الفصل الثاني عشر: مجيء الرب والحياة المسيحية

الفصل الثاني عشر
مجيء الرب والحياة المسيحية
ف 5

قبل أن نتأمّل في ف 5 داخل ثلاثة مواضيع، الأول، يوم الرب (آ 1- 6). الثاني، الجهاد المسيحي بانتظار المجيء (آ 7- 11). والثالث، تحريضات أخيرة عن حياة الجماعة المسيحيّة (آ 12- 28)، قبل ذلك، نتوقّف عند دراسة عامّة لما سميناه "مجيء الربّ والحياة المسيحيّة". تحدّث بولس في ف 4 عن يوم الربّ ووضع المؤمنين الذين ماتوا قبل مجيء الربّ. وها هو بولس يحدّثنا عن هذا الموضوع منطلقاً من تقليد الإيمان المسيحيّ والفقاهة الأولى، فيكيّف كل هذا مع وضع التسالونيكيين وتساؤلاتهم.

1- مجيء الرب (5: 1- 11)
تجاه مجيء الربّ القريب والذي لا نستطيع أن نتوقّعه، يجب علينا أن نسهر، ونحافظ على هدوءنا فلا يأخذ منا القلق (والاضطراب) مأخذه. هذا ما يقوله بولس لأهل تسالونيكي في ثلاثة توسّعات: يوم الربّ كلصّ (آ 1- 3). نسهر في العفّة (آ 4- 8). فالله جعلنا للخلاص (آ 9- 11).
أ- بوم الربّ كلصّ (آ 1- 3)
قال الربّ في لو 12: 39: "لو عرف ربّ البيت في أيّة ساعة يأتي السارق، لسهر ولم يدع بيته يُنقب". اللصّ يأتي دوماً ساعة لا ننتظره. هكذا يكون مجيء المسيح. ونحن لا نعرف ساعة مجيئه. لهذا قال بولس: "أما الأزمنة والاوقات فلا حاجة..." (آ 1).
هذه العبارة هي تلك التي أوردها بولس في 4: 9 (فلا حاجة). إذ اقترب الرسول من مسألة جديدة، ها هو يحاول أن يجيب عن سؤال طرحه التسالونيكيّون. المجيء يحتلّ مكانة هامّة. لهذا اعتبر بولس أنه لا يحتاج أن يحدّث المؤمنين عنه... ولكن اقتراب الحدث كان يقلقهم، يخيفهم... فكتب لهم بولس يقول: لماذا الخوف؟
وكان بولس أميناً لتعليم المسيح نفسه (مر 13: 32؛ أع 1: 6) فأعلن أن التسالونيكيين يعرفون عن يوم الرب كل ما يمكن أن يُعرف: سيكون مجيئه فجائياً ولن يتوقّعه أحد. ولا نستطيع أن نحدّد زمن هذا المجيء (آ 2).
إن عبارة "يوم الربّ" (2 تس 2: 2؛ 1 كور 1: 8؛ 5: 5؛ 2 كور 1: 14؛ 2 بط 3: 10) أو "يوم المسيح" (يسوع) (فل 1: 6، 10؛ 2: 16) تعود إلى العهد القديم. فيوم يهوه (الربّ) الذي أعلنه الأنبياء هو يوم يدين فيه الله شعبه والأمم (عا 5: 18، 20؛ يوء 2: 1؛ عو 1: 15؛ صف 1: 7؛ أش 13: 6، 9؛ إر 32: 33: حز 7: 10؛ 13: 5). ويوم الربّ عند الرسول بولس، هو فبل كل شيء يوم مجيئه (باروسيا: 14: 6، 7؛ رج 3: 13)، يوم ظهور مجده. يوم الدينونة للبشر، وللمؤمنين يوم الخلاص والفداء (هيمارا كيريو: يوم الرب. ي و م. ي ه و ه).
هدا اليوم يأتي كاللّص (مت 25: 6؛ مر 13: 35 ي؛ رؤ 3: 13؛ 15: 5). واللّص يأتي خلال الليل، ساعة لا نرى شيئاً، ساعة ينام الناس. ولا شيء ينبّهنا حين يقترب، حين يجيء.
"حين يقول الناس" (آ 6). الناس هم أهل هذا العالم. اللامؤمنون. سلام (ايريني) وآمن (اسفالايا، طمأنينة). كلمتان مترادفتان تقريباً (رج لا 26: 5- 6). وهذا التعبير عن الطمأنينة الكاذبة، قد استلهمه بولس من إر 6: 14؛ حز 13: 10. وقد قرّب آخرون 1 تس 5: 1- 3 من مت 24: 36- 39، 42- 43. ففي كلا الحالين، نجد تأكيداً حول جهل اليوم وصورة السارق. وهكذا يكون بولس قد استوحى أقوال يسوع كما نقلها التقليد قبل أن تدوّن في الانجيل. هذه الطمأنينة الكاذبة هي التي رافقت أهل الطوفان كما قال يسوع (مت 24: 37- 38؛ لو 17: 62- 27). "حينئذ" (توتي)، حين ظنّ هؤلاء الناس أنهم بمأمن من الخطر، يدهمهم الدمار المفاجىء.
"أولتروس": الدمار. نجد هذه اللفظة في العهد القديم، هنا، في 1 تس 1: 9؛ 1 كور 5: 5؛ 1 تم 6: 9. وهي تدلّ على النتائج المدمّرة لمجيء الربّ على الذين لم يستعدوا له، ووجدوا نفوسهم بغتة تحت حكمه. وتقابل فجاءة الموت بآلام المرأة الحبلى. ومع مفاجأة الدمار، هناك الطابع الحتميّ: لا يُفلتون (ق لو 24: 34- 36 و1 تس 5: 3 مع لفظة "ايفنيديوس" فجأة، بغتة، التي لا نجدها إلاّ في هذين النصّين).
ب- نسهر في العفّة (آ 4- 8)
نحن أبناء النور، يبقى علينا أن نعيش في السهر والعفّة، وأن نحمل سلاح الايمان والمحبّة والرجاء. نلبس الدرع وخوذة الخلاص.
يوم الربّ رهيب للذين يفاجئهم. ولكن المسيحييّن ليسوا من هؤلاء. ليسوا في الظلام (آ 4). الظلمة هي وضع البشر الذين لا يعرفون الله ولا مشيئته ولا خلاصه. ويلعب بولس على كلمة "نهار" "لكي يفاجئكم النهار أو اليوم" (يوم الربّ. الكلمة تعني الاثنين. رج لفظة يوم في العربيّة). نحن أمام يوم الرب (هذا هو المعنى الأول، ي و م. ي ه و ه). وهذا اليوم هو نهار (المعنى الثاني لليوم هو النهار)، يدلّ على حضور الله الساطع، وهذا ما لا يتحمّله المقيمون في الظلام. وتعود هنا صورة اللصّ كما في آ 2.
"أنتم جميعاً أبناء النور" (آ 5). إن لفظة "جميع" (بنتس) في بداية الجملة، تتوخّى أن تطمئن بشكل خاص أعضاء الجماعة الذين يقلقون للمصير الذي ينتظرهم حين يأتي الربّ. "جميعهم أبناء النور وأبناء النهار". هذا هو وضع المؤمنين. أما أناس هذا العالم فيتلخّص وضعهم بلفظتي "الليل والظلمة". لا شراكة للمسيحيين مع الليل والظلمة بعد أن قطعوا كل رباط مع جهل الناس، وخطيئة اللامؤمنين الذين لا يعون ما يفعلون. فمعرفة الله الحيّ، وانتظار مجيئه القريب (موضوع رجائهم) يجعلان المؤمن في وضع روحيّ مختلف كل الاختلاف. وها هو الرسول يدعو الآن التسالونيكيين لكي يستخلصوا النتائج.
"فلا نَنَم كالآخرين (آ 6). "كاتودو". نام مع معنى استعاري محدّد. هو يصف تصرّف الآخرين، تصرّف اللامؤمنين الذين يعيشون في الليل. ينامون لأنهم غير واعين لقرب الحدث الذي يقرّر مصيرهم، فيتفرّغون لأعمالهم وملّذاتهم بلا مبالاة تامّة وطمأنينة كاذبة وسرابيّة (آ 2). أما موقف المؤمنين فيكون عكس ذلك تماماً. نبقى ساهرين، صاحين، ننتظر بوعي اقتراب مجيء الربّ، في حالة تأهب. نعيش حياة تليق بالله ودعوته (2: 12). ونستعد لاستقبال ذلك الآتي الذي هو يسوع المسيح، ونعيش في العفّة (نيفو). المعنى الاستعاري: نبقى هادئين، نحافظ على برودة اعصابنا فلا نحترّ ولا ننهمّ تاركين أشغالنا، واضعين القلق والبلبة حولنا...
"الذين ينامون ففي الليل ينامون" (آ 7). يذكر بولس هنا امراً يتّفق عليه الجميع: الليل هو زمن النوم والسكر، وهاتان صورتان عن الذين يدمّرهم مجيء الرب.
"نحن أهل النهار" (آ 8). أما المؤمنون الذين ينتمون إلى النهار، فيبقون أعفّاء صاحين من السكر، ويحذرون كلَّ ما يجعل حكمهم مظلماً. ورغم اقتراب اليوم الحاسم، يحافظون على وعي عقلهم وهدوء قلبهم، لأنهم تسلّحوا لمواجهة هذا اليوم من دون خوف. ارتدوا الدرع الذي هو الايمان والمحبة، والخوذة التي هي رجاء الخلاص (أش 59: 17 سلاح الدفاع). تلك هي الاستعدادات التي تميّز المسيحيّ والمركّبات الخاصّة في حياته الروحيّة تجاه مجيء الربّ القريب: بالايمان بيسوع المسيح يعرف أن الله بجانبه (روم 8: 31- 32؛ رج 5: 11). وهو يعيش لكي يرضي الله في المحبّة (روم 12: 8- 10؛ غل 5: 14) وهو بالرجاء ينتظر من مجيء الرب تتمّة الخلاص الذي أدركه بالايمان (روم 8: 24؛ غل 5: 5): بعد ذلك، لماذا يضطرب وكأنه لا يعلم أن الرب يحمل اليه الخلاص لا الدمار؟
ج- نحن أبناء الخلاص (آ 9- 12)
لماذا يخاف المسيحيّون من يوم الدينونة العظيم؟ فالله يخلّصهم (1: 10) منه حين يختطفهم إليه. لهذا لا يبقى لهم إلا أن يعزّوا بعضهم بعضاً ويعملوا في بناء الجماعة، بناء لا تؤثر فيه النار، لأنه ليس من خشب أو حشيش أو قشّ، بل من ذهب وفضّة وحجارة كريمة (كور 3: 10- 13).
نظرَ بولس إلى صليب المسيح فاستطاع أن يؤكّد أن الله لم يجعل المؤمنين للغضب (آ 9) الذي سيكون دماراً للخاطئين الذين تفاجئهم طمأنينة كاذبة (آ 3)، بل جعلهم لاقتناء الخلاص بربنا يسوع المسيح، بالمشاركة في ملكه (4: 17). نجد هنا "باريبوياسيس" الحفاظ، الاستثناء، الربح. تدلّ هذه اللفظة على مشاركة الانسان الضروريّة في عمل الخلاص في الايمان. اما العبارة "يسوع المسيح ربنا" فتذكّرنا أن الخلاص هبة من الله.
قرار الله الساميّ الذي يعنيهم والذي يتمّ في يسوع الذي مات لاجلنا، هو سابق لايمان المسيحيّين ورجائهم ومحبتهم.
وبهذا الموت الفدائي (آ 10) الذي سيوضح بولس معناه وفاعليته في الرسائل التالية، أتمّ الله مخطّطه تجاه المؤمنين، وهو مخطّط يحدّد بولس هدفه في عبارات ترتبط بالموضوع الرئيسي في المقطوعة السابقة: "لكي نحيا جميعاً معه، ساهرين كنّا أم نائمين". "غريغوريو" (سهر)، "كاتودو" (نام). فعلان لا يستعملان في المعنى الحرفيّ، ولا في المعنى الاستعاري كما في آ 6، بل في معنى استعاري جديد: سهر، كان حياً. نام، كان ميتاً. بهذين الفعلين دلّ بولس على الحالتين اللتين يكون فيهما المؤمنون ساعة مجيء الربّ: بعضهم أحياء وبعضهم موتى. ولكن لا أهمية للاختلاف بين هاتين الحالتين، لان هدف موت يسوع الفدائي هو أن يبلغوا معاً إلى الحياة سواء كانوا أحياء أو أمواتاً.
"فعروا بعضكم بعضاً" (آ 11). إذ أراد بولس أن يستخرج النتيجة العمليّة لتعليمه، استعمل ما استعمله في 4: 18: "عزوا بعضكم". هذا يعني أننا أمام أناس قلقين. في 4: 13- 18، كان القلق على موتى التسالونيكيين. في 5: 1- 11، كان القلق على نفوسهم لقرب مجيء الربّ. وزاد الرسول: "ليبنِ أحدكم الآخر". وهكذا يؤدّي كل واحد عمله في حياة الكنيسة. إن فكرة البناء تعود إلى العبارة التوراتية بيت الله، وإلى مفهوم الكنيسة، هيكل الله (1 كور 3: 16- 17؛ أف 2: 20 ي). هذا يعني أن خلاص الفرد لا ينفصل عن خلاص الجماعة، بل يندرج في عمل الله الكامل.

2- تحريضات اخيرة (5: 12- 28)
في هذه الآيات يقدّم بولس مرآة للجماعة. فعليها ان تنتبه إلى خمسة أمور لكي تكون حياة الجماعة صحيحة: وفاق مليء بالحب، صبر تجاه الضعفاء، تغلب على الشّر بالخير، خدمة الله بلا انقطاع، الحياة في الروح. وستكون هذه الامور في ثلاثة مقاطع: بحث عن السلام والوفاق (آ 12: 15). خدمة الله المتواصلة (آ 16: 18). الحياة في الروح (آ 19: 22). وتنتهي الرسالة بالصلاة الختاميّة (آ 23- 24) والتحيّة الاخيرة (آ 25- 28).
أ- السلام والوفاق (آ 12- 15)
لا يمكن أن يكون هناك حياة جماعة إن لم يقم البعض بمجهود خاص ويهتمّ بأمور الجماعة، وكل هذا من أجل السلام بين الاخوة وبناء الجميع.
لاحظ الرسول في كنيسة تسالونيكي أن كل واحد يعتبر نفسه مسؤولاً عن أخيه (آ 11 ليبنِ الواحد الآخر). ولكن هناك أشخاصاً قد وعوا مسؤوليتهم فبدوا ناشطين في خدمة الرب. سمّاهم بولس: الذين يتعبون في ما بينكم (كوبيان). هم يعملون في الجماعة ومن أجل الجماعة. وإذ أراد بولس أن يميّز نشاطهم زاد: يرئسونكم (يوجّهونكم) في الرب. يعظونكم (ينبهّونكم). هناك فعل "برويستاماي": اهتم واعتنى (وهو يشمل نشاطات متعدّدة من أجل الجماعة)، ترأَّس، وجّه. نحن أمام نشاط حرّ يقوم به انسان في الربّ. وفعل "نوتاتيو": وضع في القلب والفكر، ذكر، نبّه. لا نجد هذه الكلمة وما يرتبط بها إلا في الرسائل البولسيّة وفي أع 20: 31.
إذن هناك بعض الاخوة الذين مارسوا مهمّة التنبيه تجاه خطايا الآخرين، ودلّوهم على الطريق الواجب اتباعه. فاصطدموا بمقاومة طبيعيّة، لأنهم لم يكونوا مكلّفين تكليفاً رسمياً، ولأن تنبيههم لم يكن يرضي الناس دائماً. لهذا، طلب الرسول من التسالونيكيين أن يعترفوا بهم، ويقبلوا بنشاطهم وسطهم. ويرضوا بتوجيهاتهم ونصائحهم وتنبيهاتهم. هنا نقرأ فعل "ايداناي": عرف صفة شخص، أجلّه واحترمه.
"أن تحبّوهم غاية المحبة" (آ 13). وعى الرسول ضرورة وقيمة نشاط "المسؤولين" في الجماعة، وأراد من التسالونيكين أن يقتنعوا بهم، أن يجلّوهم كل الاجلال، أن يقدّروهم كل التقدير، ويكون تقديرهم تقدير المحبّة. فالخدمة المسيحيّة بكل أشكالها لا يمكن أن تمارس بفاعلية إلا إذا قبلها جميع أعضاء الكنيسة بامتنان، إلا إذا كان الخدام موضوع تقدير خاصّ بسبب عملهم.
"كونوا في سلام بعضكم مع بعض" (آ 13 ب). افترضت آ 12- 13 توتّراً بين الكنيسة (أو قسم من الكنيسة) وبين الذين اهتموا بتوجيهها. وكان الفريقان مسؤولين عن هذا التوتّر. فبعد أن طلب الرسول من الاخوة (آ 12- 13 أ) أن يعترفوا بالذين يرئسون الكنيسة، وقبل أن يطلب من "الرؤساء" (آ 15- 16) أن يمارسوا خدمتهم بحكمة دون أن ييأسوا أمام المقاومات، عبَّر عن هذا التحريض العام: "كونوا في سلام بعضكم مع بعض".
"ثم نسألكم أيها الاخوة" (آ 14). قد تكون هذه الكلمات استعادة لما في آ 12، وهي تتوجّه إلى الاخوة، أي إلى الكنيسة اجمالاً. ولكن يبدو أن بولس يتوجّه إلى "قوّاد" الجماعة ليحرّضهم على القيام بمهمتهم رغم المقاومة. وهم يقومون بعملهم بفاعليّة إذا أقرّت الكنيسة برسالتهم وإن عرفت أنهم يقومون بها بناء على طلب الرسول الذي يذكّرهم هو نفسه بمختلف وجهات خدمتهم.
"أنّبوا المتكاسلين" (اتكتوس: الذي ليس في الصف "تكسيس"، في فوضى، لا يعرف النظام ولا القواعد. فريد في العهد الجديد). كما في 4: 11 رج 3: 6 ي. وقد يكونون أصحاب الفوضى الذين يرفضون العمل. "شجّعوا صغيري النفوس" (اوليغوبسيخوس، نادر في العهد الجديد) او الأشخاص الضعفاء أمام الاضطهاد أو في حياتهم الشخصيّة. "أسندوا الضعفاء" (انتاخو: ارتبط، مت 6: 24؛ لو 16: 13، اعتنى، اهتم). هم ضعفاء على مستوى الجسد، على مستوى الحالة الاقتصاديّة، ولكنهم أعضاء في الكنيسة. هم لا يستطيعون أن يمشوا وحدهم، ويحتاجون إلى من يسندهم. إذا تركناهم وحدهم يسقطون في الخطيئة. "تأنّوا، اصبروا (طوّلوا بالكم) على الجميع". هو تحريض عام قد يصل إلى الفئات الثلاث التي ذكرناها. عيل صبر "المسؤولين"، فطلب منهم بولس أن يعاملوا المتكاسلين وصغيري النفوس بصبر وطول أناة.
"إحذروا أن يجازي أحد" (آ 15). نحن أمام تحريض للكنيسة كلها، وهي المسؤولة عن تصرف أعضائها المسيحيّين. ولكن إذا كانت التوصيات في آ 14 تعني المسؤولين، يكون الأمر كذلك في آ 15 التي تتّخذ معنى محدّداً: لا يكفي أن يصبر المسؤولون على الجميع، بل عليهم أن ينتصروا بالحبّ على المقاومة، على الاساليب الرديئة التي يستعملها رافضو سلطتهم. "بل اقتفوا الخبر". الخير هو ما تلهمه المحبّة التي وحدها تفرض ان نردّ على الشّر بالخير. تحريض للجميع ولا سيّما إلى المسؤولين الذين يدعون إلى طلب الحلول والقيام بمحاولات وفعلات تلهمها المحبّة، كان ذلك في علاقاتهم مع بعضهم، أم في علاقاتهم مع المسؤولين عنهم هكذا يعطون المثل الصالح.
ب- خدمة الله المتواصلة (آ 16- 18)
تشكل هذه الآيات الثلاث وحدة تامة، فلا نفصلها بعلامات الوقف. وقد وجدت تبربرها (غار، لأن) في ما يشاء الله في يسوع المسيح (آ 18 ب). هذه المشيئة قد كُشفت في المسيح الذي صُلب وقام. لهذا كانت لهذه المشيئة متطلّبات يجب أن يحققوها، وإلاّ كانوا من العاصين وتركوا نداء الله. غير أنها أولاً عطيّة ونعمة، لأن في المسيح يسوع قد أعطي لهم امكانيّة أن يكونوا دوماً فرحين، أن يصلّوا بل انقطاع، ان يشكروا في كل ظرف.
من الواضح أن المؤمنين لا يجدون في ذواتهم ولا في العالم ما يبعث على الفرح دوماً. ولكن في المسيح يسوع، في عمل مصالحة الله معهم ومع الكون (2 كور 5: 9)، في النعمة التي وُهبت لهم في الزمن الحاضر وفي المستقبل. مثلُ هذا الفرح لا يمكن أن يؤخذ منهم (3: 1؛ 4: 4). ولكنهم لا يستطيعون أن يحافظوا على هذه النعمة، نعمة الفرح، إلا إذا صلّوا على الدوام (ادياليبتوس راجع اغناطيوس الانطاكي إلى أفسس 10: 1) لأن الصلاة تعيدهم دوماً إلى يسوع المسيح الذي به يأتون إلى الآب (أف 2: 18) ويشكرونه.
هم في ذواتهم ليسوا مستعدين دوماً للصلاة، ولا يعرفون ما يطلبون، وليس العالم هو ما يوّلد صلاتهم. اما في المسيح يسوع، وفي وضعهم كمؤمنين، فيقدرون في كل (ظرف أو شيء) أن يشكروا الله عمّا فعله من أجلهم. هذا هو الباعث الأول على صلاتهم وفرحهم.
ج- الحياة في الروح (آ 19- 22)
نقرأ في هذه الآيات خمسة تحريضات تتعلّق بالموقف الواجب اتّخاذه تجاه ظهورات الروح في حياة كنيسة تسالونيكي. للوهلة الأول، هي لا ترتبط بما سبق. إذا عدنا الى 1 كور 12- 14، نرى كنائس اليونان الوثنيّة تميل إلى اعتبار ظهورات الروح (نبوءة، تكلّم بالسنة) اعتباراً كبيراً. لهذا، يبدو أن كنيسة تسالونيكي لم تحاول أن تطفىء الروح. مقابل هذا، قد تكون الظهورات الفوضويّة قد أقلقت وأزعجت الذين يهتمّون بتوجيه الكنيسة. لهذا طلبوا تعليمات حول الحدود المفروضة على تدخّلات "الملهمين" في حياة الكنيسة.
لم يدخل بولس في نظرتهم. وما نلاحظه في جوابه، هو أنه لا يتكلّم عن الملهَمين بل عن الروح. فمن حصر حرّية الروح السامية في إطار ضيق، أفقر الكنيسة. قال الرسول: "لاتطفئوا الروح"، فاستعمل صورة تشبّه الروح بالنار (أع 2: 3؛ 18: 25؛ روم 12: 11)، وتدلّ على أنه يجب أن نحذر أن نتخذ تدبيراً يعيق ظهوراته أو يزيلها. "لا تحتقروا النبوءات" (بروفيتياس)، دون الـ التعريف. ليست تنبوءات عن المستقبل. بل وحياً لمشيئة الله في الزمن الحاضر. وهذا ما يحصل إن لم نترك الانبياء يتكلمون (منعناهم، أخرسناهم)، أو رفضنا ان نسمع لهم. فإن لم نهتمّ بأقوالهم، حُرمت الكنيسة من كلمات ملهمة تكشف لها مشيئة الله.
"ولكن (نجد "دي"، في مخطوطات عديدة، وتلغى في السينائي والاسكندراني والبسيطة) امتحنوا كل شيء". نحن هنا أمام نصيحة إيجابيّة. إذا كان الله يستطيع أن يكشف عن مشيئته للكنيسة بواسطة الأنبياء، فالأنبياء هم أناس قد لا يكونون صادقين ومتجرّدين، قد يجعلون أفكارهم ورغباتهم موضع الالهامات العلويّة. لذلك وجب على الكنيسة أن تميّز النبوءات الحقيقيّة من تلك التي هي كلمات بشر. فالله يمنح بعضاً منهم موهبة "تمييز الأرواح" (1 كور 14- 29).
والقاعدة المتبّعة في تفحّص ظهورات الروح هي التالية: "تمسَّكوا بما هو حسن إحترسوا من كل شبه شر". تلك هي وظيفة المسؤولين في الكنيسة بالدرجة الأولى.
د- الصلاة الختامية (آ 23- 24)
كما انتهى القسم الاول (3: 11- 13) بصلاة، هكذا ينتهي القسم الثاني. وتتوجّه هاتان الصلاتان نحو المجيء المجيد للرب يسوع. أما موضوعهما فهو قداسة المؤمنين في تسالونيكي في ذلك اليوم الحاسم.
بعد أن أكثر بولس التوصيات، توجّه إلى الله الذي تستطيع نعمته وحدها أن تجعلها تنفَّذ. نقرأ "إله السلام". رج 3: 11. ترد العبارة مراراً عند بولس (روم 15؛ 33؛ 16: 20؛ فل 4: 9؛ 2 كور 13: 11). "ايريني" هو السلام (شلوم) وهو الخلاص أيضاً. في هذا السياق نحن أمام خلاص الانسان كله. وهكذا يكون الانسان في سلام مع الله.
"ليقدّسكم إله السلام" (اغيازين). ليس أولاً في المعنى "الاخلاقي". بل في المعنى الديني: الله نفسه يقدّس مؤمني تسالونيكي، فيكرّسهم لنفسه ويفصلهم فصلاً تاماً عن الخطيئة التي تغرّبهم، لكي يكونوا بكلّيتهم له. وتستعيد العبارة الثانية (في آ 23) ما قالته العبارة الأولى: "يحفظ أرواحكم...". نحن هنا أمام عناصر مثلثة تدلّ على الكائن البشري: الروح، النفس، الجسد. نحن هنا في وضع فريد في العهد الجديد الذي يتحدّث عن النفس والجسد (لا على أنهما منفصلان كما في العام اليونانيّ، بل يدلاّن على الانسان كله) او عن الجسد والروح. الروح هو العنصر الأسمى، العنصر الروحي في كائن الانسان الحميم. النفس هي عنصر أدنى على مستوى الاحساس والحياة (راجع النفس والتنفسي والنسمة يشارك فيها الانسان الحيوان). والنفس ترتبط ارتباطاً مباشراً بالجد. أما الروح فهو العنصر الذي يفصل الانسان عن كل المخلوقات ويربطه بالروح القدس.
لا ننسى هنا اننا في جوّ ليتورجيّ، ولهذا نقرّب بين هذا النصّ وسائر النصوص البولسيّة حيث ترد لفظة روح (بنفما). هي صلوات فيها يتمنّى بولس الخير لقرّائه، ويحيّيهم. "نعمة ربنا يسوع المسيح تكون مع روحكم" (غل 6: 18؛ فل 4: 23؛ فلم 25 رج 2 تم 4: 22، أي: معكم). فهذا التمنّي الأخير يوازي ما نقرأ في 1 تس 5: 28: "نعمة ربنا يسوع المسيح معكم".
ما كان يستصعبه اليونان هو أن يدخل جسدهم (عنصر زائل) في عمليّة التقديس التي بدأت على الصليب وستتمّ في يوم ربّنا (4: 3- 8؛ 1 كور 6: 12- 20). ولكن نص 1 تس يدلّ على تقديس الانسان بكلّيته. فيكون بغير لوم، لا في نظر البشر، بل في نظر الله. إستعمل بولس المجهول: ان يُحفظ. ففي يسوع المسيح، وبالمعموديّة وبالروح القدس، يتقدّس شخص المؤمنين، الله يقدّسه. وما يجب أن نطلبه هو أن نبقى مقدّسين في الأمانة لله والطاعة، إلى مجيء ربنا يسوع المسيح (3: 13) الذي يصل بنا إلى كمال عمل الله.
واعطى بولس للتسالونيكيين ما يدلّ على أن صلاته استجيبت. "الذي دعاكم" إلى الخلاص، الذي يتمّ مصيركم (2: 12) "هو أمين" (بستوس). فالله لا يتبدّل في إرادته الفدائيّة تجاه البشر (روم 3: 3؛ 15: 8). لهذا نستطيع أن نثق به كل الثقة (روم 4: 20). "فهو الذي يفعل" ما يطلبه الرسول لاخوته. وهو لا يطلب شيئاً إلا وبكون الله قد أعطاه لهم في المسيح. إنه يدعوهم في التقديس (4: 7). وكما جعل طاعتهم في يسوع المسيح ممكنة، ليجعلها على استمرار بالروح القدس (روم 8: 2- 4؛ غل 5: 15)، وليكمّلها في يوم الربّ.
هـ- التحيّة الأخيرة (آ 25- 28)
"صلّوا لأجلنا أيها الأخوة" (آ 25). من هم الاخوة الذين يتوجّه إليهم الرسول؟ أعضاء الكنيسة كلها أم المسؤولون وحدهم؟ لماذا لا يكونون الاخوة والمسؤولين معاً. فبولس الذي توسّل باستمرار من أجل التسالونيكيين (1: 3)، يطلب الآن منهم أن يتوسلّوا لأجله (روم 15: 30؛ كو 4: 3).
"سلّموا على جميع الاخوة" (آ 26). في الكنيسة الأولى، كان الاخوة يدلّون على حبّهم الأخوي "بقبلة مقدسة" تتميّز عن تلك التي في العالم (يشير يوستينوس الشهيد إلى القبلة الاخويّة في الاحتفال بالافخارستيا). ولكن، إن كان بولس يتوجّه إلى جميع الاخوة، كيف يستطيع أن يقول: "سلّموا على جميع الاخوة"؟ قد يكون بولس توجّه إلى المسؤولين في الكنيسة وطلب منهم أن يسلّموا، أن يقبّلوا الجميع قبلة السلام. هكذا يعود الوئام إلى الجماعة.
ويناشد (اينوركيزو) الرسول بكلمات احتفالية (آ 27) هؤلاء الذين يتوجّه إليهم منذ آ 25 أن يجعلوا هذه الرسالة تُتلى على جميع الاخوة. لماذا هذا الالحاح؟ أتراه خاف أن تتوقّف الرسالة عند بعض الاعضاء، فلا تصل إلى الجميع؟ ثم لا ننسى أنه كان خلاف بين المسؤولين والجماعة. كل هذا يدلّ على أن بولس تسلّم من مسؤولي كنيسة تسالونيكي رسالة تعلمه بالصعوبات، وتطلب مساندته، وتسأله التعليمات حول مسائل خطيرة بالنسبة إليهم وإلى الكنيسة. وهذا القسم الثاني من الرسالة (4: 1- 5- 22)، يتيح لنا أن نتعرّف إلى حكمة بولس، إلى سلطته المفعمة بالثقة والمحبّة. هكذا استطاع أن يسدّ النقص في إيمان الكنيسة (3: 10)، ويزيل كل خلاف بين المؤمنين والمسؤولين. نشير إلى أن السينائي والفاتيكاني... تقول فقط "الاخوة". ولكن الاسكندراني وغيره تضع "الاخوة القديسين".
وتنتهي الرسالة بالتحيّة المعهودة: "نعمة ربنا يسوع المسيح معكم" (آ 28). وقد زيد "آمين" في السينائي والاسكندراني، لأن الرسالة تقرأ في الجماعة. فعلى الجماعة أن تجيب: آمين. نوافق. هكذا زيد ايضاً "آمين" في نهاية القسم الأول (3: 13): "عند مجيء ربنا يسوع مع جميع قديسيه. آمين". قد تكون القراءة توقّفت قبل أن تتتابع في ف 4- 5.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM