الفصل الأول: العالم الروماني

الفصل الأول
العالم الروماني

وُلد الإنجيل في العالم الروماني الذي سيطر على كل حوض البحر المتوسط. كما وُلد في العالم اليهودي سواء ذلك العائش في فلسطين، أو ذلك العائش في ما يسمّى عالم الشتات، أي المدن التي فيها تشتَّت اليهود فكوّنوا جماعات تعيش في قسم من حياتها على هامش المجتمع. ونبدأ بالكلام عن العالم الروماني، تاركين إلى فصلٍ لاحق العالم اليهودي.
حين نتحدّث عن العالم الروماني القديم، نتذكّر ما رأيناه في الأفلام من سباق المركبات وصراع المتحاربين في الحلبة أمام جماهير المشاهدين، وجنون كاليغولا أو نيرون... قد تخفي هذه الصور الملخّصة واقعاً مهماً. وهو أن المملكة الرومانية صارت في القرن الأول المسيحي ضرورة اقتصاديّة فرضت نفسها حتى على المحتلّ نفسه عنيت به الرومان.
1- البحث عن سلطة قوية
إحتلت رومة في القرن الأول ق. م. عدداً من البلدان. سواء في الجنوب الشرقي أي آسية الصغرى (تركيا الحالية)، سورية، مصر. أو في الشمال الغربي مثل بلاد غالية أي فرنسا.
كان أبطال هذه المغامرات رجال مثل بومبيوس وقيصر وانطونيوس. وقد حملهم نجاحهم في الحرب ومحبّتهم للغنى على أن يحكموا البلاد دون مشاركة أحد. وهذا التعطّش إلى السلطة سبّب عدداً من الحروب الداخلية، إنتهت بالاعتراف بامبراطور (حاكم) واحد وكليّ القدرة، اسمه اوكتافيوس (31 ق. م.). كان الامبراطور قائد الجيوش، وهذا ما أتاح له أن يكون السيّد المطلق على كل المناطق التي احتلّتها رومة. في النهاية عّم السلام، ووُلدت سلطة قويّة لا نزاع عليها.
في هذا الإطار السياسي، سُمّي الامبراطور "المخلّص " و"الإله . فقد أخرج مختلف المقاطعات من الحروب الأهليّة ومن السلب والنهب الذي تجرّه هذه الحروب. فأهل آسية وسورية عبّروا عن اعترافهم هذا بشعائر عبادة قدّموها للامبراطور: ذبائح، معابد، كهنة، تماثيل. وهكذا وُلدت العبادة للامبراطور. لم يعارض أوكتافيوس هذه الممارسة بعد أن وعى أن هذه العبادة الدينية تعمل على تماسك مختلف أنحاء المملكة أو تقوّي سلطة الحاكم الشخصيّة.
وعرف أوكتافيوس أن المواطنين الرومان يعارضون هذه العبادة، فرفض أن يؤلَّه وهو حيّ، فقبل لقب اغوسطس الذي يعني محبوب الآلهة وبركة الآلهة. وبعد هذا، أراد بعض الأباطرة أن يُعبدوا كآلهة مثل كاليغولا ونيرون ودوميسيان. وظل آخرون غير مقتنعين مثل فسباسيان، ولكنهم لم يمنعوا توسّع عبادة تخدم مصالح الدولة والامبراطور.
ومع ذلك، يتوزعّ تاريخ القرن الأول المسيحي عددٌ من الأباطرة قُتلوا، مثل كاليغولا وكلوديوس ونيرون ودوميسيان. كما تتوزعه صراعات بين الاخوة من أجل فرض خلف للامبراطور. هذا ما حدث على أثر موت نيرون سنة 68 ب. م. وتتواجه الفرق الرومانية لتفرض قائدها كامبراطور جديد، وهي عالمة أنها إن نجحت ستحصل على الأرض والمال. وإذ أراد الأباطرة أن يتجنّبوا مثل هذه الأحداث، إعتادوا أن يسمّوا خلفهم وهم بعد أحياء.
وهكذا تنظّمت شيئاً فشيئًا بنية سياسيّة جديدة. أزيل نظام القناصل الذين كانوا يحكمون سنة واحدة فقط، وحل محلّهم الأباطرة الذين ألّهوا فتسلّطوا وحدهم على الحكم حتى مماتهم.

2- لماذا سلطة قويّة
عاش الرومان على مدى قرنين من الزمن من غنى المناطق التي احتلّوها. إما احتلّوا فسلبوا فاعتبروا سلبهم حقّاً مكتسباً. وإما سرقوا البلدان بواسطة الحكّام والتجّار. سرقوا القطع الفنيّة، ومحاصيل الأرض. وسرقوا الرجال ليجعلوا منهم عبيداً.
اغتنى الرومان بهذا الشكل. فاستغنوا عن دفع الضرائب واعتادوا أن يعيشوا على حساب البلدان التي احتلّوها. ولكن لم يعد من السهل ضمّ اراضٍ جديدة إلى المملكة. ثم خفّ الدخل من المناطق التي دمّرها السلب وأفقرها فرض الخوّة على الناس. لهذا بدت الحاجة ماسّة إلى سلطة قويّة في نهاية القرن الأول ق. م.، لإخراج البلدان من الضائقة الاقتصادية وتنظيم غناها.
كانت المهمة الأولى لهذه السلطة مهمّة عسكرية. فالامبراطور هو قائد جميع الجيوش. بعضها يقف على حدود الامبراطورية ليردّ هجمات البرابرة. والبعض الآخر يقيم في مناطق لم تزل مضطربة مثل فلسطين.
ونتج عن هذا الوضع سلام سهّل شغل الارض الذي هو ضروري لإطعام شعوب المملكة، كما أتاح للعمل التجاري أن يتوسَّع. ورغم ضعف وسائل النقل، غطّت الطرق مناطق الامبراطورية وربطتها بعضها ببعض، كما ازدهرت التجارة على البحر فحملت إلى رومة القمح والخمور والتحف الثمينة.
أحاط بالبحر المتوسط بلدان تنتمي كلها الى الامبراطورية. لهذا سمّي البحر المتوسط "بحرنا" (بلغة الرومان) فصار بحراً داخليّاً يجوبه أصحاب البنوك وبناة السفن والتجّار الكبار وكلّهم يبادلون ويربحون.
وكانت المهمّة الثانية لهذه السلطة أن تجمع غنى المقاطعات وترسلها إلى رومة. فرتّبت نظامًا إداريّاً يُوصل هذا الغنى إلى هدفه. كان الشيوخ يُرسَلون الى المناطق مرة كل سنة. أما أغوسطس فكوّن جهازاً من الموظفين ليحل محل هؤلاء الشيوخ. أخذهم من طبقة غنية هي طبقة "الفرسان". مثلوا الامبراطور في مختلف المقاطعات، ومارسوا العدالة ونظّموا الضرائب. وفي منتصف القرن الأول، قوّي كلوديوس هذا الجهاز، فحرّر العبيد ووظفهم ووزعهم في المملكة كلّها. وهكذا وصل المال إلى الخزينة والقمح إلى رومة.
ولكن الامبراطورية لم تكن في تلك الحقبة دولة بيروقراطية. فقد عرف الرومان أن يشركوا الارستوقراطيات المحلّية في إدارة المناطق. نجحوا بما حصل عليه هؤلاء الارستقراطيون من مال وجاه. ودلّ الرومان بهذه الطريقة على احترامهم لخصائص كل منطقة وكل شعب. وهكذا سهّلوا تكوين بنية ورثوها من الممالك الهلنستية التي تركها الاسكندر في سورية (السلوقيون) ومصر (البطالسة) ومكدونية. لقد نظَّموا المدن أو الحواضر.
فهذه الحواضر كانت مركزاً مهماً للتجارة وتبادل السلع. أدارت منطقة ملكية تعيش منها وتقوم بواجباتها تجاه السلطة المركزية. سنتعرف مثلاً الى كورنتوس وتسالونيكي وأفسس... ونقول حالاً إن الرومان استخدموا هذه البنية وطبّقوها على مقاطع لم تكن موجودة فيها. وهكذا ربطوا بسلطة قوية عدداً من الأوضاع المحلّية كانت الحاضرة النموذج الأول لها.

3- البنى الاجتماعيّة والايديولوجيّة
هذا الانشداد بين السلطة السياسيّة والارستوقراطيات المحلّية، جرّ المجتمع إلى تناقضات يصعب حلّها. ففي رومة كما في المناطق، إستفاد الوجهاء من السلام لكي يجمعوا الثروة. نعموا في الحواضر بالسلطة والشرفيات، وهم وحدهم يستطيعون أن يديروها بأموالهم. ولكنهم لم يعلموا أن هذه السلطة موقتة وعرضة للخطر: تكفي رسالة من الامبراطور فينتهي كل شيء: تُصادر الأموال ويذهب صاحبها إلى المنفى أو إلى الموت. في مثل هذه الحال، تكون ردّة الفعل الأولى أن ننعم بالحياة وأن نبذّر المال وفي هذا الإطار أيضاً توسّعت فلسفة احتقار هذا العالم واسمها الرواقية.
أقرَّ الحكيم أنه يعيش في عالم لا يستطيع أن يبدّل فيه شيئاً، فانزوى على نفسه وترك القدَر يصنع ما يشاء. لم يكن أكيداً من الحرية السياسية، فاستنبط لنفسه الحرية الداخليّة. هذه هي الرواقية التي انتشرت في كل أنحاء الامبراطورية وبلغت إلى كل طبقات المجتمع. مثلاً، كان إبيكتات، وهو المولود سنة 50، عبداً لأحد الأغنياء فقضى جزءاً من حياته واعظاً متنقلاً في آسية الصغرى (هذا ما سيكونه بولس).
هذا الحماس لا يُدهشنا، لأن عالم الفقراء وهو الاكثر عدداً، وجد نفسه في وضع اجتماعي لا يستطيع الخروج منه. فالعبيد العديدون في المدن الكبرى يخصّون معلميهم (هو يملكهم كما يملك ثوره أو حماره). وإن تحرّروا ظلّوا مرتبطين بمواليهم (مثلاً، يأخذون اسم مولاهم السابق). ويبقى الأحرار. إنهم فقراء ولذا عليهم أن يعملوا ويكدّوا. ولكن العمل اليدوي يحطّ من قدر الإنسان ويجعله غير أهل للحرية.
عرف الشعب أن عليه أن يُولد ويحيا ويموت دون أمل بتقدّم اجتماعي. وبدا له العالم مطبوعاً بالقدر. بحث عمّا يحرّكه فلجأ إلى الاسترولوجيا أو علم الكواكب. وإذ عرف مسيرة الكواكب ترجّى أن يسيطر على قدر يُفلت منه.
وفي هذا العالم المغلق انتشرت الديانات الجديدة، انتشرت الديانات السرّانية. جاءت من الشرق إلى الغرب فوصلت شيئاً فشيئاً إلى عظمى مدن الامبراطورية. وتعارضت في مبادئها كما في ممارساتها مع الديانات الرسمية. كان لكل حاضرة آلهتها. ولكن حُصرت عبادتهم بالمواطنين الأحرار، وأمّن لهم الاكرام الوجهاء من كهنة وحكّام، فقدموا لهم الذبائح والتقدمات.
هذه الديانات الرسميّة لا تهمّ الذين لا يستطيعون البلوغ إلى سياسة الحاضرة. أما الديانات السرّانية فتلغي الفوارق بين الأعراق والطبقات. فسواء كان المتدرّجون أحراراً أم عبيداً، مواطنين أم غرباء، فهم يصبحون اخوة ويبلغون إلى عالم جديد هو العالم السماوي. ويرمز إلى هذا التحوّل احتفالات تشدّد فيها الهلوسة والانخطاف على تجديد الأفراد.
ورافق هذا الغليان الديني تفسير نظري للعالم. إنه الغنوصية (أي عالم المعرفة). لا تنطلق هذه المعرفة من الدرس والبحث والمراقبة، بل هي محفوظة للمتدرّجين بواسطة الروح الإلهي. تقول الغنوصية إن العالم مقسوم بين الخير (العالم السماوي) والشرّ (المادة). غطِّس العالم في هذه المادة لأنه خلق بتغطيس شرارة إلهية في هذا العالم المادي. والمعرفة (أو: العرفان) وحدها كما يوحي بها "مخلّص" جاءت من عالم السماء، تتيح للمتدرّج أن يتحرّر من التصاقه بالمادة وأن يعود إلى الدائرة السماوية. هذه الغنوصية أتاحت للفقراء أن يتجاوزوا وضعهم كأشخاص أدنياء في المجتمع، وأن يبلغوا بالوحي إلى العالم السماوي.
هل هذا بعيد عنا ونحن نهتم بالابراج والمغامرات الهائلة، ونحن نترك الخيال لا الواقع يسيطر علينا؟ ويبقى أن المسيحيين الأولين تأثّروا بهذا المحيط الفكري. إذن، لن نعجب حين نرى بولس يهاجم المسيحيين المأخوذين بهذه الميول السرانية (مثلاً، في كولسي)، ويوحنا يهاجم النظريات الغنوصية.
هذا العبور إلى العالم الوثني لا ينسينا العالم اليهودي الذي فيه ترعرعت المسيحية الأولى. هذا ما سيكون موضوع الدرس المقبل.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM