الفصل الثالث: مجد الله

الفصل الثالث
مجد الله

يردِّد خبر التجلّي عند القدّيس لوقا مرّتين كلمة "مجد". فموسى وايليا تراءيا في المجد، والرسل شاهدوا يسوع "في مجده" (لو 9: 31- 32). وان غابت كلمة "مجد" من مت 17: 1- 9، فكلّ ما يحيط بهذا المقطع يدلّ على المجد. وهذا ما يُفهمنا إِياه القدّيس بطرس في رسالته الثانية: انّ ربّنا يسوع المسيح "نال من الله الآب إكراماً ومجداً حين جاءه من مجد الله تعالى صوت يقول: هذا هو ابني الحبيب الذي به رضيت" (2 بط 1: 17).
عن هذا المجد سنتحدّث في تطبيقه على الله. والمجد صفة الهيّة وعطيّة من لدنه تعالى إلى الخلائق لكي يعترف البشر بهذا المجد: إنهم يمجّدون الله.

1- مضمون كلمة مجد
نعود أولاً إلى أصول الكلمة، ثمّ نتوقّف عند استعمالها في نصوص العهد القديم.
أ- قدرة وشهرة
إذا رجعنا إلى الأصول، فكلمة "ك ب و د" العبريّة تعود إلى جذر "ك ب د" الذي يعني ثِقل. نحن إذاً، أمام شيء يفرض نفسه، يعطي الانسان ثقلاً. ومجد الفرد يَظهر في قدرته. حين أطلق يوسف اخوته إلى كنعان، أوصاهم: "أخبروا أبي بكلّ مجدي في مصر" (تك 45: 13) أي بكلّ قدرتي وسنطاني. وتصوِّر التوراة قدرة سليمان بهذه الكلمات: "وعظّم الربُّ سليمان جداً في عيون اسرائيل كلّه. وجعل عليه من مهابة الملك ما لم يكن على ملك من قبله في اسرائيل" (1 أخ 29: 25). ونحن نقرأ حاشية في سفر أشعيا تُشبِّه "مياه النهر (الفرات) العميقة والقويّة بملك اشور في كلّ مجده" (أش 8: 8). ويوجّه سفر دانيال هذا المديح إلى الملك نبوخذ نصر: "إليك يا ملك الملوك، أعطى الهُ السماء المُلكَ والسلطان والقدرة والمجد" (دا 2: 37).
إن رأى انسان قدير "نموَّ قرن مجده" (أي نمَت قدرته مع مجده) (مز 112: 9)، فالسبب يعود إلى غناه الكثير: فالمجد يقاس مراراً، بوفرة غنى الأرض. يقول الكاتب عن داود الذي دام ملكه طويلاً: "مات بشيبةٍ صالحة، وقد شبع من الأيام والغنى والمجد" (1 أخ 28: 29). وأمّا سليمان فلم يطلب من الربّ "لا الغنى ولا الثروة ولا المجد" (2 أخ 1: 11)، غير أنّ الربّ أعطاه ايّاها. كما حصل يوشافاط على "الغنى والمجد العظيم". وحين وازى مز 49: 17- 18 بين الموت والحياة قال: "لا تخف عندما يغتني الانسان وينمو مجد بيته. فعند موته لا يحمل شيئاً، ولا ينزل مجده معه". وأعلنت الحكمة المشخّصة: "معي الغنى والمجد" (أم 8: 18).
انّ الغنى يولّد الأبهة والعظمة. ولهذا تنطبق كلمة "ك ب و د" على السعة والوفرة. فالمزمور 21: 2- 7، يعد ملك اسرائيل ببركات خاصّة: "يا ربّ، قوّتك تفرح الملك... خلاصك يوليه مجداً عظيماً. تلقي عليه بهاء وجلالاً. تجعله بركات إلى الأبد (يكون عظيماً فيحمل البركة)، تُسِّرهُ سروراً أمام وجهك" (تفرحه بحضورك).
وتعني "ك ب و د" أيضاً الشهرة والاسم. فروح الربّ يقود الشعب المختار ليجعل لنفسه "اسم مجد بهيّ" (أش 63: 14). ويقول ابن سيراخ: "نسل الأبرار يدوم إلى الأبد، ومجدهم لا يبوخ" (44: 13) ويقول أيضاً: "فضائل الأبرار لا تزول، ومجدهم ينتقل إلى نسلهم" (45: 26). وسيُنشد الشعب ليهوديت بعد نصرها على أَلِيفانا: "أَنتِ مجد أورشليم! أَنتِ فخر اسرائيل! أَنتِ كرامة شعبنا" (يه 15: 10). وتابوت العهد (الذي هو عرش الله) هو "مجد اسرائيل" (1 صم 4: 22). وغابة الأرز (أي الأعمدة المصنوعة من خشب الأرز) هي "مجد لبنان" (أش 35: 2، 61: 13).
ب- البهاء والضياء
إنّ كلمة "ك ب و د" تشير مراراً، إلى البهاء والجمال. فصورة سمعان رئيس الكهنة تُبرز الطابع المضيء للمجد: "ما أَمجده محاطاً بشعبه عند خروجه من وراء الحجاب (الذي يفصل الاقدس عن قدس الأقداس). انه مثل نجمة الصبح بين الغمام، أو مثل البدر أيّام تمامه، أو مثل الشمس المشرقة على هيكل العليّ، أو مثل القوس (قوس قزح) المتلألئة بين غيوم المجد" (سي 50: 5- 7). فالتلميحات إلى "ثياب المجد" (أش 52: 1؛ سي 6: 32؛ 45: 7) التي تُلبس هارونَ "مجداً كاملاً"، أو إلى "مجد الزيتونة" (هو 14: 7)، ترتبط بجمال هؤلاء الأشخاص وبهائهم. فميزة البهاء والعظمة والجمال الجسديّ، نجدها أيضاً لدى أستير. قال الكاتب: "حين كفَّت عن الصلاة في اليوم الثالث، نزعت ثياب العبادة والصوم (أي المسح)، وتسربلت بكلّ مجدها (أي لبست ثياب المُلك). ولمّا سطعت جمالاً، ودت إلى الله الذي يرى (أو يرعى) الكلّ ويخلّصهم، وأخذت معها الوصيفتين" (اس د: 1- 2). وسنجد وجهة البهاء في "كابود" حين تقول استير لأحشويروش: "رأيتك يا سيِّدي، كأنك ملاك الله. فاضطّرب قلبي وخفت من مجدك" (اس د: 13).
وهكذا ففكرة "الوزن" (انسان له وزنه) التي تشكّل مدلول "ك ب و د" اتّخذت وجهتين. الأولى: الأهميّة والقيمة (الغنى، الكرامة). الثانية: الاشعاع والبهاء (الجمال، اللمعان المضيء). ونستطيع أن نقول إنَّ فكرة المجد تتضمّن عنصرين: القدرة والسلطان والاعتبار، وبروز هذه القدرة والسلطان.

2- المجد صفة الهيّة وعطيّة من الله
أ- المجد صفة الهيّة
سنجد في صورة مجد الله التوراتيّة هذين العنصرين. إذا نظرنا إلى مجد الله بصورة مطلقة، نجد القدرة والبهاء. وإذا نظرنا إلى هذا المجد بصورة نسبيّة، فهو يصل إلى الخلائق التي ترتبط بعلاقة حميمة مع الله.
أولاً: قدرة الله في الخلق وتاريخ الخلاص
تورد نصوص التوراة مجد الله بجانب فدرته. فالربّ يقسيّ قلب فرعون ويعلن لموسى: "أمجّد (أي أظهر مجدي) على حسابه (أي حين أُدمِّره) وعلى حساب جيشه كلّه. وهكذا يعرف المصريّون أنيّ أنا هو الربّ" (خر 14: 4). وفي البريّة أطعم الرب أخصّاءَه من السلوى والمنّ. توجّه موسى وهارون إلى جماعة بني اسرائيل بالكلمات التالية: "هذا المساء تعرفون أنّ الربّ أو الذي أخرجكم من أرض مصر، وفي الصباح ترون بعيونكم مجد الربّ" (خر 16: 7).
فمجد الربّ هو إظهار قدرته في أعمال الخلق العظيمة وفي تاريخ الخلاص. "السماوات تخبر بمجد الله والفلك يعلن أعمال يديه" (مز 19: 2). إنَّ "إله المجد" يظهر في العاصفة (مز 29: 3). "تعالى الربّ على جميع الأمم وفوق السماوات مجدُه" (مز 113: 4). "مجد النجم يجعل السماء جميلة. النجوم تزيِّن بنورها أعالي الربّ" (سي 43: 9). "قوس قزح تكون في السماء دائرة مجد، ويد العليّ شدّتها" (سي 43: 12).
وبجانب عجائب الخلق، تكون تدخّلات الله في تاريخ الخلاص إظهاراً لمجد الله. وبعد أن تشفّع موسى من أجل الشعب الخاطىء، سمع الله يقول له: "غفرت له كما قلت، ولكن ما دمت حيّاً وما دام مجدي يملأ الأرض كلّها، فكلّ هؤلاء الناس الذين رأوا مجدي (أي أعمالي المجيدة) والآيات التي صنعتها في مصر وفي البريّة، لن يروا الأرض التي وعدت آباءهم بها" (عد 14: 20- 21). وهكذا تصبح كلمة "مجد" مرادفة لكلمة "خلاص". قال المرتّل: "جميع ملوك الأرض يحمدونك، يا ربّ، لأنّهم سمعوا مواعيد فمك. يُنشدون طرق الربّ ويقولون: مجد الربّ عظيم" (مز 138: 4- 7). ويقول صاحب المزامير: "السماوات تحدّث ببرّه (أو انتصاره)، وكلّ شعوب ترى مجده" (مز 97: 6). فيبقى على بني اسرائيل الأتقياء أن يعلنوا خلاصه يوماً بعد يوم، أن يخبروا الوثنيّين بمجده وجميع الشعوب بعجائبه (مز 96: 2- 3). ويد مجده (يده المجيدة) (أش 63: 12) لم تفعل فقط في وقت الخروج، بل في كلّ مراحل الخلاص. فبالعودة من المنفى، "افتدى الربّ يعقوب وأظهر مجده في اسرائيل" (أش 44: 3). وفي نهاية الأزمنة، "سيخشى الوثنيّون اسم الربّ، وسيعرف جميع ملوك الأرض مجدك. حين يبني الربّ صهيون يتجلّى في مجده" (مز 102: 16- 17). وقال الربّ: "وهكذا أُظهر مجدي للوثنيّين فيرى كلّ الوثنيّين سلطاني حين أنفّذ أحكامي فيهم" (حز 39: 12).
كلّ عمل الخلاص يتلخّص في كشف مجد الله "لكلّ جسد" (أش 40: 5). ويقول الربّ: "سأجمع جميع الأمم وكلّ الألسنة فتأتي وترى مجدي" (أش 66: 18). وبانتظار هذا الظهور الأخير لمجد الله، تحتفل التوراة بمحبّة الله الرحيم: "لتحمدك يا ربّ جميع أعمالك. وليباركك أصفياؤك. ليحدّثوا عن مجد ملكوتك (ملكوتك المجيد)، وليخبروا بقدرتك" (مز 145: 10- 12).
مجد الله هو "اسمه" (أش 59: 19) أي كيانه الحميم. فهناك مرّات تدلّ لفظة "ك ب و د" على يهوه (الربّ) نفسه. ففي صلاته من أجل السلام، لا يتورّع المرتّل أن يقول: "خلاصه قريب من الذين يخافونه، والمجد (أي الربّ المجيد) سيسكن أرضنا" (مز 85: 10). ويقابل النبي ارميا بين يهوه والآلهة العاجزة: "إنَّ شعبي بدَّل مجده (أي الهه الربّ) بما لا فائدة فيه" (بما هو عاجز) (إر 2: 11). وإنّ يهوه يبدو في التوراة مثل "ملك المجد" (مز 24: 7- 10) الذي يجمع المعجزات من أجل شعبه، الذي يحمي مؤمنيه ويضع في خدمتهم حبّه وأمانته. وإنّ مجد الله يشدّد على الطابع الخلاصي لقدرة الله السامية. هذا ما يقوله داود في صلاته: "مبارك أنت، أيّها الرب، اله اسرائيل أبينا، من الأزل إلى الأبد. لك يا ربّ، العظمة والجبروت والجلال والبهاء والمهابة، لأنّ لك كلّ ما في السماء وعلى والأرض. ولك الملك، أيها الربّ، وقد ارتفعت على الجميع اطلاقاً. من لدنك الغنى والمجد، وأنت تسود الجميع، وفي يدك القدرة والجبروت، ويدك تعظّم كلّ شيء وتعزّزه. فالآن، يا الهنا، نحمدك ونسبّح اسمك الجليل" (1 أخ 29: 10- 13).
ثانياً: ظهور مضيء
حين نعود إلى لاهوت الدستور الكهنوتي وإلى حزقيال، نجد أنّ "كبود يهوه" أو مجد الربّ، يدلّ على ظاهرة مضيئة ترافق ظهور الربّ.
* في الدستور الكهنوتي
يقول المرجع الكهنوتي إنّ الله يسكن في السماء ولكنّه يتّصل بشعبه في خيمة الاجتماع: "ألتقي بني اسرائيل في هذا المكان الذي يقدّسه مجدي" (خر 29: 43). وفي وقت الظهورات، ينقل يهوه رغباته وأوامره لموسى وهارون. وحين اقتربت الجماعة ووقفت أمامَ الربّ، قال موسى: "هذا ما أمركم الربّ أن تعملوه ليظهر مجده لكم" (لا 9: 6). وبعد أن هيَّأ موسى وهارون المحرقة "تراءى مجد الربّ على كلّ الشعب. وخرجت نار من أمام الربّ فأكلت المحرقة والشحوم التي على المذبح. وحين رأى الشعب كلّ هذا، هتفوا هتاف الفرح وسقطوا بوجوههم إلى الأرض" (لا 9: 23- 24). وظهر مجد الربّ مراراً "في خيمة الاجتماع لبني اسرائيل" (عد 14: 10). وحين ثار قورح، تجمّع أصحابه عند مدخل خيمة الاجتماع. وحين جمع قورح بوجه موسى وهارون كلّ الجماعة، تجلّى مجد الربّ لكلّ الجماعة (عد 16: 19). وخرجت نار من الربّ فأحرقت المتمرِّدين (عد 16: 35). وفي الغد، غطّى الغمام (علامة حضور الربّ) خيمة الاجتماع وظهر مجد الربّ (عد 17: 7). وحين طلب الشعب ماء في البريّة، ترك موسى وهارون الجماعة وجاءا إلى مدخل خيمة الاجتماع. "سقط بوجهيهما إلى الأرض. فتجلّى لهما مجد الربّ" (عد 20: 6). وهكذا نرى أنه خلال الإقامة في البريّة، كانت الخيمة الموضع المكرّس الذي به يكشف الله عن ذاته بظاهرة مضيئة تصوّر بكلمة "كبود يهوه" (مجد الربّ): "غطّت الغمامة خيمة الاجتماع وملأ مجد الربّ المسكن". لم يستطع موسى أن يدخل إلى خيمة الاجتماع لأنّ الغمام حلّ عليه، "ولأنّ مجد الربّ ملأ المسكن" (خر 40: 32- 33). ظهر مجد الربّ "بشكل غمامة" (خر 16: 10) فشدّد على الطابع المنير. فخلال المسيرة في البريّة، "كان غمام الربّ على المسكن نهاراً، وكانت النار في الغمام ليلاً، على مشهد جميع بيت اسرائيل" (خر 40: 38).
إنّ الظهور المضيء لإله اسرائيل في البريّة، يعيدنا إلى وحي سيناء المهيب. فحين صعد موسى الجبل المقدّس، "غطّى الغمام الجبل وأقام مجد الله على جبل سيناء الذي غطّته الغمامة ستّة أيام. وفي اليوم السابع نادى الربّ موسى في وسط الغمام. وكان منظر مجد الربّ كنار آكلة في رأس الجبل أمام عيون بني اسرائيل" (خر 24: 15- 17). هي ظاهرة مضيئة، وقد تكون ثورة بركان أو عاصفة رمليّة. ولكن جمال المشهد انطبع في ذاكرة بني اسرائيل. وقد جعل سفر التثنية في فم موسى الكلمات التالية: "فلما سمعتم الصوت (صوت الربّ) من وسط الظلام، والجبل يشتعل بالنار، تقدّمتم إليّ، أنتم وجميع رؤساء أسباطكم وشيوخكم فقلتم: هوذا قد أرانا الربّ الهنا مجده وعظمته وقد سمعنا صوته من وسط النار... قد تأكلنا هذه النار العظيمة" (تث 5: 23- 25).
* حزقيال
تقترب نظرة حزقيال اللاهوتيّة إلى "كبود يهوه" من نظرة المرجع الكهنوتي. ففي رؤية "مركبة الربّ"، يشاهد النبيّ خيالاً بشرياً منيراً: "رأيت شيئاً كالنار، والضياء من حولها... هذا منظر يشبه مجد الربّ" (حز 1: 27- 28). ومجد الله هذا حاضر في "موضع إقامته" (حز 3: 12)، بشكل ظاهرة مضيئة: "فصعد مجد اله اسرائيل عن الكروب الذي كان عليه إلى عتبة الهيكل" (حز 9: 3). "وامتلأ الفناء من ضياء مجد الربّ" (حز 10: 4). إنّ مجد الله هو جامد (حز 8: 4) "ولكنّه يتحرّك مراراً على أجنحة الكروبيم" (حز 10: 18- 19): "ثم رفع الكروبيم أجنحتهم وتحرّكت الدواليب ومجد إله اسرائيل عليهم من فوق. وارتفع مجد الربّ ليخرج من المدينة ووقف على الجبل الذي عن شرق المدينة" (حز 11: 22- 23). ومن الشرق، عاد مجد الربّ إلى الهيكل: "فإذا بمجد الرب أتى من جهة الشرق... دخل مجد الربّ إلى الهيكل من الباب المتّجه نحو الشرق فحملني الروح وأدخلي الدار الداخليّة، فإذا بمجد الربّ قد ملأ الهيكل" (حز 43: 2- 4). ففي رؤية حزقيال لا يسكن "كبود يهوه" السماء، بل الهيكل. كما أنّه في النظرة الكهنوتيّة يحضر الربّ بصورة متقطّعة في خيمة الاجتماع.
* في سفر الملوك والأخبار
هذه النظرة سنجدها أيضاً في أسفار الملوك والأخبار.
حين نقل سليمان تابوت العهد إلى المعبد الذي شيّده، بدا الله وكأنه يضع يده على مكان العبادة هذا: "ولما خرج الكهنة من القدس، ملأ الغمام (الظاهرة المحسوسة لحضور الربّ) بين الربّ. فلم يستطع الكهنة أن يقفوا للخدمة بسبب الغمام، لأن مجدَ الربّ ملأ هيكل الربّ. حينئذٍ قال سليمان: "قرّر الربّ أن يسكن في الغمام المظلم. أجل، بنيتُ لك مسكناً بهياً، مسكناً تقيم فيه إلى الأبد" (1 مل 8: 10- 13)
"ولمّا أتمّ سليمان الصلاة، نزلت النار من السماء وأكلت المحرقة والذبائح وملأ مجد الربّ الهيكل. فلم يستطع الكهنة أن يدخلوا هيكل الربّ، لأنّ مجد الربّ ملأ بيت الربّ. وكان جميع بني اسرائيل يعاينون نزول النار ومجد الربّ على البيت فجثوا ووجوههم إلى الأرض على البلاط" (2 أخ 7: 1- 3).
وسنجد صدى آخر لما قالته أسفار الملوك والأنبياء في 2 مك 2: 7- 10. نحن أمام خبر يروي أنّ ارميا أخفى في مكان مجهول الخيمة وتابوت العهد ومذبح البخور: "إنّ هذا المكان سيبقى مجهولاً، إلى أن يجمع الله شمل شعبه ويرحمهم. وحينئذٍ يُظهر الربّ هذه الأشياء، ويظهر مجد الربّ والغمام، كما ظهر في أيام موسى (وكما ظهر) حين سأل سليمان أن يقدّس المكان تقديساً بهياً... كما أن موسى دعا الربّ فنزلت النار من السماء، كذلك دعا سليمان فنزلت النار من السماء وأفنت المحرقات".
ب- المجد عطيّة الله للخلائق
إذا كان "كبود يهوه" يعبرّ عن عظمة الله المخيفة التي لا يصل إليها بشر، فهو أيضاً عطيّة الله للخلائق. فمجد الله لا يشكّل امتلاكاً عقيماً لكائن سامٍ، فكل الأرض تشارك الله في مجده وفي عظمته. وهكذا يصبح "مجد الله" ينبوع خلاص لأنه أساس كلّ مجد. يقول المرتّل: "أنت يا ربّ ترس يحيط بي، أنت مجدي" (مز 3: 4). الربّ "يعطي النعمة والمجد" (مز 48: 12) ويفيض بهاء مجد ملكه على الطبيعة المخلوقة وعلى شعبه.
أولاً: على الطبيعة
ستمتلىء الأرض كلّها "من معرفة مجد الربّ" (حب 2: 14). لسنا هنا فقط أمام معرفة عقليّة، بل أمام اختبار حميم يتكرّس فيه الكون بمشاركته في مجد الربّ: "ارتفع يا الله على السماوات! فمجدك هو على كل الأرض" (مز 57: 6). الخليقة هي عمل الخلاص الحقيقي، هي "برّ" وانتصار: "السماوات تعلن برّه (أو انتصاره)، وكل الشعوب ترى مجده" (أو أعماله المجيدة) (مز 97: 6). "قدّوس، قدّوس، قدّوس هو الربّ الصباؤوت (أو ربّ الأكوان). ملأ مجده كل الأرض" (أش 6: 3). يظهر الربّ في تيوفانيا مضيئة. وإذ يحجب جلاله السماوات، "تمتلىء الأرض من مجده" (حب 3: 3). ويهتف المرتّل: "ليكن مجد الربّ إلى الأبد، ليفرح الربّ بأعماله" (مز 104: 31). ويذكر ابن سيراخ أعمال الربّ: "بأقوال الرب كانت أعماله، والخليقة تطيع مشيئته. الشمس المنيرة تنظر إلى كلّ شيء، وعمل الربّ مملوء من مجده. لم يُؤتِ الربّ قديسيه أن يخبروا بجميع عجائبه التي أثبتها الربّ القدير لكي يثبت الكون في مجده" (سي 42: 15- 17).
ثانياً: على الشعب المختار
"الربّ خلق مجداً وافراً" (سي 44: 2) من أجل أخصّائه. "فالمجد الذي يأتي من الربّ" يرتبط أولاً بكلّ الشعب الذي اختاره. قال أشعيا بفم الربّ: "إنيّ لأجل صهيون لا أسكت ولأجل أورشليم لا أهدأ حتى يخرج. كضياء برّها وكمشعل متّقد خلاصها. فترى الأمم برّك (يا أورشليم)، وجميع الملوك مجدك، وتُدعين باسم جديد يُعيِّنه فم الربّ. وتكونين اكليلاً بهياً في يد الربّ وتاجاً ملكياً في يد الله" (أش 62: 1- 3). ويعلن المرتّل: "طوبى للشعب الذي يعرف الهتاف، يا ربّ، بنور وجهك يسيرون. باسمك طوال النهار يبتهجون، ويبرّك يفتخرون، لأنك أنت بهاء عزّتهم. برضاك ترفع رأسنا لأن الربّ ترسنا" (مز 89: 16- 19).
بما أن الربّ يزيِّن أخصّاءه بالخلاص، فأخصّاؤه يبتهجون بالمجد... ليكن المجد لجميع أصفيائه (مز 149: 5- 9). وسينشد أنبياء المنفى وعد الربّ. قالت أشعيا الثاني: إسمعوا لي أيها الجبناء والبعيدون عن الغلبة: أجعل نصري قريباً فلا يكون بعيداً ولا يبطىء خلاصي. أجعل في صهيون الخلاص ويكون بهائي لاسرائيل" (أش 46: 13). وأنشد أشعيا الثالث "نداء المجد" و"دِرّة التعزية" التي بها "تقيت أورشليم كلّ الذين يحبّونها" (أش 66: 11- 12). أمّا باروك فينتظر نعم الربّ التي هي انعكاس مجده: "تشجّعوا با بنيّ واصرخوا إلى الله فينقذكم من تسلّط الأعداء ومن أيديهم. فأنّي قد رجوتُ من الأزلي خلاصكم. أنا في فرح من القدّوس، الرحمة التي ستأتيكم عمّا قليل من عند الأزلي مخلّصكم. ودّعتكم بحزن وبكاء، لكنّ الله سيردّكم إليّ إلى الأبد بالفرح والابتهاج. فكما ترى جارات صهيون حياتكم في الأسر، هكذا سترى عمّا قليل الخلاص من عند الهكم. إنّه سيوافيكم في مجده الأزلي العظيم وبهائه" (با 4: 21- 24).
ويتابع باروك (5: 1- 9): "إخلعي يا أورشليم، ثوب الحزن والشقاء، والبسي إلى الأبد جمال مجد الله. تسربلي برداء برّ الله، واجعلي على رأسك تاج مجد الأزلي. فإنّ الله سيُظهر سناك لكلّ ما تحت السماء. والاسم الذي يعطيك الله إلى الأبد هو: سلام البرّ (أو الخلاص) ومجد التقوى (أو الأمانة)... فالربّ قد عزم أن يُخفض كلّ جبل عال والتلال الخالدة، وأن تُردَم الأودية لتمهيد الأرض ليسير اسرائيل بأمان في مجد الله... لأن الله سيَهدي اسرائيل بسرور في نور مجده فيرافقه بالرحمة والبرّ اللذين من عنده".
ثالثاً: على الأبرار والمميَّزين والأمم
وفي داخل صهيون التي هي "عرش مجد الربّ" (ار 14: 21)، موضع مجده القدّوس (سي 36: 13) سيشارك عظماء الشعب والأبرار في مجد الربّ الفائض على الشعب. فابن سيراخ يدعو موسى "محبوب الله والناس". منحه الربّ "مجداً كمجد القدّيسين... مجَّده أمام الملوك. أعطاه وصايا من أجل شعبه وأراه شيئاً من مجده" (سي 45: 1- 3).
وافتخر هارون بإنعام الله الذي "جعله سعيداً في لباسه البهيّ وسربله بحلّة مجيدة. ألبسه مجداً كاملاً وزيَّنه بشارات غنيَّة... وزاد هارونَ مجداً" (سي 45: 7- 8، 20). وسيتغذّى الأبرار من أفكار المرتّل المليئة ثقة بالله: "في الله وحده ارتاحي يا نفسي، فمنه رجائي. هو وحده صخرتي وخلاصي، هو حصني فلا أتزعزع. عند الله خلاصي ومجدي وفي والله صخرة عزّي ومعتصمي" (مز 62: 6- 8). "يمتلىء فمي من تسبيحك (يا ربّ)، فيمتلىء النهار كلّه من بهائك" (مز 71: 8). "أنا معك في كلّ حين. تمسكني بيدك اليمنى. بمشورتك تهديني، ثمّ تأخذني في المجد" (مز 73: 23- 24).
والأمم الوثنية نفسها سترى ظهور مجد الربّ: "سأجمع كلّ الأمم والألسنة. يأتون فيرون مجدي. أعطيهم علامة وأرسل بقيّة الناجين منهم إلى الأمم التي لم تسمع باسمي ولم ترَ مجدي. فينادون بمجدي بين الأمم" (أش 66: 18- 19).

3- البشر يمجّدون الله
أمام مجد الله الظاهر، لا يبقى للمؤمن إلاّ أن يمجّد الله لخلاصه. "من يتعب من مشاهدة مجدك، (سي 24: 15). لا شكّ في أنّ الانسان لا يقدر أن يعطي شيئاً لله، ولكنّه يرغب في أعماق قلبه، أن يعلن أنّ الله يملك مجداً يفيضه على الكون وعلى أخصّائه.
أ- أناشيد الحمد
حين يشير أشعيا الثالث إلى أورشليم التي تصير "مجداً في وسط الأرض" (أش 62: 7)، فهو يتطلّع إلى المديح من أجل نعم الربّ. فالشعب المختار وعى دوره كوسيط بين الله والأمم، بين الله والأرض. والكتاب الثاني في سفر المزامير ينتهي بهذه العبارة: "مبارك الربّ اله اسرائيل الذي يصنع وحده العجائب. مبارك إلى الأبد اسمه المجيد. لتمتلىء الأرض كلّها من مجده" (مز 72: 18- 19). وسيصلّي ابن سيراخ من أجل خلاص اسرائيل واعادة بنائه فيطلب من "سيّد الكون" (سي 36: 1) قائلاً: "أيها الربّ، إرحم الشعب الذي دُعي باسمك... أشفق على مدينتك المقدّسة أورشليم، موضع راحتك. إملأ صهيون من مدائحك، وهياكلك من مجدك" (سي 36: 11- 13).
ويمتدح الشعب "إله المجد" (مز 29: 3) بالعمل الليتورجي في الهيكل: "قدّموا للربّ يا أبناء الله، قدّموا للربّ مجداً وعزّة، قدّموا للربّ مجد اسمه، أعبدوا الربّ في دياره المقدّسة" (مز 29: 1- 2). فليتورجية هيكل أررشليم هي صدى مدائح الملائكة في السماء: "وفي هيكله كلّ واحد يصرخ: المجد لك يا الله" (مز 29: 9). وإن سفر المزامير مليء بالدعوة إلى المديح: "اهتفوا لله، يا أهل الأرض جميعاً، أنشدوا لمجد اسمه، وارفعوا إليه تسبيحاً مجيداً. قولوا لله: ما أرهب أعمالك... أيها الشعوب، باركوا الهنا وأسمعوا صوت تسبيحه" (مز 66: 1- 3، 8).
ب- أناشيد الوضعاء والخطأة
يرافق الله مجدُه وبهاؤه فيجعل عزّته وبهجته تملكان في معبده (1 أخ 16: 26- 27). ولكن البشر لا يقدرون أن يمدحوه مديحاً لائقاً، بل هو الله يدفعهم إلى المديح. إنّ أساس المديح هو "الفقر الروحي" الذي ينتظر كلّ شيء من مراحم الله. يقول با 2: 16- 18: "أيها الربّ، أنظر من مسكنك المقدّس وفكّر فينا. أمل أيها الربّ أذنك وأسمع. إفتح عينيك وانظر... ليس الأموات يعترفون بمجدك وبرّك، بل النفس الكئيبة، بل ذاك الذي يمشي منحنياً (بالتوبة) ضعيفاً. العيون الكليلة والنفس الجائعة هي التي تعترف لك بالمجد والبرّ".
إذا كان الله لا يعطي مجده لآخر (أش 42: 8)، فلأنه وحده الاله البارُّ والمخلّص. لهذا فهو يرضى بالصلاة المتواضعة التي يرفعها إليه المرتّل: "لا لنا يا ربّ لا لنا، لكن لاسمك أعطِ المجد" (مز 115: 1). والشعب سيكون "اسم الربّ كرامته ومجده" (إر 13: 11)، إن تعلّم من إرميا أن يرفع المجد للربّ إلهنا (إر 13: 16). ويرضى الربّ عن صلاة الخاطىء التائب: "أعنّا يا إله خلاصنا، من أجل مجد اسمك. إغفر يا ربّ خطايانا. خلّصنا من أجل اسمك" (مز 79: 9). بما أن كلّ الذين يحملون اسم الربّ "خلقوا لمجده" (أش 43: 7)، فعليهم أن يعلنوا بلا انقطاع كلمات المجد (سي 47: 8). وهنا نفهم معنى بعض المدائح: "مبارك أنت، أيها الربّ الهنا، من الأزل إلى الأبد. ليبارك اسمك المجيد الذي يعلو كلّ بركة ومديح" (نح 9: 5). "يا كلّ أعمال الربّ، باركوا الربّ. له المجد السامي والمديح الأزلي"
 (دا 3: 57). "وليعرف الجميع أنك وحدك الله والربّ، أنك المجيد في الدنيا كلّها" (دا 3: 45).

خاتمة
هذا هو مجد الله. إنه قدرة وعزّة. إنه بهاء وضياء. يتجلّى عبر النار والغمام، ويظهر في خيمة الاجتماع وفي هيكل أورشليم، بل يرافق المؤمنين الذاهبين في طريق المنفى. هذا المجد تجلّى أخيراً بكلّ كماله في شخص يسوع المسيح الذي هو ضياء مجد الله وصورة جوهره (عب 1: 3). وعنه قال يوحنا: "رأينا مجده، المجد الذي له من الآب" (يو 1: 14). هذا المجد تجلّى لمحة للرسل على الجبل، بانتظار أن يتجلّى في كل بهائه يوم القيامة فيُحدث زلزلة عظيمة تجعل الحرّاس يرتعدون خوفاً ويضحون كالأموات (مت 28: 2- 4). هذا المجد نعيشه في الكنيسة بصورة خفيّة، بانتظار أن نراه يرافق يسوع العائد إلينا بمجد عظيم ليدين الأحياء والأموات، الذي لا فناء لمكه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM