الفصل الثاني والعشرون: رسائل القديس يوحنا

الفصل الثاني والعشرون
رسائل القديس يوحنا

دوّن يوحنا ثلاث رسائل ووجّهها إلى جماعات تعيش أزمة حادة. فانتشار تعاليم لا تتوافق مع الوحي المسيحي، يهدّد نقاوة الايمان. هناك "وعّاظ " يسمّيهم يوحنا "انتيكرستوس" أي معارضين للمسيح، انبياء كذبة، أنبياء مضلّلين. ظنّوا أنهم عرفوا الله، رأوا الله، إتحدوا به واستناروا بنوره. ضلّوا حين رفضوا أن يروا في يسوع المسيح وابن الله. رذلوا التجسّد ففضلوا يسوع التاريخ على ابن الله وأنكروا ان يكون ابن الله جاء حقاً في الماء والدم، أي تعمّد ومات على الصليب (رج يو 19: 34).

أ- الرسالتان الثانية والثالثة
نحن أمام رسالتين حقيقيتين: المرسل، المرسَل إليه وموضوع الرسالة.

1- الرسالة الثانية
توجهت الرسالة الثانية إلى السيدة المختارة وإلى أولادها. نحن أمام كنيسة من كنائس آسية ترتبط بيوحنا. يتهدد الخطر إيمان المسيحيين في هذه الجماعة بسبب مضلّلين ينكرون سر التجسّد ("لا يعترفون بمجيء يسوع المسيح في الجسد"، آ 7) ولا يثبتون على تعليم المسيح (آ 9).
أراد يوحنا أن يحذّر المؤمنين من هذا التعليم (آ 8، 10، 11): لهم معرفة الحق، فليسيروا في الحق (آ 4)، وليحبّوا بعضهم بعضاً (آ 5). وليسيروا في الوصيّة التي جاءت من الآب فنقلتها الكنيسة منذ البدء (آ 4- 6): المحبة هي السير على طريق وصاياه.

2- الرسالة الثالثة
الرسالة الثالثة قريبة من الرسالة الثانية مع لهجة شخصيّة تميّزها. هي تتوجّه إلى غايس الذي يهنّئه الشيخ لأنه يسير في الحق (آ 3).
نحن في لهجة حربية بسبب أزمة انفجرت وسط المؤمنين. كان الشيخ قد بعث في الماضي رسالة إلى الجماعة (أو: الكنيسة المحليّة). ولكن ديويريفس، رئيس هذه الكنيسة، لم يقرّ بسلطة هذه الرسالة ولا بسلطة من أرسلها. فأجبر الشيخ على مخاطبة غايس، أحد المسيحيين الرئيسيين الذين ظلّوا أمناء ليوحنا.
ارسل يوحنا مرسلين إلى الوثنيين، ولكن ديوتريفس رفض أن يقبلهم، ومنع الآخرين من أن يقبلوهم، كما طرد من الكنيسة كل من يساعدهم.
إذن هدف هذه الرسالة هو تشجيع غايس على متابعة عمله في مساندة هؤلاء المرسلين الذين يحملون "اسم المسيح" إلى "غير المؤمنين" (آ 7).

ب- الرسالة الأولى
رسالة دوّنت لتجيب على حاجات محدّدة وفي وقت معيّن. إنها تتوجّه إلى جماعة تعيش أزمة، كما قلنا. هناك انقسام بين المؤمنين ("خرجوا من بيننا"، 19:2): بعض الانبياء يقدّمون تعليماً غير الذي عرفته الكنيسة الآن (4: 1). هم لا يعترفون ببشرية يسوع، "لا يعترفون بيسوع المسيح أنه جاء في الجسد" (3:4). إذن، تدور الازمة حول طريقة معرفتنا لله.

1- برنامج الرسالة
برنامج الرسالة هو: تحقيقّ الاتحاد بين التلاميذ والآب والابن، وبين التلاميذ بعضهم مع بعض. ما الذي يدلّ على أننا متحدّون بالله؟ نسير في النور، نحفظ الوصايا، نمارس البر ولا نخطأ، نعيش المحبة على مثال ابن الله..
نتوقف هنا عند خمسة مواضيع:

أولاً: التحرّر من الخطيئة
منذ البداية، انقطع الاتصال بين الله والبشر بسبب الخطيئة (تك 1- 4). يلّمح الكاتب الى سفر التكوين حين يورد خبر قايين (3: 12) ويعود إلى أصل الخطيئة (3:3). الخطيئة تقود إلى الموت (3: 14) كما في تك 3:3، وتجعلنا نخسر الحياة الأبدية. قدّم لنا الكاتب في 16:2 رسمة مبسطّة عن الخطيئة فبرزت في ثلاثة أشكال: شهوة العينين، ثقة في المال، تكبرّ في الحياة. الخطيئة هي عكس المحبة، هي إقامة في الظلام، لا في النور (9:2-11).
يقيم العالم "تحت سلطان الشرير" (9:5)، والبشر هم جميعهم خاطئون (8:3). لهذا نميّز نوعين من الخطايا: الخطيئة المرتبطة بالوضع البشري بما فيه من ضعف. والخطيئة التي تقود إلى الموت أكان ذاك الموت الثاني كما تقول رؤ 20: 6، 14، أو ذاك الذي يقود إلى الجحود وموت الايمان (5: 16). هذه الخطيئة تدل على عداوة للمسيح وعمله. إنها خطيئة الانتيكرستوس أو المسيح الدجّال (2: 18).

ثانياً: البداية الجديدة
إن مجيء الابن إلى العالم هو بداية جديدة، هو خلق جديد. إنه يدلّ على حب الآب (9:4) ويحقّق مواعيد العهد القديم (2: 25).
جاء يسوع إلى العالم ليخلّص العالم (4: 14)، ليدّمر أعمال ابليس (3: 8)، ليزيل الخطيئة (3: 5)، وليمنح البشر الحياة الأبدية (5: 11). وقد أظهر كل هذا حين بذل حياته على الصليب (7:1؛ 16:3): "ونحن عرفنا المحبّة حين ضحّى المسيح بنفسه لاجلنا".
بالمسيح أعيد الاتصّال بين الله والبشر. صرنا ابناء الله (3: 1). والحوار الذي انقطع عاد، فاستعدّ الله ليستجيب لنا "إذا طلبنا شيئاً موافقاً لمشيئته" (14:5). بالمسيح نستطيع أن نعرف الله إن أحبّ بعضنا بعضاً (12:4)

ثالثاً: مسحة الله
لقد أُعطينا الحياة الأبدية بواسطة الكلمة التي أعلنها الرسل. وهذه الكلمة تفعل في المؤمنين مثل مسحة نالوها من العلاء. بالمسحة يطبعنا الله بالزيت المقدس فيدلّ على أنه اختارنا. هذه المسحة تعلّمنا كل شيء (2: 27). وهي فينا بذار يمنعنا من أن نخطأ (9:3؛ مت 18:13- 23).
إن حفظ المؤمنون كلمة يسوع (2: 5؛ 3: 24)، أقام الله فيهم، وحدّهم به. لهذا السبب يشدّد الكاتب على التعلّق بيسوع. هذا التعلّق هو تعلّق الايمان (23:3) الذي يمرّ عبر سماع الكلمة (4: 6): "من يعرف الله يسمع لنا، ومن لا يكون من الله لا يسمع لنا".

رابعاً: أنبياء كذّابون
تتحدّث الرسالة عن الانبياء الكذّابين. نشروا في الجماعة المسيحية وفي العالم كلاماً مغايراً للانجيل (4: 1) فأضلّوا المؤمنين (2: 28). لم يعترفوا "بيسوع أنه جاء في الجسد" (2:4) فقطعوا المؤمنين عن ينبوع الحياة الذي هو يسوع المسيح. وفي نظر الكاتب، نحن أمام عودة إلى الخطيئة، أمام عمل المسيح الدجّال (3:4): "سمعتم أنه يجيء، وهو الآن في العالم".

خامساً: محبة الاخوة
وإذ أراد الكاتب أن يجنّب المؤمنين السقوط في فخاخ الانبياء الكذبة، وأن يدعوهم ليحافظوا على حياة الله فيهم، دعاهم لكي يقرّوا بخطاياهم ويلتصقوا بالمسيح التصاق الايمان. ولكن عليهم أن يترجموا ايمانهم محبة لاخوتهم. "فالوصية التي سمعتموها منذ البدء، هي أن يحب بعضنا بعضاً" (3: 11). "فاذا كان الله، أيها الأحبّاء، أحبنا هذا الحب، فعلينا نحن أن نحب بعضنا بعضاً" (11:4).
يشدّد الكاتب بصورة خاصة على هذه المحبّة، لأنها تدلّ على معرفتنا لله. من لا يحب لا يعرف الله. وهذه المحبة تتيح لنا الاتحاد بالله. "فليحب بعضنا بعضاً، أيها الأحباء، لأنّ المحبة من الله، وكل محبّ مولود من الله ويعرف الله" (4: 7).
هذه المحبة تنقلنا من الموت إلى الحياة (3: 14: لأننا نحب اخوتنا)، وتجعلنا شبيهين بيسوع المسيح، وتعلّمنا أن نقوم بالرسالة التي قام بها يوم كان في العالم. "فنحن في هذا العالم مثلما المسيح في العالم" (17:4). في المسيح ظهر حب الله، وفي المؤمن يظهر هذا الحب. "من ثبت في المحبة ثبت في الله وثبت الله فيه" (16:4).

2- جماعات المؤمنين
في نهاية القرن الأوّل المسيحي، جابهت جماعات المؤمنين مسألة هامة: كيف نثبت على الامانة ليسوع المسيح؟ كيف نثبت في الايمان؟ هذه الجماعات لم تعرف يسوع شخصياً. والرباط الذي يربطها هو كلمة الرسل.
ليس المؤمنون معزولين عن العالم، والاتجاهات الدينية في عصرهم تتغلغل فيهم كما تتغلغل في سائر الناس. وهي لا تحملهم إلى لقاء الله من خلال جسد يسوع، في حياة يسوع وفي حياتهم. فمن الصعب عليهم أن يروا يسوع إنساناً كسائر الناس. بل يفضلّون أن يعتبروه "لوغوس" أي الكلمة بالمعنى الفلسفي والديني في العالم القديم. لا أن ينظروا إليه كالكلمة الذي صار بشراً، صار جسداً (يو 1: 14).
أخيراً، أسهل على المؤمن أن يحب الله الذي لا يراه من أن يحب الاخ الذي يراه (4: 20). فالمسيحيون يفضلّون ان يتأملوا الله في النظريات المجرّدة، وهكذا يظنون أنهم يعرفونه. أما يوحنا فيرى انهم بهذا يخسرون الحياة الأبدية. ويذكّرهم أنهم يقدرون أن يعرفوا الله في الحياة اليومية، في محبّة الاخوة. وهذه المعرفة لا تكون صحيحة إلا بالنظر إلى ابنه يسوع المسيح.
أجل، يعتبر يوحنا في رسالته هذه أن خلاص العالم يمرّ في حياة البشر.
هذه هي الدعوة للقاء الله في حياة البشر، لحمل تاريخهم على محمل الجدّ، لاكتشاف هذا التاريخ في مخطّط الله وفي العودة إلى يسوع المسيح. نحن هنا أمام تذكير بأن خبرتنا لله تتم في محبّة الاخوة.
ونحن هنا أيضاً أمام اكتشاف لما هي الكنيسة: إنها مدعوّة لأن تنقل حياة الله بممارسة المحبة وسط الاخوة، وهي مدعوّة لتكون مسكن الله بينهم.

3- معرفة الله الحقة (1: 1- 4)
تبدأ 1 يو فجأة بدون تحية وسلامات كما في كل رسالة. إن الشاهد يسمعنا منذ الكلمة الأولى فعل ايمان قريب من يو 1: 1- 18. إن كثافة هذه الكلمات تدلّ على أننا أمام شيء جوهري بالنسبة إليه وبالنسبة إلى كل الذين كانوا شهوداً منذ البدء. معهم يقول يوحنا "نحن" ويحدّثنا في صيغة المتكلّم الجمع.

* البدء، البداية
إختبر الشهود حدثاً طبع بطابعه حياتهم. وهذه الخبرة هي خبرة أساسية. منها تنبع سلطتهم فتسمح لهم بأن يتكلّموا. والتشديد على "لمسته أيدينا" يبرز الواقع الذي رأوه وسمعوه.

* كلمة الحياة
هي الكلمة التي تنقل الحياة. لقد قبلها الشهود وأعلنوها، بحيث إن الذين وصلت إليهم صاروا شركاء الشهود وشركاء الآب والابن.

* الحياة تجلّت، ظهرت
لسنا أمام حياة عادية. بل أمام الحياة الأبدية، الحياة التي لا تنتهي. هذه الحياة مُنحت لهم بالخبرة التي اختبروها. وإذ يحدّد الكاتب أن هذه الحياة كانت عند الآب، فهو يكشف لنا أننا أمام حياة الله بالذات. هذه الحياة هي موضوع البشارة الرسولية.

* ابنه يسوع المسيح
عن يسوع تكلمت آ 1- 2، وإن لم يُلفظ اسمه. هو الذي رأوه وسمعوه ولمسوه. وكل ما صنع وكل ما قال هو كلمة حياة. إنه الحياة الأبدية. إنه كلمة الحياة. وحين سمّى الكاتب يسوع "ابنه" شدّد على علاقة يسوع بالآب. ودلّ بلقب المسيح على الوظيفة التي يقوم بها وعلى بعد عمله: إنه ذلك الذي اختاره الله ليخلّص شعبه، ذلك الذي يتم وعد الله لشعبه. وهو في نظر الشهود ذلك الذي يعطي الحياة الأبدية.

* الشركة او الاتحاد.
نحن أمام معرفة حميمة ومقاسمة حياة. فالاتحاد بين التلاميذ يتعلّق باتحّادهم بالآب والابن. واتحاد القراء يرتبط باتحادهم بالشهادة الرسولية. ويتمنّى يوحنا ان تكون المشاركة تامّة. هذا هو هدف الرسالة. ولكن هذه المشاركة صعبة ولهذا يعود إليها يوحنا مراراً: "تكونون شركاءنا كما نحن شركاء الآب وابنه يسوع المسيح".

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM