الفصل الثاني: نظرة افريقية ... من عماوس إلي سيخار

من بوغوتا إلي هونغ كونغ
من عماوس إلي سيخار

في بوغوتا عُقدت الجمعيّة العامة الرابعة، وكان موضوعها تلميذي عماوس. وفي هونغ كونغ تنعقد الجمعية الخامسة مع السامريّة التي من قرية سيخار. بوغوتا هي في اميركا اللاتينية. وهونغ كونغ هي في آسيا، وستنضمّ قريباً إلى الصين. وبالنسبة إلينا، السفر من بوغوتا إلى هونغ كونغ بشكل شخصيّ أو بالمشاركة في حياة الرابطة، يقودنا عبر مياه الاوقيانوس الباسيفيكي وربما الاطلنتيكي. هل نستطيع أن نرى في هذا المدى من الحياة ما يقابل بئر يعقوب في سيخار؟
بين هاتين الجمعيّتين، أي أرض عدوّة مررنا فيها، حيث الرجال والنساء يعيشون العزلة والاحتقار والتهميش، فينالون الحياة في ملئها. هناك مسيرة يسوع إلى الشعب، مسيرته إلى السامريّة والسامريين والتلاميذ. فما هي طبيعة مسيرتنا مع كلمة الله التي هي ينبوع حياة من بوغوتا إلى هونغ كونغ؟
تلك هي بعض الاسئلة التي يجب أن نحتفظ بها في عقلنا حين نلقي نظرة إلى لقاء يسوع مع تليمذي عماوس، ولقائه مع السامريّة والسامريّين والتلاميذ. ما صدر عن الجمعيّة الرابعة في بوغوتا، دلّ على الغنى الذي عرفته مختلف الجماعات لكي تطبّق مقرّرات بوغوتا. ولكن يبدو أنه لم يحدث شيء في افريقيا، لا سيّما في افريقيا المتكلّمة بالانكيزيّة. غير أننا شعب من الحجّاج. وما دامت هناك حياة فهناك أمل ورجاء. بالإضافة إلى ذلك، لا نستطيع أن نقول إننا عملنا ما فيه الكفاية أو تعلّمنا من هذين الحدثين الانجيليّين حيث يقدّم لنا يسوع رسالته التي تعطي الحياة. ولنعد إلى عماوس وسيخار برفقة يسوع.

1- عماوس وسيخار
في بوغوتا، كان موضوع الجمعيّة العامّة التبشير الجديد (طريقة جديدة في حمل البشارة). وفي هونغ كونغ: كلمة الله ينبوع حياة. في الواقع يرتبط الموضوعان الواحد بالآخر. فالتبشير (أو: الأنجلة) هو إعلان كلمة الله من حيث هي تعطي الحياة للسامعين المؤمنين. فيستخرج المؤمنون منها الحياة ويبرهنون على أنهم نالوا هذه الحياة بثمار تدوم في رسالتهم. والموضوعان المتفرّعان من هاتين الجمعيّتين العامّتين مرتبطان أيضاً بما في بوغوتا: أجعل كل شيء جديداً. هذا يتضمّن بالنسبة إلى الله أن يقاسم الشعب الخاطىء حياته لكي يجدّده ويحوّله انطلاقاً من طبيعته الحقة (الكلمة الذي صار بشراً من لحم ودم)، ويملأه حياة أبديّة (لو 10: 10). ذاك هو شعار الجمعيّة العامة في هونغ كونغ.
ويلفت انتباهنا التشابهات بين خبر عماوس وخبر سيخار. فهدف هذين اللقائين من قبل يسوع هو أن يكشف عن ذاته. معرفته ومعرفة الله هي "حياة أبديّة" (يو 17: 3). ففي عماوس وسيخار، هناك نهار مملوء بالاخبار و"التقارير" عن يسوع. وتأتي اللقاءات في إطار سفر يسوع مع تلميذي عماوس من أورشليم إلى عماوس، بانتظار العودة. ومع المرأة إلى المدينة وعودتها إلى يسوع. ومع التلاميذ الذين ذهبوا إلى المدينة ليشتروا لهم طعاماً.

عماوس
ذاك الذي قام من
بين الاموات
كان التلميذان تعبين
حزينين بسبب ما تلقيا
من أخبار فسارا في الطريق

سأل يسوع التلميذين
عمّا يتحادثان به في الطريق

تعجب التلميذان لسؤال يسوع
وتساءلوا: هل يسوع غريب
عن اورشليم؟



روى التلميذان خبرتهما مع
يسوع وفقدان الأمل

وبّخ يسوع التلميذين
لقلّة ايمانهما بما قالته
الكتب التي ترتبط
بالتقاليد

فسّر يسوع للتلميذين
المعنى الحقيقي للأحداث
التي عاشاهما، وطبيعة
المسيح الحقيقة. فاشتعل
قلباهما في داخلهما
سيخار
ذاك الذي كان يعمّد
ويتلمذ أكثر من يوحنا
كان يسوع تعباً منهكاً
بسب السفر فجلس
على حافة البئر

سأل يسوع المراة:
أعطيني لأشرب

دهشت المرأة للسؤال
وطرحت سؤالاً حول
هوية يسوع بكلمات تدلّ
على وطنيّة ضيّقة.
قدّم يسوع هديّته الحقيقية

تحدثت المرأة عن بئر
الآباء ثم عن آمالها المسيحانيّة

دلّ يسوع على عدم توافق
بين مياه بئر الآباء
وطبيعة التقاليد حول
العبادة الحقة

كشف يسوع للمرأة معرفته
بالحياة التي عاشتها، كما
كشف لها طبيعة العبادة
الحقّة (آ 39: احترق قلبها
في داخلها)
قال يسوع للمرأة إنه
المسيح. فتركت جرّة
الماء ومضت إلى المدينة
تبحث عن شعبها
هي مضت وظل يسوع مكانه.

دعا التلميذان يسوع
ليقضي الليل معهما. فبقي
وكسر الخبز فعرفاه
أنه الرب القائم من الموت
ومضى يسوع بعد
أن عرفاه

وعاد التلميذان فرويا للآخرين
أنهما رأيا الربّ. ولكن
الواقع هو معروف الآن. لما كلّمت السامريّة مواطنيها،
دعا السامريون يسوع ليقيم
معهم، فأقام يومين فاعترفوا
به أنه مخلّص العالم.
ومضى يسوع بعد يومين
من الاعتراف به

قال السامريون للمرأة عن
يسوع: في النهاية، فعل الاتصال بيسوع
فعله، لا كلام المرأة فقط.

إن هدفنا من المقابلة بين هذين الخبرين، هو التشديد على أن كلمة الله تحمل الحياة إلى أشخاص معنييّن بها. وجاءت نقاط التشابه بين الخبرين لافتة. التقى يسوع بكل منهم في ساعة حاجته، في وقت اهتمامه. وفي كل حالة، وجّهنا دخوله إلى الحديث مع ما يهمّ الاشخاص (حزن التلميذين. البحث عن الحياة). هو الذي بدأ الحوار، ولكن ما إن انطلق الحوار حتى ترك الآخر يحدّد جهة الاعلان. وفي الظرفين، كانت المسألة الحقيقيّة هويّته وطبيعة مسيحانيّته. استمع التليمذان إلى يسوع في صمت بعد أن اخبراه قصتهما. أما في وضع المرأة فكان حوار متواصل، لأن ذاك كان أول حوار بينها وبين يسوع.
كان لدى يسوع رغبة حقيقيّة في أن يجند المرأة من أجل مهمّة. وإذ مرّ في السامرة، كان هدفه أن يتجاوز كل الحواجز المفروضة، ليصل إليها ويقدّم لها الحياة الدائمة. انتظر عند البئر ساعة كان باستطاعته أن يذهب إلى المدينة مع تلاميذه. وفي نهاية الحوار، ما عادت المرأة تبحث عن الماء في آبار الناس (مهما كان تاريخها مجيداً، بئر يعقوب). بل ذهبت إلى بئرها الخاص، إلى ينبوعها من الماء الذي يتفجّر للحياة الأبديّة.
وعدَها يسوع بماء لم تعرفه في حياتها. وإذ تركت جرّة الماء في النهاية، دلّت على أن شيئاً حصل في داخلها خلال الحوار، كما حصل للتلميذين على طريق عمّاوس. قالت: "تعالوا وانظروا رجلاً قال لي كل ما فعلت" (4: 29). لا شكّ في انها تضخّم الامور، لأن يسوع كلّمها فقط عن حياتها الزوجيّة. فتعجبّها من يسوع حول معرفته لحياتها الماضية قد زاد حين جعل، وهو اليهوديّ، العبادة في أورشليم أمراً نسبياً. هناك أماكن اخرى للعبادة.
هذا من جهة. ومن جهة أخرى، نجحت أفضل من تلميذي عماوس. لما عادا إلى أورشليم، قال لهما الآخرون إنهم قد سمعوا خبر القيامة. أما السامريون فلم يكن لهم معرفة مسبقة بيسوع. فتبعوا المرأة على طريق الايمان. ولكن بعد لقائهم الشخصيّ بيسوع، قالوا للمرأة إن دورها كان نسبياً في الطريق التي قادتهم إلى الايمان بيسوع. "لقد سمعناه نحن وعرفنا أنه حقاً مخلّص العالم" (آ 42).

2- اسلوب يسوع في إعطاء الحياة
كيف أعطى يسوع الحياة بكلمته لهذه المرأة؟ قبل لقائها بيسوع، اعتادت المرأة أن تذهب إلى البئر تطلب ماء. إنه واجب مفروض على النساء في مجتمعها وفي حضارتها. مثل هذا المشهد نراه مراراً في افريقيا. فالمرأة الافريقيّة في الريف تحمل الماء، تحمل الجرّة (أو الدلو)، تحمل الطفل على ظهرها. ستكون سعيدة (وفي هذا تختلف عن السامريّة التي تعرف بوجود بئر يعقوب) إن هي وجدت بئراً. فقد تطوف من مكان إلى مكان تبحث عن الماء في مدينة غنيّة بالبترول مثل مرفأ هركورت في نيجريا.
والصبيان، وبصورة خاصة البنات، الذين تعدّوا زمن الطفولة فلم يعودوا يحُملون على الظهر، ينضمّون إلى النساء أمهاتهم ليبحثوا عن الماء. وقد يضلّون لا سبل عديدة ساعة يبحثون عن مياه طبيعية يعطيها الله. لن يكونوا محظوظين، مرّات عديدة، مثل المرأة السامريّة التي وجدت يسوع ينتظرها عند البئر، تعِباً، ضعيفاً، راغباً في أن يعلن لها الكلمة التي ستبدّل حياتها ونظرتها الحضاريّة الفطرية حول دورها في المجتمع. ومع أن يسوع كان ذلك الآتي مع هدية لا ثمن يضاهيها، فقد قدّم نفسه لها كذلك المحتاج والمرهق والشحاذ الذي لا معين له.
لم تكن المرأة تنتظر لقاء مع المسيح عند البئر، كما لم يكن التلميذان ينتظران لفاء في طريقهما إلى عمّاوس. واختلفت المرأة عن التلميذين، فعاشت في انتظار المسيح بينما كان انتظارهما له خيبة أمل عميقة. قضى يسوع وقتاً مع المرأة كما قضى مع التمليذين وأتاح للفئتين أن يرووا خبرهم. فالادلاء بالخبر له مفعول شفائيّ، هذا عدا إظهار السامع مهتماً في الدخول إلى العالم الحقيقيّ للشخص الآخر.
بالإضافة إلى ذلك، حين يروي الانسان خبره الخاص، يدلّ على أن باستطاعته أن يفكّر. وحين استمع يسوع بصبر وتعاطف إلى الخبرين ودخل في حوار، ساعد المرأة والتلميذين على اكتشاف كلمات الحياة في كلماتهم، ومحدوديّة هذه الكلمات، وعمق الرجاء الذي لا يُقهر، وإن لم يكن هذا الرجاء واضحاً بالنسبة إليهم. صحّح ما في رجائهم من خطأ والتباس ووجهات غير صحيحة. ولكن مقاربته انطبعت باحترام عميق للاشخاص الذين يحاول أن يقدّم لهم الحياة. هذا صحيح بشكل خاص في وضع المرأة التي هي من عِرق يحتقره شعبه فيمنع كل اتصال معه (4: 9).

3- تحطيم الحواجز
إن لقاء يسوع مع المرأة السامريّة يتضمّن ايضاً محاولاته الجديّة لتحطيم الحواجز الأولى وتحرير هذه المرأة من القيود على مستوى الجنس والعرق والدين. كل هذا يقسم الناس، يحتقرهم، يقتلهم.
أ- حواجز على مستوى الجنس
نحن نعرف أنه كان يُحرّم على اليهوديّ أن يحدّث امرأة في الأماكن العامّة، حتى لو كانت تلك المرأة زوجته. أما يسوع فما خاف أن يكلّم امرأة في مكان عام (كل الناس يأتون إلى البئر) كما تكلّم مع التليمذين. ودهشة الرسل في آ 27 تدلّ كم صدمهم عملُ يسوع وهم يتصرّفون بإحساسيّة يهوديّ مؤمن. والمرأة التي تحدّث إليها هي سامريّة: يعتبرها التقليد اليهوديّ نجسة منذ ولادتها. وأكثر من ذلك، لم تكن تلك المرأة تتمتّع بمستوى اخلاقي حتى عند السامريّين (خمسة أزواج والسادس الذي معها ليس زوجها).
قبل أن يلتقي يسوع بها، لم يكن لها مركز داخل الجماعة. فكانت تنتمي إلى "النساء الضالات، الشاردات". ولقد ظن بعض الشرّاح أنها ذهبت إلى البئر في وقت الظهيرة، لأنها كخاطئة ومهمّشة، لم تخف أن تطلب ماء في الصباح أو الظهيرة (حيث اعتاد الناس أن يطلبوا الماء). لم تكن تخف من أن تلتقي بسائر الناس. لا بأس بهذه الفرضيّة. ولكن ذهابها في وقت الظهيرة يدلّ على أن يسوع يأتي إلينا في عمق حاجتنا وساعة لا ننتظره اطلاقاً.
ومهما يكن من أمر، فحين أنهى يسوع الحديث معها، تركت جرّة الماء أي واجبها الذي تفرضه عليها حضارتها، وصارت مبشّرة. صارت قائدة لشعبها. صارت "أم" الايمان السامريّ في سيخار (لا ننسى أن الأم أو المرأة تدلّ على الشعب. وهذه السامريّة تدلّ على شعب السامرة كلها) وصورة نموذجيّة في انجيل يوحنا، مثلّ الوثنيين الذين سيؤمنون بيسوع. وكانت امرأة سيخار ممثّلة لشعب السامرة الذي سيقوده فيلبس المبشّر إلى الايمان بالمسيح.
ب- حواجز على مستوى العرق
حين التقى يسوع بتلك المرأة، حطّم ايضاً الحواجز العرقيّة، لا في قلب المرأة السامريّة والسامريين وحسب، بل في قلب التلاميذ أيضاً. فلما قضى يومين في سيخار، فعل تلاميذه مثله (آ 31- 38)، وهكذا قادهم إلى حصاد السامريين الذين هم ثمرة عمله الرسوليّ (آ 38) مع المرأة. ما استطاعوا أن يقيموا يومين في السامرة دون أن يأكلوا مع الناس هناك في الصفحة عينها، مع أن اليهود لا يتعاملون مع السامرييّن (آ 9).
كان اليهود (يسوع وتلاميذه كانوا من اليهود) يعتبرون نفوسهم النسل السامي (آ 22). وكانوا ينظرون إلى السامرييّن على أنهم شعب هيكل الشيطان (يو 8: 48). أو الشعب البليد الذي يقيم في شكيم (سي 50: 25- 26). أخذ يسوع المبادرة، وحطّم حاجز العرق والنسل "المقدّس". واعتراف السامريين بأن يسوع هو مخلّص العالم (آ 42)، قد أقرّ بدوره في توحيد الكون ومصالحة جميع الشعوب في ذاته (كو 1: 20؛ يو 12: 32). واعتراف السامريين هذا دلّ على مشاركتهم في الايمان المسيحيّ.
ج- حواجز على مستوى الدين
الدين في اللغات اللاتينيّة هو ما يربط الناس بالله وبعضهم ببعض. ولكنه صار في الواقع أكبر مقسّم، وحامل قوى الموت وسط الأمم. قدّم يسوع نظرة جديدة إلى الدين لا تعني أن جميع الديانات تتساوى (آ 21- 22)، بل أن الدين الحقيقيّ يتعرّف إلى عمل الله في الأفراد وفي العالم، ويدعو الانسان إلى العمل مع الآخرين.
حين نترك الله يبحث عنا ويجدنا، حين نتركه يملأنا بروحه. وحين يقوّي الروح الانسان ليعبد الله ويسلّم إليه كل حياته (آ 23- 24). وحين يتمّ هذا، يستحيل علّي أن أقتل الآخر أو أدمّره. فعطيّة الحياة (الماء، الروح القدس، 4: 15؛ 7: 37- 39) تحرّر الانسان من كل هذه القيود وتحوّل متقبّل العطيّة من الداخل فتجعل منه ابناً حقيقياً لله (1: 12- 13) على مستوى المواقف والعقليّة، على مستوى الحياة بشكل عام.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM