان القديم وخلعتم معه أعماله، ولبستم الانسانَ الجديد، ذاك الذي يسير إلى المعرفة الحقيقيّة حين يتجدّد على صورة خالقه". (كو 3: 9- 10). المعمودية هي عودة إلى البراءة الأولى، وهي تفرض علينا أن نحفظ ثوب العرس بلا دنس (مت 22: 11- 12؛ 2 كور 5: 3- 5).
فالعودة إلى الفرودس التي دشّنها الطقس العماديّ لن تتمّ إلاّ بعد حياة مقدّسة وجديرة بالخليقة الجديدة التي حقّقها المسيح فينا.

3- الطوفان والمعموديّة
انّ حدث الطوفان الذي يوازي في تفاصيل عديدة خبرَ الخلق، قد أثّر هو أيضاً على رموز العماد المسيحيّ. أكّد خبر الخلق سيادة الله على قوّة المياه مع ما فيها من التباس. فمنها خرجت الحياة. ولكنّها ستحمل الموت أيضاً. ففي هذا الكون الذي يتصوّره الكاتب محاطاً بالمياه، أيقظت كارثة الطوفان الخوف من "الغمر العظيم"، من المياه التي تفجّرُ كل شيء. فأمام فساد كل بشر، عزم الله على وضع "حدّ" لعمله. فلقد كانت الكارثة من القوّة بحيث زعزعت الثقة باستمرار الخلق. كيف التعامل مع هذا الخلق؟
أ- "أنا أقيم عهدي معك" (تك 6: 18)
يقول الكاتب بلغة بشريّة إنّ الله حين رأى فوضى العنف، ندمَ لأنه خلق الانسان (تك 6: 6). ولكنّه لم يرد أن يعيد خليقته إلى العدم. ثمّ إنّ عدالة الله ليست عمياء. فهناك نوح الرجل البارّ الذي يسلك مع الله ويسير بحسب وصاياه (تك 6: 9)، ولهذا قال الله له: "أقيمُ عهدي معك". وهكذا اتّخذ الخلاص شكل التزام مجاني. اتخذ الله المبادرة فيه.
فالله في حريّته الكاملة أعلن زمن نعمة من أجل نوح وأبنائه (تك 9: 1- 17). وهكذا تحوّل حدث الطوفان، فلم يعد "نهاية" كل شيء، بل حدّاً فاصلاً بين تدبيرين. تدبير خرج من الخلق الأولى وانتهى بحكم الله على العالم الخاطىء. لم ينج من سيول المياه إلاّ بقية قليلة دخلت دخولاً احتفالياً إلى السفينة فكانت بذار الخليقة الجديدة (تك 7: 3؛ 15- 23). وبعد الطوفان "تذكّر" الله الباكورة التي خلّصها وجعل الارضَ مأهولة من جديد (تك 8: 1). وهكذا تميّز التدبير الثاني باحتفال ليتورجي دشّن بداية الحياة مرّة أخرى على الارض: "أخرج جميع الوحوش والطيور والبهائم التي معك لتنمو وتكثر في الأرضي" (تك 8: 17).
فبين حقبة مثاليّة من الكمال الأول وحقبة وجودية يعلن عنها الكاتب، نجدُ نوحاً وعياله: إن خلاصهم يشهد من أجل إله يكشف في الوقت عينه، عن عدالته ورحمته. وهذه الرحمة هي التي نجّتهم من الحكم بالموت بواسطة الطوفان.
ب- "لا يكون بعد اليوم طوفان" (تك 9: 11)
ولكن الطوفان ترك تذكّرات تعيسة لدى الشعوب. لا شكّ في أن التوراة احتفظت بالوجهة الإيجابيّة والخلاصيّة من هذه الكارثة التي احتفظت ببقيّة في شخص نوح (سي 44: 17- 18). وستُشَبَّه عودةُ بني إسرائيل من السبي بهذا البعد الخلاصيّ للطوفان (أش 54: 7- 9). ولكنّهم لن يستطيعوا أن ينسوا التهديد الخطير الذي يشكّله مثلُ هذا العقاب على العالم. وهكذا تتوضّح فكرة هامّة وهي أن آخر مرحلة في مراحل وجود العالم، تشبه طوفاناً جديداً: "كما حدث في أيام نوح كذلك يحدث في مجيء ابن الانسان" (مت 24: 37).
إنَ تنبيه يسوع هذا في الانجيل، يدلّ على الطابع المفاجىء وغير المنتظر لدينونة تصيب كلّ الذين لم يؤمنوا به. ويتوسّع لوقا (17: 26- 30) في هذا الموضوع: نحن أمام الأيام الأخيرة في الدينونة الإلهية عينها التي ظهرت في طوفان الماء في أيام نوح، وفي طوفان النار في أيام سدوم. ولكن يسوع سيوضح بما يقوم دوره: "جئتُ لألقي على الأرض ناراً، وكم أرجو أن تكون اشتعلت! وعليّ أن أقبل معمودية، فأيّ كرب أعانيه حتّى تتمّ" (لو 12: 49- 50).
نجد رسمة سريعة عن مصير يسوع كله في هاتين الآيتين. إنّه حقّاً ذلك الذي يحقّق الدينونة في آخر الأزمنة، إنّه المسيح الذي يعمّد في النار (مت 3: 10- 14). ولكن عليه أوّلاً أن يمرّ في عماد آخر، في غطس في الألم والموت على مثال عبد الله المتألّم الذي يكمل صورته. ولاهوت العماد الأسراري، الذي يصوّره القديس بولس غطساً في موت المسيح، يشكّل توسيعاً لما قاله يسوع: "أتجهلون أنّنا، وقد اعتمدنا في يسوع المسيح، إنّما اعتمدناه موته. إنّا دُفنّا معه بالمعمودية في الموت فنحيا نحن أيضاً حياة جديدة على مثال المسيح الذي أقيم من بين الاموات بمجد الآب" (روم 6: 3- 4). وسيفسّر الجيل المسيحي الأول طقس ماء العماد على ضوء المدلول البيبلي للطوفان. فالعماد المسيحيّ يحمل الآن الخلاص لبقيّة نهاية الأزمنة، ولكنّه يعلن أيضاً الدينونة الآتية.
ففي نشيد عمادي يعرض القديس بطرس (1 بط 3: 18- 22) النتائج الكونيّة لموت المسيح وقيامته. والعماد الذي هو عمل خلاص جذريّ يكمل حدث الطوفان ويشكّل امتداد تدبير النعمة الشامل الذي دشّنه نزول المسيح إلى عالم الموتى.
ويعرض بطرس ( بط 3: 3- 10) الوجهَ المظلم لهذا التعليم: لقد صبرَ الله إلى الآن، لقد أخّر مجيئه الأخير ليُتيح للخطأة بأن يتوبوا. فمن استخفّ بتهديدات نهاية الأزمنة يُخطىء خطأ جسيماً. فكما كان في البدايات طوفان أوّل أهلكَ عالم "الأشرار"، هكذا ستعرف نهاية الأزمنة طوفاناً جديداً بالنار. والنار تدلّ على حضور الله.
ويذهب سفر الرؤيا أبعد من طوفان النار الذي يضع حدّاً للعالم الحالي فيعلن العالم النهائي، عالم الخليقة الجديدة. حينئذٍ يُعيد البحر الموتى الذين احتفظ بهم، ثمّ يزول هو مع قوى الدمار التي كانت مختفية في الماء. وستكون "سماء جديدة وأرض جديدة" (رؤ 20: 13؛ 21: 1).

خاتمة
كان باستطاعتنا أن نتوقّف عند صورة ابراهيم أبي المؤمنين وعند موسى الذي عبرَ الشعبُ معه البحر الأحمر، ويشوع الذي عبر نهرَ الأردن. في الكتاب غنى متشعّب لرموز العماد المسيحي. فالمياه خليقة الله وأداة نعمته، تعطي البعض الحياة وتقتل البعض الآخر. إنها علامة عمل الروح المطهّر في آخر الأزمنة.
منذ الخلق، نستطيع أن نكتشف عمل الله الخلاصيّ بكلمته القديرة التي تفصل النور عن الظلمة، وبروحه الذي يُخصب المياه. وهكذا نفهمُ أنّ العماد هو خلق جديد واستنارة يقوم بها ذاك الذي هو نور العالم. وعودة إلى الفردوس لنعيش مع الملائكة بعد أن عادت إلينا البرارة الأولى.
ونرى عبر خبر الطوفان مخطّط الله ينطلق انطلاقة جديدة. فدينونة العالم بالمياه تدلّ على دينونة أخرى: دينونة بالنار تتمّ في نهاية الأزمنة ويشير إليها سرّ العماد الذي يجهل الخلاص.
ويذكّرنا إيمان ابراهيم بأنّ العماد هو علامة إيماننا بالمسيح. وموضوع الخروح وعبور الأردن يدلّ على خلاصنا بالماء، وعلى مفارقة الحياة العمادية: هي نعمة من العلاء وهي مهمّة الانسان. هي حياة تتوجّه إلى ملكوت ينفتح أمامنا، ولكنها حياة يريدنا الله ان نتمسّك بها حين نعيش حياة يسوع، حين نموت معه في موته لنقوم معه في قيامته.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM