الفصل الثامن: أناجيل القيامة

الفصل الثامن
أناجيل القيامة

يجد كل إنجيل ذروته في إعلان قيامة يسوع بشكل أخبار تروي زيارة النسوة إلى القبر، وظهورات لبعض النسوة، للتلاميذ، وخصوصاً للجماعة "الرسمية"، جماعة الرسل حول بطرس (مت 28؛ مر 16؛ لو 24؛ يو 20 -21).
نتوقّف أولاً عند الأخبار الإنجيلية حول القيامة، ثم نتحدّث عن الحياة الجديدة في الروح كثمرة لقيامة يسوع.

أ- الأخبار الإنجيلية
نجد هذه الاخبار في الأناجيل الأربعة، وهي تبدأ بزيارة النسوة إلى قبر يسوع. ولكن ما يلفت نظرنا أولاً هو الاختلافات بين نص وآخر. كيف السبيل إلى التعبير عن خبرة لا تقع تحت الحواس؟ بعد هذا نعالج مسألة الظهورات ثم القبر الفارغ.

1- الاختلافات
حين نقابل التقاليد نجد اختلافات عديدة لا نستطيع الآن أن ندرسها بالتفصيل. فإنجيل مرقس لم يتضمّن في فترة أولى (قبل أن يزاد عليه 9:16 - 20) إلاّ خبر اكتشاف القبر الفارغ. وتفرّد متى ويوحنا بذكر لقاء يسوع مع النسوة (مريم المجدلية ومريم الأخرى حسب مت 9:28- 10؛ مريم المجدلية وحدها حسب يو 20: 11- 18).
وهناك اختلاف آخر يلفت النظر. جعل متى لقاء الرّب مع التلاميذ في الجليل وحسب رسمة توافق لغة ارتفاع يسوع المسيح. أما لوقا ويوحنا فجعلا اللقاء يتمّ في أورشليم وحسب رسمة توافق فكرة القيامة: كما أن يسوع انتقل من الموت إلى الحياة، إنتقل التلاميذ بفضل يسوع الذي التقوه، من عدم الإيمان إلى الإيمان، من الصمت إلى الكلام، ومن الخوف إلى الشهادة. أما إعطاء الروح القدس الذي يعبرّ عن مشاركة البشر في دينامية القيامة، فقد جعله يتم يوم الفصح بالذات (يو 20: 22). أما لوقا فرأى فيه عطية يوم العنصرة، وقد جاءت تكمّل وتكرّس خبرة الإيمان بالقيامة: لقد صار التلاميذ شهوداً في قوّة الروح القدس (أع 2: 1- 41).
يجب أن نأخذ هذه الاختلافات بعين الاعتبار إذا أردنا أن نفسّر تفسيراٍ صحيحاً خبرة الظهورات والقبر الفارغ كما نجدها في الأناجيل. فهذه الوقائع هي علامة عن القيامة. والأخبار التقليدية التي تذكرها دوّنت لتساعد المؤمنين على قراءة العلامات وفهمها.

2- الظهورات
نلاحظ أوّلاً أن مجمل النصوص تجعل يسوع يدخل "على المسرح " بصورة غير متوقّعة. له المبادرة، وهو يسبق تلاميذه إلى مكان أعلن عنه سابقاً (مت 16:28- 17). أو هو يصل فجأة ليختفي فجأة دون أن يعرفوه في البداية (لو 24: 15، 31، 36؛ يو 20: 14، 19، 26؛ 21: 4)، ويُعلن يوحنا أن يسوم دخل "والأبواب مغلقة ". وحسب لوقا، ظن التلاميذ أنهم يرون "خيالاً" أو" شبحاً".
إذن، إهتم الإنجيليون بأن لا يجعلوا من هذه الظهورات لقاءات (مشهد تقبيل وعناق) محضة كما قبل الفصح، قبل القيامة. فالعناصر "الجسدية" و"السمعية البصرية" هي ضرورية للتحدّث عن هذه الظهورات. ولكنّها جعلت هنا مع التشديد على السرّ، على ما هو غير منتظر، على تعرّف إلى يسوع بعد الفصح لا يشبه التعرّف إليه قبل الفصح.

أولاً: لقاءات حقيقية
يحدّثنا لوقا ويوحنا عن خبرات واقعية جداً: بدا يسوع ورجلاه وجنبه المثقوبة، ويستطيع الواحد أن يراها أو أن يلمسها. نحن أمام كسر الخبز (لو 30:24) أو غداء من سمك مشوي (لو 24: 41- 43؛ يو 12:21). ولكن هذه العناصر وُضعت في الأخبار لأسباب لا تتعارض مع الملاحظة السابقة. نحن أمام تماثل بين يسوع التاريخ وهذا الذي يكشف عن نفسه حياً وقائماً من الموت. نحن أيضاً أمام "واقع " القيامة: فالظهورات ليست رؤى تنبع من باطن التلاميذ، بل لقاءات ترجع إلى مبادرة يسوع الناصري المصلوب الذي انتقل كلّه (بما فيه جسده) إلى حياة جديدة.
أراد تقليد لوقا ويوحنا بهذا الكلام أن يواجه "روحنة" مسبقة للقيامة والإنجيل. فكل الحقائق البشرية ستتبع مثال القائم من الموت. إنها مدعوة إلى تجلٍّ، إلى تحوّل عميق بقدرة حب الله الخلاّق.

ثانياً: ولادة الإيمان والرسالة
ولكن بنية أخبار الظهور تمنعنا من تفسيرها وكأنها تصوير للقاءات حدثت بالتفصيل. فإذا وضعنا جانباً متى الذي يدلّ خبره على قامة يسوع "السماوية"، يسوع الذي صار بقيامته سيّد التاريخ وديّانه، إذا وضعنا متى جانباً، تنبسط الأخبار حسب الرسمة عينها: في البداية لا يعرفون يسوع، ثمّ يعرفونه بفضل إشارة أو كلمة تبدر منه. هذه الأخبار هي أخبار تعرّف إلى يسوع أو ولادة الإيمان.
وفي الوقت عينه، يُقاد التلاميذ من اللايمان والشك إلى تعلّق حيّ بيسوع المنتصر على الموت. ويجدون نفوسهم مسؤولين وشهوداً عن القيامة والإنجيل. إذن، هذه الأخبار هي أخبار إرسال ودعوة. وكل شيء (كلمات وعطية الروح) فيها يدلّ على ولادة الكنيسة الموكّلة على إنجيل الناصري المصلوب والقائم من الموت.
وأخيراً، نجد خطاًَ ثالثاً في هذه النصوص. فالظهورات تحاول أن تقنع التلاميذ بضرورة غياب يسوع المسيح. غياب "يرونه بعيونهم " فيحمّلهم المسؤولية التاريخية كشهود، ولكن هذا الغياب هو شرط لحضور أكثر تأثيراً وشمولاً من قبل المسيح الحي في حياة البشر. وهذا ما يرتبط بمواضيع الروح الذي يُعطى وحضور يسوع مع أخصّائه حتى نهاية العالم.
إن اعتراف الإيمان في 1 كور 15 قد تحدّث عن الظهورات على أنها أصل الشهادة الرسولية عن القيامة. ونفهم الآن فهماً إفضل لماذا أعطتها التقاليد الرسولية هذه المكانة الكبيرة. إنها ينبوع الشهادة الرسولية. ولكننا لا نستطيع أن نجعلها "شيئاً" في أيدينا، أو نقرأها بشكل مادي. حين نعتبرها مؤسسة الإيمان الفصحي هذا يفرض علينا أن نفسرّها على أنها أعمال القائم من الموت: "يراها" الإيمان، وتعبرّ عنها اللغة الرمزية.

3- القبر الفارغ
يتضمّن كل إنجيل حدث النسوة الذاهبات الى القبر في اليوم الأول من الاسبوع (أي: يوم الأحد). حين وصلن رأين القبر مفتوحاً. ولم يجدن فيه جسد يسوع. وشرح لهنّ هذا الواقع ملاك أو شاب في لباس أبيض فأعلن لهنّ: "لا ترتعبن! أنتنّ تطلبن يسوع الناصري المصلوب. ما هو هنا، بل قام. وهذا هو المكان الذي وضعوه فيه " (مر 16: 6).
هناك اختلافات هامة في تقاليد القبر الفارغ، ولكنها ترتبط كلّها بالرؤى الجليانية: البلاغ الفصحي يعلنه شخص سماوي في المكان الذي فيه دلّ الموت على سلطته وانتصاره على يسوع، هذا البلاغ يدلّ على انقلاب جذري في النظرة إلى الأمور. فقيامة يسوع هي عمل الله، والله وحده يقدر أن يكشفها. إنها هذا الوقت الحاسم في تاريخ البشر، الذي يدلّ على نهاية عالم عتيق وخاضع لسلطات الموت. كما يدلّ على تفجّر عالم جديد، وخلق جديد فيه يتجلىّ الجسد. فيه يتجلىّ الإنسان كحضور وكعلاقة حية مع الله ومع البشر. أخيراً، تصل القيامة إلى المؤمنين ككلمة ترسلهم إلى إخوتهم في الجماعة كما ترسلهم إلى البشر.
هذا هو المدلول الأساسي لتقليد القبر المفتوح. ونحن نجد في أصل هذا التقليد احتفالاً يتمّ قرب القبر إكراماً ليسوع القائم من الموت. هذا المكان وافق كل الموافقة إعلان الغلبة على الموت، وإيصال بلاغ يورد جوهر الإيمان الفصحي.
ونلاحظ أننا لا نجد موضوع القبر الفارغ خارجاً عن التقليد الإنجيلي. لا نجده في أقدم التعابير الإيمانية حول الإيمان الفصحي. إن علامة القبر تختلف عن علامة الظهورات، وهي لا تستطيع وحدها أن تكون أساساً إيجابياً للإيمان بالقائم من الموت. فقيمتها كأثر للقيامة في التاريخ، ومدلولها اللاهوتي لا يُدركان إلاّ في داخل الإيمان بالمسيح القائم من الموت. لا قيمة للقبر الفارغ كبرهان، وهو علامة سلبية قد تهيّئنا لموقف إيجابي. وقد ألهمنا إنجيل متى أن القبر المفتوح والفارغ قد نالت تفسيراً آخر بين اليهود: "تلاميذ يسوع جاؤوا ليلاً وسرقوه ونحن نائمون "

ب- حياة جديدة في الروح
كان من الأهمية بمكان أن نفهم إعلان قيامة يسوع ونربطها بمسيرة التلاميذ الذين صاروا مؤمنين وشهودا بعد القيامة، كما نربطها بالأسفار التي تعكس هذه المسيرة. ولكننا لا نحصر مدلول القيامة في ماضٍ يؤسّس الإيمان المسيحي. بل نتطلع إلى الحاضر وإلى المستقبل.
إكتشفنا في الماضي أن النص الذي يعلن قيامة يسوع يعلن في الوقت عينه (بصورة مباشرة أو غير مباشرة) تجديد البشر وحياتهم، يعلن مستقبلاً جديداً. لهذا سنستعيد مجمل النصوص على ضوء هذا الاكتشاف ونكتفي بالوجهتين المهمّتين.

1- الخليقة الجديدة
يكثر العهد الجديد، وبصورة خاصة بولس الرسول، من الأقوال عن الخليفة الجديدة والإنسان الجديد الذي يبدأ مع يسوع القائم من الموت، وآدم الثاني (روم 5: 12- 20؛ 1كور 15: 44- 48)، وصورة الله (كو 1 : 15). القيامة هي إعلان مستقبل آخر للكون وللبشر منذ الآن وحتى تتمّة التاريخ (كو 3: 10؛ أف 2: 15؛ 4: 24).
كيف نفهم دينامية هذا العالم الجديد، دينامية القيامة؟ هناك لغة ومواضيع ترتبط بانتظارات يعبرّ عنها العهد القديم والعالم اليهودي المعاصر ليسوع، ولكن لا وقت الآن لنتوسّع فيها.

2- الروح هو حياتنا
الروح القدس هو قدرة الله العاملة في الكون والتاريخ لتحوّل كل شيء تحويلاً كاملاً إلى صورة الله: في النور والعدالة والحبّ، والتناسق بين الإنسان والكون. الروح هو حضور الله الفاعل. هو موهبة "الأزمنة الأخيرة" وواقعها.
لهذا يرتبط الروح وقيامة يسوع ارتباطاً وثيقاً. فالروح هو بعد اليوم "روح ذاك الذي أقام يسوع من بين الأموات" (روم 8: 11). ونجد أيضاً عبارة إيمان قديمة يوردها القديس بولس: " في شأن ابنه الذي في الجسد جاء من نسل داود، وفي الروح القدس ثبت أنه ابن الله في القدرة بقيامته من بين الأموات، ربنا يسوع المسيح " (روم 1: 3- 4).
إن موت يسوع وقيامته هما الذروة في تضامنه مع البشر كلّهم. والناس يدخلون في هذا التضامن المسيحي بالإيمان والارتداد العميق في كيانهم وعملهم ارتداداً يجعلهم يبنون العالم الجديد: إنهم يشاركون روح المسيح ويعيشون منه (الروح هو حياتنا، روم 8: 10). يستطيعون أن يُولدوا من جديد، ويصنعون مع المسيح عالماً يتوق كلّه إلى "حريّة أبناء الله" (روم 8).
إن الكنيسة، جماعة تلاميذ يسوع في العالم، لا تستطيع أن تعرف ربّها وتعلنه للعالم إلاّ في قوّة الروح. ومعمودية المسيحيين تجعلهم في تيار موت وقيامة المسيح (القائم من الموت) الذي يمنحهم لا روح العبودية، بل روح الحرية. هذا هو رجاء المؤمنين. وهذا الرجاء يعطي إيمانهم ومسؤوليتهم التاريخية أفقاً واسعاً وسع العالم ومستقبل البشر.
والعهد الجديد لا يفصل بين الإيمان بقيامة الأموات والإيمان بقيامة يسوع. فكل ما يكوّن الواقع البشري في التاريخ معنى بالرجاء بالقيامة. "فالذي أقام يسوع المسيح من بين الأموات، يعطي أيضاً أجسادنا المائتة الحياة بروحه الذي يسكن فينا" (روم 8: 11).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM