الفصل الثالث عشر: يوم الرب

 

الفصل الثالث عشر
يوم الرب
5: 1- 6

وصل بولس منذ قليل إلى كورنتوس حيث تلقّى أخباراً طالما انتظرها عن المسيحيّة في تسالونيكي وحين تلقّى هذه الاخبار، كتب حالاً 1 تس حيث شكر الله على عمله من أجل هؤلاء الأشخاص. وإذ اراد أن يساعد قرَّاءه على الدخول في فعل الشكر هذا، أعطاهم أن يعرفوا ما يعيشون (ف 1- 3). ثم دعاهم إلى النموّ في هذه الحياة المسيحيّة والثبات في الرجاء (4: 13- 5: 11). أما الآيات التي نقرأها هنا فهي تنتمي إلى هذا السياق، فتعالج بشكل خاص انتظار يوم الربّ. فإذا أردنا أن نفهم بشكل وافٍ هذه الآيات، يجب علينا أن نلقي الضوء على العبارات التي استعملها بولس. فنعيدها إلى قرائنها لكي نكتشف إلى أيّ رجاء دعا بولس المسيحيّين في تسالونيكي.

1- يوم الرب
بدأ بولس يعالج "الأزمنة والاوقات" كحدث محدّد جداً. وهذا ما يدّل عليه الـ التعريف. تكلّم الساعة عن هذا الحدث، وهو مجيء الربّ، لكي يؤكد ان جميع المسيحيّين، امواتاً واحياء، يشاركون فيه معاً (4: 12- 18). ويوضح أيضاً في 5: 2 أننا أمام يوم الرب.
إن عبارة "الأزمنة والاوقات" تنتمي إلى اللغة الاسكاتولوجيّة للكنيسة الأولى كما تسلّمتها من عالم الرجاء اليهوديّ. ترتبط بيقين ورغبة: يقين بأن الله في حكمته السريّة، يعرف وحده الزمن الذي حددّه في توالي الحقبات من أجل تمام قصده (أع 1: 7؛ مر 13: 32؛ دا 2: 21). ورغبة بأن نرى هذا اليوم، وهي رغبة حيّة جداً في أزمنة الضيق، وحين يرجو المضطهدون انقلاب الأوضاع فيحاولون أن يعرفوا علامات الأزمنة وتدخّل الله الحاسم.
"يوم الرب" في التوراة اليونانيّة يقابل "ي و م. ي ه و ه" في التوراة العبريّة. فقد كشف عاموس (5: 18- 20) عن غضب الله على شعبه، فندّد بعمى رجائهم: تطلّع بنو اسرائيل إلى يوم الربّ، وتخيّلوه بحسب رغبتهم، يوم انتصار لشعب اسرائيل، يوم نور وضياء للشعب المختار. ولكن أعلن عاموس أن ذلك اليوم سيكون يوماً مظلماً لا يستطيع أحد أن يُفلت منه.
منذ نصّ عاموس هذا، انضم إلى يوم الربّ ذكرُ الظلمة وإشارة إلى هرب مستحيل ساعة ينكشف غضب الربّ. ونحن نجد العناصر عينها في أش 2: 6- 22. وفي صف 1: 14- 18، نقرأ "قريب يوم الرب وعظيم. قريب وسريع جداً. صوت الربّ مرّ. يوم حنق ذلك اليوم، يوم ضرر وضيق، يوم إبادة وإتلاف، يوم ظلمة وديجور. يوم غمام وضباب".
بعد المنفى شدّدت النصوص على الخلاص أكثر ممّا شدّدت في السابق. فيوئيل الذي تصوّر أيضاً اليوم الآتي (2: 1- 11) كيوم ظلمة وظلام، كيوم لا يستطيع أحد أن يجابهه قال: "كل الذين يدعون باسم الرب يخلصون" (يحيون) (3: 5). وقال ايضاً: "سيكون الربّ لشعبه ملجأ ولبني اسرئيل حصناً" (4: 16). في العهد القديم يمتزج يوم الربّ مع إقامة الحقبة المسيحانيّة، لأنه يوم تتمّة القصد الخلاصيّ. في ذلك اليوم، يعلن الله القدوس سيادته على العالم. وكل قدرة وكل كبرياء تعارض هذه السيادة، ستحترق بنور قداسته الالهيّة.
في الكرازة المسيحيّة، يوم الربّ هو يوم إعلان سيادة يسوع على الجميع، لأن الرب جعل من يسوع الذي صُلب في أورشليم المسيح والربّ (أع 2: 36). وأقامه دياناً للاحياء والأموات (أع 10: 36، 42؛ 17: 31). كل البشر سيقفون بحضرة سيادته، لأن الله يتمّ العمل الذي بدأه، ذلك اليوم يُتم التاريخ ويُحقّق البشريّة التي خلقها الله تحقيقاً كاملاً (2 كور 5: 17).
فالذين يعترفون بسيادة يسوع يتّحدون به على الدوام، يعيشون معه، وبالتالي ينجون من الغضب (1: 10) والدمار (5: 3) اللذين يقعان على الذين فضّلوا أسياداً أخرى وآلهة اخرى. سيكون في شكل من الاشكال يوم القتال الاسكاتولوجيّ ضدّ كل من يريد أن يسود على البشر، يوم انتصار المسيح على كل القوى بمن فيها الموت. "ثم يكون المنتهى متى يسلّم الملك لله الآب، بعد أن يكون دمرّ كل رئاسة وكل سلطان وكل قدرة... وهى أخضع له كل شيء فحينئذ يخضع الابن نفسه للذي أخضع له كل شي، ليكون الله كلاً في الكلّ" (1 كور 15: 24- 28).
لا يحتاج المسيحيون في تسالونيكي أن يُكتب لهم عن الأزمنة والأوقات المتعلّقة بذلك اليوم. فهم يعرفون كل المعرفة من تعليم بولس وخبرته المتنامية لطرق الله، أن مجيء ذلك اليوم يكون كمجيء لصّ في الليل.

2- مجيء ذلك اليوم والغافلون
فكما اللصّ في الليل، كذلك يأتي يوم الرب في ساعة لا ننتظرها. الليل هو زمن الغفول واللاوعي، زمن النوم والسكر (5: 7). واللص يأخذ اللاواعين على غفلة. "لو عرف ربّ البيت في أية ساعة من الليل (في أية هجعة) سيأتي السارق، لسهر ولم يدع بيته يُنقب" (مت 24: 43؛ لو 12: 39). وكذلك أخذ على غفلة اللاواعين في أيام نوح وفي أيام لوط (لو 17: 26- 30). "كانوا يأكلون ويشربون، ويشترون ويبيعون، ويزرعون ويبنون، دون النظر إلى ما يفعله الربّ".
وكان الانبياء، قد ندّدوا بـ "سكر" بني اسرائيل الذين "بنوا بيوتهم باندفاع، ولكنهم لم يهتمّوا لعمل الربّ، ولم يتأمّلوا في صنع يديه" (أش 5: 12). ما استطاعوا أن يستمعوا إلى نداءات الربّ، فغرقوا في طمأنينة سرابيّة وكاذبة. "داووا جرح شعبي باستخفاف قائلين: سلام، سلام، وليس سلام، (إر 6: 14؛ رج حز 13: 10).
ذكر بولس هذا الوضع بالنسبة إلى الذين استسلموا لمقاصدهم ورغباتهم، فجهلوا حقيقة التاريخ التي انخرطوا فيها، وناموا مطمئنيّن في نجاحهم: "حين يقولون: سلام وآمن، حينئذ يدهمهم الدمار فجأة كما يدهم المخاض المرأة الحبلى، ولن يفلتوا" (آ 3). لا ترد لفظة "الدمار" مراراً في العهد الجديد. لا نجدها إلا هنا، وفي 1 تس 1: 9 (سيعاقبون بالدمار الابدي)؛ 1 تم 6: 9 (تغرق الناس في الدمار والهلاك). وهي تدّل على نتيجة الغضب في ذلك اليوم، على عكس الراحة وعكس الخلاص الذي يُمنح للمؤمنين (1 تس 1: 29).
والطابع المفاجيء والقاسي لهذه الدينونة قد قيل عن يوم الرب (عا 5: 18-20؛ أش 13: 6- 9، 13): هذا ما يحدث للاشرار الذين يدركهم غضب الله كما تدرك الآلامُ المرأة الحبلى (أش 13: 13؛ إر 30: 6؛ رج 4: 31؛ 6: 24). والخلاص الذي يأتي فجأة يشبّه هو أيضاً بولادة بدون ألم. "وَلدت قبل ان تتمخّض" (أش 66: 8).
إذن استعاد بولس بعض هذه العبارات الموجودة في الاسكاتولوجيا المسيحيّة، وقد ورثها من العالم اليهوديّ، فذكّر مراسليه بسمة هامّة في يوم الربّ: لا نستطيع أن نتوقّع مجيء ذلك اليوم. فالذين عميت قلوبهم، وغرقوا في ظلماتهم وهم غافلون، سيدهمهم ذلك اليوم كما اللص يدهم ضحاياه في الليل. ويكون المصير هائلاً للمسيحيّ الذي يعرف أن ذلك اليوم يأتي. ولكن القلق الذي يُدرك هؤلاء الغافلين، هل سيعرفه المسيحيون الذين يعرفون أن اليوم يأتي؟

3- ابناء النور
لقد توخّى بولس في آ 1- 5 أن يقابل وضع المسيحيّين مع وضع الغافلين في آ 3: "أما أنتم أيها الإخوة". لا يقيم المسيحيون في هذه الظلمات التي تجعل ذلك اليوم يدهمهم مثل اللصّ، لأنهم أبناء النور وأبناء النهار. قد يكون بعض اعضاء الكنيسة تبلبلوا بالطابع المفاجىء لليوم أو بالنظريات التي نجد أثراً لها في 1 تس. فدعاهم بولس إلى أن يعودوا إلى الحقيقة فيعرفوا أن الله جعل منهم "أبناء النور" (آ 5).
في التقليد البيبلي، العالم الآتي، ذلك الذي يحققّه الله في يومه، هو عالم نور. فنحن نقرأ في أش 60: 19- 20: "بعد اليوم لن تكون الشمس لك نوراً في النهار، ولا يكون لك القمر بضيائه نوراً في الليل (كما في قمران واليونانيّة واللاتينيّة العتيقة). فالرب هو الذي يكون لك نوراً دائماً، وإلهك يكون بهاءك. بعد اليوم، لن تغرب شمسك، وقمرك لا ينقص، لأن الرب يكون لك نوراً دائماً".
تشير هذه الصورة إلى ملء الحريّة، ملء الخلاص، ملء الحياة، إلى معرفة تامّة للربّ ننتظرها في تدخلّه الحاسم. فالموعودون بعالم النور هذا ووارثوه، يُدعون أبناء النور والنهار. أما الآخرون (آ 6)، أولئك الذين ينامون أو يسكرون، اولئك الذين يدهمهم اليوم في ليلهم، يُدعون أبناء الظلمة. فالعالم الآتي، عالم الله، هو الذي يجتاح عالمنا ويقوم بهذا الفصل بين الفئتين. وتدخّلُ الله في حياة البشر ومجيء النور الى العالم، هذا ما يجعل كل واحد منا ينفتح على عالم الله، على النور، أو ينغلق على نفسه في ظلماته.
في العهد الجديد، عالم الله هو سيادة المسيح. وفي تسالونيكي، أدرك حبّ الله بواسطة الرسل أناساً أعطوا ذواتهم له. بعد اليوم، عرف هؤلاء أنهم محبوبون من الله، وموعودون بحياة مع ربّهم. وأن حياتهم كلها قد أعطيت من أجل تحقيق يرتقي في الكمال لسيادة الرب يسوع. وبولس نفسه استطاع أن يلاحظ "عمل إيمانهم وتعب محبتهم وثبات رجائهم في ربنا يسوع المسيح" (1: 2).
كل هذا يعني أن الله قد هيّأ هؤلاء الناس من أجل عالمه، جعلهم أبناء النور وأبناء النهار. هم غير الغافلين، فلا يمكن ليوم الرب ان يدهمهم إن أدركهم بغتة. وبالرغم من أنهم يجهلون زمن ذلك اليوم، فهم يعيشون له ويعملون. ما قاله بولس هنا بإيجاز (لأنكم كلكم أبناء النور وأبناء النهار)، ها هو يوضحه في نهاية هذا المقطع: "لأن الله لم يجعلنا (لم يحتفظ بنا) للسخط (للغضب)، بل لاقتناء الخلاص بربّنا يسوع المسيح الذي مات لأجلنا لكي نحيا جميعاً معه، ساهرين كنا أم نائمين" (5: 9- 10).

4- السهر
مع آ 5 ب وسّع بولس نظرته. كان قد كتب في آ 1- 5 أ: لا يستطيع يوم المجيء الرب أن يدهمكم. لن تسمحوا بذلك. وها هو يكتب الآن: حياتنا هي انتظار الرجاء لذلك اليوم. نلاحظ أن بولس انتقل من صيغة المخاطب الجمع (أنتم، أنتم تعلمون) إلى المتكلّم (نحن، لسنا من أهل الليل). وهذا العبور يتمّ من دون رباط غراماطيقي. بل اكتفى بولس بأن يستعيد بشكل سلبيّ كلمات التأكيد الأخير: أنتم لستم في الظلام (آ 15). نحن لسنا من اهل الليل (آ 5 ب): نور ونهار، ليل وظلمة.
إن آ 5- 6 تقدّمان لنا موضوع التحريض، كما أن آ 1- 2 كانتا مقدمته. وسيتوضّح هذا الموضوع في تصوير وضع المسيحييّن (آ 7) الذي يقابله بولس بالوضع المسيحي (أما نحن، كما في آ 8: أما نحن أهل النهار فلنصحُ) وبأساسه (لأن الله لم يجعلنا آ 9-10). هو التوسّع عينه الذي وجدناه في القسم الأول: الوضع الديني (آ 3: يقول الناس: أمن وسلام)، الوضع المسيحيّ (آ 4: أما أنتم أيها الاخوة)، وأساسه (آ 5: لأنكم جميعاً أبناء النور). وهكذا نرى أن آ 1- 5 أ تحتاج إلى نور يأتيها من آ 5 ب- 10.
"لسنا من الليل ولا من الظلمة، إذن لا ننم كالآخرين، بل لنسهر ونصحُ من سكرنا" (آ 5 ب- 6). اللانوم هو بشكل إيجابي أن نسهر ونبقى صاحين. فالنوم، شأنه شأن السكر، يغرقنا في الليل وفي الغفلة (اللاوعي). هنا يبدو بولس وارثاً لصور قديمة نجدها عند الانبياء. وإذ يدعونا بولس إلى أن نكون صاحين، فهو لا يدعونا إلى العفّة في الطعام، بل إلى الوعي والتنبّه إلى عمل الله وتوسّعه التاريخيّ. قال أش 5: 11- 13: "ويل للقائمين من الغداة في طلب السكر، المستمرّين إلى العتمة والخمر تلهبهم. وفي مآدبهم (حفلات الأكل والشرب) القيثارة والعود والدف والمزمار. ولكنهم لا يلتفتون إلى الرب ولا يتأمّلون في صنع يديه. لذلك...".
وحين دعانا بولس إلى السهر، طلب منا أن نتجهّز لمجيء الرب. لا الانتظار المنفعل، الذي يرخي يديه ولا يفعل شيئاً، بل يترك الأحداث تفعل. ولكن نتصرف تصرّف العبد الناشط الذي يهييّء مجيء الرب بموقف إيجابي وفاعل. وهذا السهر الواعي هو حرب من أجل سيادة الربّ وحده (آ 8) في معرفة عطيّة الله (آ 9- 10).

5- رجاء المسيحيّين في تسالونيكي
إن السياق المباشر الذي يحيط بـ آ 1- 6 هو نداء لكي نعيش الرجاء في قلب القلق الذي ظهر في الكنيسة بالنسبة إلى الموتى، وبالنسبة إلى النهار (4: 13- 5: 10). ولكن بولس يوسّع النظرة في آ 5 ب- 10 فيقول: قد وُضعت كل حياة هؤلاء المسيحيّين في إطار الرجاء، والرجاء هو الذي يحدّد الجديد في حياة هؤلاء الناس منذ مرّ الرسل في وشطهم.
يكفي أن نجول في هذه الرسالة البولسيّة الأولى، لنلاحظ كم يرجو هو بنفسه وكم يرجو المسيحيّون يوم الربّ الذي يتمّ عمل الخلاص وقد بدأ منذ الآن. لا شكّ في أن بولس ومراسليه لا يعرفون متى يجيء ذلك اليوم. ولكنهم يعيشون من أجلى ذلك اليوم، ويعملون اعمالهم، ويقومون بخياراتهم بالنظر إلى ذلك اليوم. حين كان بولس مع المؤمنين، دعاهم، شددّهم، ناشدهم بكل ما في قلبه من محبّة لا تطيق الصبرُ بعد، لكي "يعيشوا حياة تليق بالله الذي دعاهم إلى ملكوته ومجده" (2: 12). وها هو يذكّرهم الآن باختصار ما هي هذه الحياة الجديدة: نخدم الله الحيّ والحقيقي، وننتظر ابنه يسوع الذي ينجّينا من الغضب الآتي (11: 9- 10). وهذه الخدمة تعبرّ عن نفسها في ما يعمله الايمان فيهم، في ما تكلّفهم المحبّة من تعب، في استمرار رجائهم برّبنا يسوع المسيح (1: 3).
ولهذا، يرغب بولس من أجلهم ثبات قلوبهم "في قداسة لا لوم فيها أمام الله أبينا، عند مجيء ربنا يسوع مع جميع قدّيسيه" (3: 13). المؤمنون هم فخره. وحياتهم المسيحيّة التي ارتبطت بخدمته، هي العلامة بأن الله تنازل وجعل منه رسوله. وكتب لهم بولس إنهم "اكليل يفتخر به أمام ربنا يسوع عند مجيئه" (2: 19).
هذه الايرادات القليلة تريد أن تدعونا فقط إلى أن نعيد قراءة الرسالة فنكتشف تلك الرغبة التي توجّه حياة بولس والمسيحيّين في تسالونيكي: يرغبون بقيام سيادة الرب يسوع المسيح وحده، بشكل كاملٍ فوق الكون والتاريخ. وهذه الرغبة هي رجاء، لأن تحقيقها يرتبط ارتباط كلياً بالله. أما هم فيحملون فقط خدمتهم "الساهرة". وهذا الرجاء هو ثابت لأن بولس يرى، والمسيحيون معه وبفضله، ان هذا الخلاص قد بدأ. كما يعرفون أن الله أمين، وهو يقود إلى الكمال العمل الذي بدأ به.

خاتمة
كيف نرجو مجيء الرب اليوم؟ نقدم ملاحظتين:
* الملاحظة الأولى: قد يرسم المجيء في عقل بعض السامعين صورة اخرى: ليست هي المجيء، بل نتيجة هذا المجيء: نهاية العالم او بالأحرى نهاية نتصّورما كانقلاب في الكون وزوال العالم بفضل عدد من الكوارث. يعود هذا الجمع بين الصور إلى تفسير حرفيّ لتعابير استعملها الأنبياء والأدب الجليانيّ لكي يدلّوا على ذاك اللقاء المرعب بين الله القدوس والعالم الخاطىء.
غير أن لا شيء يبرّر هذا التفسير الحرفي. لا بولس ولا الأنبياء تخيّلوا تفجّر الكون أو كارثة من هذا النوع. فالمجيء يحمل معه بلا شكّ "نهاية" لـ "هذا" العالم ولكن في معنى خاص هو: أنها تضع حداً لحكم كل القوى التي تتسلّط على حياة البشر، والتي نسميّها الكبرياء، والخوف، وإرادة القوة وغيره. ستكون نهاية هذا العالم بما أنه مسلّم إلى الخطيئة والموت. إذن، كل نظرة إلى كارثة كونيّة، غريبة كل الغربة عن تأكيد مجيء الربّ.
الملاحظة الثانية تعني صور المجيء. فبولس يفكّر (ويتصوّر)، شأنه شأن كل إنسان، في إطار معطيات حضاريّة تحيط به. فحين يتكلّم عن المجيء، ولا سيّما على مستوى 1 تس، فهو يرتبط بالتصوّرات الاسكاتولوجيّة التي ورثها من العالم اليهوديّ. ما اعتبر أنه يصوّر مجيء الربّ الذي لا يمكن أن نعرفه. بل تكلم عن مجيء، عن نزول الرب من السماء ساعة يُخطف المؤمنون في الهواء للقائه (4: 16- 17). وكل مؤمن يعرف أن الله لا يُحصر في مكان من الأمكنة. هو ليس فوق وليس تحت. بل هو فوق وتحت وفي كلّ مكان. بل هو يعلو المكان والزمان. ولا نقول إنه في مكان آخر، بل هو الآخر، أي ذلك الذي يختلف عنّا اختلافاً كلياً.
وظهور يسوع الممجّد ليس نزولاً من السماء، كما لا نستطيع أن نقول بشكل حرفيّ إننا نصعد إلى السماء. ولكن حين نرفض هذه الصور، لا نرفض الواقع الذي تحمله: يسوع جاء إلينا في الجسد، وسيأتي في مجد عظيم. ونحن نذهب إلى لقائه التام بعد أن كانت لنا لقاءات معه على هذه الأرض. ومع ذلك! إذ نرفض الصور، فنحن نعبرّ عن ضعفنا عن تصوير حدث لم يحصل بعد، عن حدث هو بشكل خاص عمل الله. ومن يستطيع أن يدرك عمل الله، أن يحيط بعمل الله؟ بل نحن نستشفّه وننتظره في الرجاء. ولكن لا بدّ من استعمال الصور الزمانيّة والمكانيّة لنتحدّث عن هذا المجيء. وإذا اردنا أن نصل إلى ايمان الرسول، نقرأ هذا الكلام دون أن ننصدم بتمثّلات غريبة عن منطقنا اليوم. أما الجواب العمليّ، فهو السهر في انتظار يوم الرب، لا سهر الخوف، بل سهر الإبن الذي ينتظر الساعة التي فيها يلاقي أباه ويتحّد به اتحاداً يدوم إلى الأبد.
أما النصّ الذي قرأناه فهو يجعلنا على مستوى 1 تس. فيجب أن ندرس مجمل الرسائل لكي ندرس الاسكاتولوجيا البولسيّة. فسيهتّم الرسول في ما بعد بأن يفهم ويوضح وضع المؤمن الحاليّ، والنتيجة الآنيّة لخلاص تدشّن في يسوع المسيح. مثلاً بعد 1 كور 23:5، لا نعود نجد لفظة "باروسيا" (المجيء) في المعنى الذي وجدناه هنا. ولكنه في هذا التوضيح عينه، يذكر رجاء المجد (ر و م 5: 2: 8: 18، 24)، والظهور المقبل لمجد المسيح وأخصّائه (كو 3: 1: 4)، والتحقيق الآتي للانسان الكامل (أف 4: 11- 13)، هذا يعني أنه يرى الحياة المسيحيّة دوماً موجّهة نحو هذه التتمّة لتاريخ الخلاص.
إن الحياة المسيحيّة بالنسبة إلينا كما بالنسبة إلى مسيحيّي تسالونيكي، يوجّهها مستقبل يقول: إن العالم سيكون على غير ما هو الآن. ونحن سنكون غير ما نحن الآن، وذلك بقدرة الله الخلاّقة. غير أن هذا الانفتاح على المستقبل، على البشريّة المتجدّدة في المسيح، ليس استعداداً وجهوزا فحسب، بل هو أمل ورجاء: فليس هناك من حياة مسيحيّة إلا لأن هذا المستقبل يُدرك منذ الآن حاضراً. لأن سيادة يسوع وحياته قد كُشفتا لنا منذ الآن وهما تُشرفان على وجودنا. وهذا الرجاء ثابت في قلب مسيحييّ تسالونيكي، وسيكون كذلك في قلب مسيحيّ اليوم إن أعطي لهم هم ايضاً أن يعرفوا ما يعيشون، أن يعرفوا موهبة الله التي جعلت منهم نوراً ونهاراً في الربّ.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM