الفصل الرابع عشر: مواصلة السعي

الفصل الرابع عشر
مواصلة السعي
3: 12- 21

"إفرحوا في الربّ". ذاك هو النداء الذي سمعناه منذ بداية الرسالة، حيث كان بولس يتضرّع في سرور لأجل المؤمنين (1: 4). ولا يخاف في فرحه هذا أن يتحدّث عن نفسه هو اليهوديّ أمام الذين يريدون العودة إلى الممارسات اليهوديّة. غير أن كل ما يعتبره بنو قومه امتيازات، رأى فيه "أقذاراً" لكي يربح المسيح. أجل، لقد ضحّى بولس بكل شيء، خسر كل شيء طوعاً لكي يربح المسيح، ويُوجد فيه. خسر كل شيء فربح كل شيء. عرف قدرة قيامة المسيح، لا القدرة التي أقامت يسوع من بين الأموت وحسب، بل القدرة التي تتفجّر من المسيح القائم من الموت. بل عرف هذه القيامة ومجد أبناء الله الذين يقومون مع المسيح. فالشركة في الآلام تقود إلى الموت، وكل هذا يبلغ بنا إلى "القيامة من بين الأموات".
بعد نظرة عامة إلى هذا المقطع، نتوقّف عند ثلاث محطّات: مواصلة السعي (آ 12- 16). هجوم على "أعداء" المسيح (آ 17- 19). الرجاء الحقيقيّ (آ 20-21).

1- نظرة عامة
تحدّث بولس عن نعمة فريدة رافقت نعمة الإيمان. هي نعمة الآلام مع يسوع، مشاركته في آلامه. وكان قد كتب إلى أهل كورنتوس أنه معرّض للموت في كل يوم (1 كور 15: 31). وقال في 2 كور 4: 10: "نحمل موت يسوع لتظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا". وهكذا يبدو الرسول مشدوداً إلى المستقبل.
أ- انشداد نحو المستقبل
غير أن هذا الواقع لا يتحقّق تحققاً كلياً إلاّ ساعة يتحوّل "هذا الكائن الفاسد" الذي ما زلنا نلبسه فيكوّن كياننا. إلاّ ساعة نلبس عدم الفساد، نلبس الخلود (1 كور 15: 5). لهذا، حدّق بولس بنظره إلى المستقبل فقال في فل 3: 11: "لكي أصل، إذا أمكن، إلى القيامة من بين الأموات". لا شكّ اطلاقاً في فكر الرسول، هنا وفي 2 كور 5: 3، بأنه يعبّر عن رجائه الكبير. تقوّى بإيمانه، فانتظر أن يبلغ إلى المرحلة الأخيرة والنهائية في التحوّل الذي يقوم به المسيح. غير أنه يعرف أيضاً أن هذه القدرة التي فيه، ليست بمأمن من السقوط. لهذا، نراه يشهد على التواضع الضروريّ له وللآخرين في "استعمال" مواهب النعمة.
فنحن لم نحصل بعد على شيء بشكل نهائي. قد وصلنا ولكننا لم نصل بعد. مات المسيح ووهبنا الخلاص، ولكننا لم نمت نحن بعد. وسوف ننال الخلاص عندما نموت. لهذا قال بولس في آ 12: "هذا لا يعني أنني وصلت أو صرت كاملاً". لا هو ولا الآخرون. هو يشير إلى أنه يتكلّم "بالحكمة وسط الكاملين" (1 كور 2: 6). ويذهب هنا أبعد من ذلك معمّماً كلامه: "جميعنا، نحن الكاملين" (آ 15).
غير أن التعارض بين العبارتين يبقى سطحياً. لا شكّ في أن بولس يرغب أن يخرج قرّاؤه من اللانضوج الذي ما زال بعضهم يقيمون فيه. قال في 1 كور 14: 20: "أيها الإخوة، لا تكونوا أطفالاً في أحكامكم. كونوا في الشّر أطفالاً. أما في أحكامكم فكونوا بالغين" (تالايوي أي كمّال). ولكن بولس يعرف أيضاً أن ما يميّز الحياة في الآخرة هو كمال لا يستطيع المسيحي إلاّ أن يستشّفه خلال حياته على الأرض. "فمتى جاء الكامل زال الناقص" (1 كور 13: 10).
فإذا كان بولس قد شدّد في فل 3: 15 على كمال المسيحيّين على هذه الأرض، فلأن "الدُعاة" في فيلبّي كانوا يعتدّون بهذا الكمال عينه. هم من الكاملين، وأنتم من الكاملين أيضاً. هذا ما قاله بولس مشدّداً على أن هناك كمالاً وكمالاً. خطأهم هو أنهم يتحدّثون عن وسائل لبلوغ هذا الكمال، وهي وسائل يراها بولس غير نافعة إن لم تكن ضارّة ومسيئة إلى المؤمنين. ولكن تبقى مسافة يجب السير فيها. يبقى علينا أن نسير في الأمانة للإنجيل الواحد الذي يبشرّ به بولس (آ 16).
ب- اقتدوا بي
غير أن بولس لا يكتفي بأن يعظ ويتكلّم. إنه يقدّم نفسه نموذجاً ومثالاً: "إقتدوا بي جميعاً أيها الأخوة، وتبصّروا في الذين يسلكون على المثال الذي لكم فينا" (آ 17). هذا المقطع ليس الوحيد الذي فيه قدّم الرسول نفسه مثالاً يُحتذى به لدى قرّائه. نقرأ في 1 تس 1: 6: "وأنتم انفسكم اقتديتم بنا". وفي 2 تس 3: 7- 9: "وأنتم تعلمون كيف ينبغي أن تقتدوا بنا... نجعل لكم من أنفسنا مثالاً تقتدون به". وفي غل 4: 12: "فأسألكم أيها الأخوة أن تكوني مثلي". وفي 1 كور 4: 16: "فأطلب إليكم إذن، أن تكونوا بي مقتدين". وفي 11: 1: "إقتدوا بي كما أني أنا أقتدي بالمسيح".
نحن هنا دوماً أمام جماعات أسّسها بولس، فكان له معها علاقات حميمة جداً. غير أن وضعه ليس وضع الفلاسفة الأقدمين الذين يحيط بهم جمع من التلاميذ تكوّنوا على صورتهم. فكلمة "تلميذ" غائبة كلياً من رسائل بولس. ولكننا نجد لفظة "أب". فالأب الذي ولد أبناءه إلى الحياة الجديدة في المسيح (1 كور 4: 15)، يقدّم نفسه بشكل طبيعيّ كنموذج لأولاده.
ولكنه مثال يُلزمهم ويفرض عليهم أعمالاً صعبة. فإن أخذوا بنظرات بولس الأساسيّة وبالنتائج التي تصدر عنها، سيفهمون أن هذا يكلّفهم غالياً: فالمحنة تبدو هنا شرطاً من شروط الأمانة. وكما كانت كنائس اليهوديّة جديرة بأن يُقتدى بها (1 تس 2: 14)، كذلك بولس. فهو في سجنه يعيش هذه المحنة بشكل نموذجيّ. غير أنه ليس إلا وسيط واحد، هو المسيح، الذي يعي بولس أنه يعكس مثاله الأسمى: "كونوا مقتدين بي، كما أقتدي أنا بالمسيح" (1 كور 11: 1).
هكذا لا يكون "الاقتداء" بالمسيح اختراعاً من اختراعات التقوى المسيحيّة اللاحقة. بل هو متجذّر تجذّراً عميقاً في العهد الجديد. وكذا نقول عن الاقتداء بالله على ما في أف 5: 1: "كونوا مقتدين بالله كأولاد أحبّاء". ونقرأ في كو 3: 13: "وكما أن الرب سامحكم، سامحوا أنتم أيضاً". وفي مت 5: 48: "كونوا كاملين كما أن أباكم السماويّ كامل هو". وفي 18: 33: "كان ينبغي لك أن ترحم رفيقك كما رحمتك أنا". وفي لو 6: 36: "كونوا رحماء كما أن أباكم رحيم". ونقرأ في 2 كور 8: 9 عن المسيح الذي افتقر لأجلنا لكي نغتني بفقره. ونجد في روم 15: 7: "فأقبلوا إذن بعضكم بعضاً، كما قبلكم المسيح لمجد الله".
المهمّ في هذا "الاقتداء" (بالله أو بالمسيح) هو تحاشي "السعدنة" (أو الاقتداء الحرفيّ)، وجعل عملنا ينبع دوماً من الحبّ الذي هو معيار وروح كل خلقيّة مسيحيّة. وحدها المواقفُ العميقة التي تحرّك المسيح في حدث الخلاص، والأهداف الكبرى التي حملته، تستطيع أن تكون مثالاً للمسيحيّ في حياته الأخلاقيّة. وما نقوله هنا عن يسوع نقوله بالأحرى عن رسوله مثل بولس الذي هو صلة وصل بين المسيح وتلاميذه في حياة توافق حياة المسيح.

2- مواصلة السعي (3: 12- 16)
أ- أهل فيلبّي والكمال
ظنّ قرّاء بولس أنهم "كاملون"، أنهم وصلو إلى الهدف، فصوّر لهم بولس هذا السعي الذي يدلّ على الحياة المسيحيّة: يترك ما وراءه (الماضي والقيم المميتة)، ويندفع إلى ما أمامه، إلى المستقبل. نحن هنا قريبون من روم 9: 30 ي الذي يتحدّث عن اليهود وطلب البرّ. فالمسيحيّة هي أيضاً طلب، ولكنها طلب من نوع آخر. يجب أن نتذكّر في هذا المجال 1 كور 9: 24 ي حيث يقابل الرسول حياة المسيحيّة مع الجري في الحلبة (رج فل 2: 16؛ غل 2: 2؛ 2 تم 4: 7). ويجب أن نعود أيضاً إلى 1 كور 8 حيث الرسول يعتبر نفسه "عارفاً" على مثال العارفين (الغنوصيّة). فـ "المعرفة" الحقيقيّة هي التي تعرف حدودها. و"الكمال" الحقيقيّ هو الذي نسعى إليه دوماً ولا ندركه.
ب- ما أصبت الهدف
حين عبّر بولس عن شكّه بأن يبلغ إلى القيامة الأخيرة (آ 11)، فهذا لا يعني أنه قد وصل منذ الآن إلى الهدف، كما ظنّ بعض أهل فيلبّي، بل عكس ذلك. "لم يُدرك بعد". لا نجد هنا مفعول هذا الفعل. هل هو الكمال الخلقيّ والروحيّ، أو المعرفة، أو القيامة من بين الأموات، أو البرّ، أو المسيح نفسه؟ في الواقع، هناك إمكانيّتان معقولتان: أو أنّ الرسول يفكّر منذ الآن بصورة السعي، وما يطلبه هو الثمن (آ 14، الجزاء). أو أن الرسول يشير إلى ما لم يتمّ بعد. أما فعل "تالايو" الذي هو فريد عند بولس، فهو يقابل "الكمال" (تالايوي) في تلاعب على الكلام، وهو يعني وصل إلى الغاية، وكان كاملاً.
بدأ الرسول مسيرته وهو يتابع سعيه. ويأتي فعل "ديوكو" (سعى) فيشدّد على المجهود. هو لا يعني فقط "ركض" بل طارد، طلب، لاحق، اضطهد. غير أننا لا نشكّ في أن صورة الجري حاضرة كما في 1 كور 9: 24. وفعل "كاتالمبانو" (أخذ) قد يتخذ معنى فلسفياً: فهم. إذن، توخّى مجهود الرسول أن يثبت مكانه. "أعمل المستطاع لكي أدرك الهدف، بقدر ما يكون ذلك ممكناً".
ويأتي سبب هذا المجهود القويّ (لأنه): لسنا أمام رغبة بالظهور، ولا بتتميم "عمل". فبقدر ما يكمل كلّ شيء، يجب أن نحقّق أيضاً هذا الكمال. وبقدر ما المسيح أدرك المسيحي، بهذا القدر يحاول المسيحي أن يدرك المسيح.
وتتوسّع صورة الجري (آ 13). يجب أن نسير إلى الأمام. أن لا نتوقّف. أن لا نرتاح في أمجاد من الغار الذابل. وذلك أكان الإنسان يهودياً أم مسيحياً، بل نمتدّ دوماً إلى شيء آخر. ويصبح التحريض ملحّاً (أيها الأخوة)، مع أنه يتوجّه بشكل غير مباشر. ليس هو بأمر، أنه نصيحة وإرشاد.
ج- مسيرة إلى الهدف (آ 14- 16)
إن لجرْي المسيحي هدفاً (سكوبوس) يمنحه معناه: يتوّجه الأجر. وهو نداء الله السماويّ في يسوع المسيح. إن استعماله لفظة "كلاسيس" (نداء) لا للحديث عن الدعوة الفرديّة أو المعموديّة، بل لنهاية الأزمنة، أمرٌ فريد عند بولس بل في العهد الجديد كلّه. ولهذا حاول الشّراح أن يقرّبوها من عبارات جليانيّة أو قرأوها عند فيلون الاسكندرانيّ. في الواقع، جاءت الصورة في إطار "الألعاب" التي كانت تنظَّم في عالم اليونان. وبعد كل "مسابقة"، كانوا يعلنون اسم الغالب واسم أبيه واسم بلده. فكان يتسلّم غصن النخيل. لمّح بولس إلى هذا النداء (كانوا ينادونه ليتسلّم الجائزة). غير أنه يحدّد أدى "الجائزة" ليست على المستوى الرياضيّ. إنها من العلاء. فالجعالة هي الله نفسه الذي ينادي به يسوع المسيح. ويدوّي هذا النداء عبر حدث الصليب والقيامة، وما زال صوته مسموعاً في الكنيسة.
ظنّ الفيلبيّون أنهم بلغوا الكمال (تالايو). هنا نذكر أن "تلايوس" تعني أيضاً نضوج الحياة المسيحيّة (1 كور 2: 6؛ 14: 20؛ أف 4: 13؛ كو 1: 28؛ 4: 12). لا يرفض بولس هذه اللفظة التي يستعملها قرّاؤه، بل يدلّ على أنّ أساسها يبقى كرستولوجياً، يبقى يسوع المسيح. من هنا يُعاش الكمال في انشداد يتجسّد في الزمن. هذا هو أصل الخلقيّة المسيحيّة. وهكذا يرد فعل "فرونيو" الذي لعب دوراً كبيراً في فل، فدلّ في الوقت عينه على تصرّف ملموس وعلى بواعث تسند هذا التصرّف (2: 2).
فالتصرّف الكامل "في المسيح" لا يمكن أن يكون إلا ذاك الذي يصوّره الرسول. لهذا فهو لا يشكّ بأنه يستطيع أن يُقنع قرّاءه. إذا قرأنا النصّ كما يفعل السينائي و ل (020، رومة، القرن التاسع) حين يجعلان الماضي (فرونومن) بدل الأمر، نستطيع أن نفهم الجملة كاستفهام هازىء: "نحن "الكاملين" جميعاً، أما هكذا نفكّر"؟ فالكمال الحقيقيّ يكمن في أن نفكّر بشكل صحيح، وأن نقرّ بأن الرسول هو على حقّ.
وإن لم يكن الأمر هكذا، فبول لا يشكّ في أن قرّاءه المفتخرين بعدد من "الايحاءات" التي أعطيت لهم، سينعمون في النهاية بالوحي الصالح، ذلك الذي يأتي من الله فينيرهم إلى الحقّ. إن لفعل "ابوكالبتو" معنى خاصاً قريباً مما نقرأ في 1 كور 14: 30 (أوحى إلى آخر).
ومهما يكن الخلاف السابق (آ 16) بين بولس وأهل فيلبّي، على الطريق الذي ينفتح أمامهم، يجب متابعة السير بحزم. يجب أن يسير الجميعُ معاً.

3- "أعداء" المسيح (3: 17- 19)
أ- الخصوم ومثالهم المجيد
لسنا هنا أمام خصوم جدد يهاجمهم بولس. فلا فصل بين آ 12- 16، وآ 17- 21. بل تتواصل صورة الجري مع فعل "سلك" (باريباتيو) (آ 17، 18). وتتحدّد النظرة الاسكاتولوجيّة (هذا ما نجده في آ 11 ي) في آ 19 ي. والهدف (سكوبوس) الذي نجده في آ 14، يصبح الفعل "سكوبيو" (نظر، كان له هدف) في آ 17.
ثم إن آ 17 تبدو نتيجة ما سبق: لم يُرد بولس أن يقدّم خبراً موضوعياً عن ارتداده بل تقديم مثال لافت عمّا يجب أن يكون عليه الوضع المسيحيّ. وهكذا يستخرج الرسول الأمر العملي: "إفعلوا مثلي". غير أن آخرين يعتبرون نفوسهم "مثال" الحياة المسيحيّة، ويقدّمون لأهل فيلبّي سراب مثال "مجيد". لهذا، قام بولس بهجوم ثان عليهم في آ 18- 19، هجوم يدلّ عنفه مرة أخرى على الخطر الذي يهدّد الكنيسة الفتيّة إن هي سارت بحسب هذا المثال.
ب- السلوك الحقيقيّ (آ 17- 18)
وهكذا يأخذ ضمير المتكلّم المفرد (أنا، اقتدوا بي أنا) كل قيمته كمثال: دعا بولس قرّاءه لكي يقتدوا به. وهو نداء ملحّ ومليء بالعاطفة، وهو يتوجّه إلى "إخوة". ويشدّد النصح على الطابع الجماعيّ لهذا الاقتداء: "إقتدوا بي جميعكم. كونوا على رأي واحد في هذا الاقتداء".
ومهما تكن الجذور التاريخيّة والدينيّة "للاقتداء" البولسيّ، فالرسول يقدّم نفسه لقرّائه كمثال، ليشدّد على أهمية الآلام (1 تس 1: 6؛ 2: 14؛ رج 2 تس 3: 7- 9) وبذل الذات (1 كور 11: 1) لأجل ذاك الذي يقتدي بالمسيح (1 كور 11: 1؛ 1 تس 1: 6؛ رج أف 5: 1؛ فل 2: 6- 11). فليس من قبيل الصدف أن ترد اللفظة هنا أيضاً فتُعارض مثال "الكمال" وما فيه من "مجد باطل". هذا ما قدّمه الوعّاظ خصومُ بولس.
ولا يقدّم بولس نفسه وحدها كمثال يحتذى به. هنا تختلف فل عن 2 كور حيث الهجوم على الرسالة. أما هنا فليس الهجوم مباشراً على الرسالة. ففي داخل جماعة فيلبّي هناك تأثير الذين ظلّوا أمناء له، مثل تيموتاوس وابفروديتس (1: 1؛ 2: 19 ي). وهذا التأثير وهذه السلطة لا تستندان إلى وظيفة، بل إلى طريقة عيش خاصّة.
ويندفع الرسول (آ 18) فيتذكّر أيضاً وبشكل مباشر خصومَه. إنهم أعداء (اختروس) صليب المسيح. أولاً، هم عديدون (بولوي). ولا ينحصر نشاطهم في فيلبّي، بل في عدد من الجماعات الأخرى التي أسّسها بولس. حذّر بولس المؤمنين مراراً منهم، وإن هو عاد الآن إلى التحذير، فلأن الوضع ساء جداً، وهذا ما جعل الرسول يتوسّل باكياً (رج 2 كور 2: 4).
أما البدعة (أو: الهرطقة) التي يصوّب أنظارنا إليها، فهي تلامس كل مجالات الحياة المسيحيّة، ولا سيّما الخلقيّة منها. إنها تعارض "صليب المسيح". قال البعض: لسنا هنا أمام تعليم محدّد. وقال آخرون: هم أعداء أولئك الذين جعلوا ثقتهم في صليب المسيح.
لا نجد لفظة "عدوّ" في المعنى الهجومي إلا في هذا الموضع عند بولس. أما "ستاوروس" (ومشتقّاته) فنجده في ثلاثة سياقات مختلفة. السياق الأول هو سياق الجدال الغلاطيّ الذي ينطلق منه بولس ليفهمنا الجديد في "ديانة" الصليب بالنسبة إلى ديانة الشريعة (أو: الناموس، غل 3: 1؛ 5: 11، 24؛ 6: 12، 14). السياق الثاني هو سياق التواجه مع "حكمة العالم" في 1 كور: فصار الصليب علامة عن جهالة الله وجنونه (1 كور 1: 13، 17، 18، 23؛ 2: 2- 8). والسياق الثالث هو سياق أف وكو حيث الصليب هو علامة المصالحة (أف 2: 16؛ كو 1: 20؛ 2: 14).
إن النصّ الذي ندرس يقع في نقطة التقاء هذه السياقات الثلاثة: إن "أعداء الصليب" هم الذين يرفضون أن يفهموا الأهميّة الأسكاتولوجيّة والحاسمة لحدث الصليب، والقيامة التي ترتّب زمناً جديداً ومدى جديداً (2 كور 5: 17). هم أيضاً أولئك الذين لا يقبلون بعثار الصليب، بالألم، بالجنون والجهالة، بكل ما يطبع هذه الحياة الجديدة بطابع الصليب. وهكذا يؤدّي عملهم إلى تدمير الروح الجماعيّة التي دشّنتها المصالحة المرتبطة بالصليب.
ذاك هو معنى هذه العداوة تجاه الصليب. ولسنا أمام تساهل على المستوى الخلقيّ، ولا أمام تصرّف يرتبط بالمادّة، ولا أمام عالم يهوديّ متزمّت، ولا أمام جحود جاء خلال اضطهاد أصاب المسيحيّين. نحن أمام رفض للصليب بما فيه من جنون يتنافى وحكمة هذا العالم.
ج- عاقبة هؤلاء الخصوم (آ 19)
ويتواصل الآن التنديد العنيف بهؤلاء الخصوم، دون أن نستطيع أن نحدّد شخصيّتهم. لهذا نعود إلى فرضيّة عامة لنفهم هذه الآية: إن عاقبتهم الهلاك، إلههم بطنهم، ومجدهم في ما فيه خزيهم، وهمّهم في الأرضيّات.
وقف بولس في نظرة زمنية واسكاتولوجيّة، فتصوّر "عاقبة" (تالوس) خصومه: الهلاك (ابوليا) أي الموت دون أمل بالعودة. فإلههم هو إله هالك. هو بطنهم (كويليا). هل يلمّح بولس إلى السكر والمجون، أم إلى فرائض حول الأطعمة الطاهرة والنجسة؟ الأمران ممكنان. وقد يلمّح الرسول إلى سلوك لا يقوده الروح. إذا عدنا إلى مجمل السياق (كبرياء الكلاب في 3: 2 ي، والفوضى على المستوى الجماعيّ، 2؛ 1- 18) نفهم: لا يفكّرون إلا بذواتهم، إلههم هو نفسهم. ومجدهم (دوكسا) هو خزيهم. هو عارهم (أيسخيني). رأى بعضهم إشارة إلى فوضى جنسيّة بشكل خاص، ورأى آخرون تلميحاً إلى الختان. غير أن "أيسخيني" لا تدلّ على المجون. بل قد تدلّ على تصوّر ذاك الذي يمثل أمام منبر الله. و"المجد" هي كلمة هامّة في فم خصوم الرسول. ولكن يقول بولس: أي مجد هو هذا المجد حين نكون أمام خيانة الإنجيل، وتقديم الذات على كل شيء (بل على الله)، وتدمير الجماعة المسيحيّة. مثل هذا المجد هو عار.
كل اهتمام هؤلاء الناس هو في "مصالح أرضيّة". ونظرتهم إلى الأمور هي محدودة، ومحصورة في ذاتهم. لهذا، تراهم لا يخضعون إلا إلى بواعث ملتصقة بالأرض، ولا تحاول أن ترفع قلب الإنسان وفكره.

4- الرجاء الحقيقيّ (3: 20- 21)
أ- أما نحن
نقرأ هنا جملة كلها إيقاع مع ألفاظ مثل "سوتير" (مخلّص). "بوليتوما" (مواطنيّة). وظنّ بعضهم أننا أمام نشيد ليتورجيّ يُنهي هذا القسم الذي يبدأ في 3: 1، فيعود بنا إلى التقليد والتعليم الصحيح. غير أن الفكر البولسيّ هو هو، ولا سيّما في آ 21، وهو خاتمة الحديث الذي قرأناه في الآيات السابقة. لهذا نظنّ، أن الكاتب عاد إلى مواضيع تقليديّة فأنهى تقديمه للحياة المسيحيّة في إطار هجوميّ. ومقابلة هذه الآيات مع 2: 6- 11 تدلّ على هويّة الكاتب (هو بولس الرسول) وعلى موقع هذه المقطوعة في فل.
فإذا كانت الحياة المسيحيّة انشداداً نحو المستقبل، فهذا المستقبل هو مليء بغنى، تبدو تجاهه كلا شيء كلُّ الانخطافات وسائر "الأمجاد" التي يتحدّث عنها الخصوم. فهذا الغنى الحقيقيّ هو قبل كل شيء من عند ربّ الكون كله. وهذا المجد هو مجده. وهو مجد يتعدّى مجهودنا الخاص. بل هو يُفاض علينا لأن أصله أبعد منا. لأن أصله من الله. وهذا المجد لن يبقى خارجاً عنّا: فنحن "نتحوّل إلى مجد". ويقين هذا التحوّل يكمن في حياة من التواضع وفي تعلّق بذلّ الصليب. بما أننا نشارك في موت المسيح، لا نستطيع إلاّ أن نشارك في قيامته.
ب- مواطن السماء (آ 20)
المسيحيّ هو مواطن السماء. لا حاجة إلى التشديد على الدور الذي تلعبه المواطنيّة في المدينة القديمة. فالإنسان مواطن في مدينة قبل أن يكون شخصاً مستقلاً في ذاته. والفيلبيّون الذين هم سكان مستوطنة رومانيّة (من يُولد فيها هو مواطن رومانيّ) يستطيعون حقاً أن يفهموا هذه الصورة.
وفكرة المدينة السماويّة قد ترجع إلى نظرة هلنستيّة أو إلى اعتبارات يهوديّة حول أورشليم السماويّة. فالأمران ممكنان وبولس هو وليد حضارتين. غير أننا لسنا هنا حقاً أمام مدينة (بوليس)، بل أمام مشاركة في أمور المدينة، في تنظيم المدينة (بوليتوما). فتجاه الذين تحرّكهم أمور الأرض بما فيها من ابتذال (آ 19)، يؤكّد بولس أن رجاء المسيحيّ وإيمانه وبواعث حياته المسيحيّة تنبع كلها من موضع آخر، من السماء.
لهذا، نحن أيضاً أمام انشداد، أمام انتظار. فالفعل "اباكداخوميتا" فعل بولسي. يرد ثماني مرات في العهد الجديد، منها ست مرات عند بولس. وهو يصوّر دوماً انتظار المجيء (باروسيا) لا سيّما في روم 8: 19- 25. وموضوع هذا الانتظار هنا هو "المخلّص": إذن، نحن أمام انتظار كله فرح، لا انتظار الخائفين والخانعين أمام الكوارث الجليانيّة الآتية.
نجد لفظة مخلّص (سوتير) هنا، وفي أف 5: 23 (يسوع مخلّص الكنيسة) وفي الرسائل الرعائية (1 تم 1: 1؛ 2: 3؛ 4: 10؛ 2 تم 1: 10؛ تي 1: 3، 13؛ 2: 10، 13؛ 3: 4، 6). وفي 2 بط 1: 11، 11؛ 2: 20؛ 3: 18؛ 1 يو 4: 14؛ يهو 25. هذا عدا عما نقرأه في لو 1: 47 (الإله مخلّصي)؛ 2: 11 (ولد لكم مخلّص)؛ يو 4: 42 (أنه مخلّص العالم)؛ أع 5: 31 (رفعه الله رئيساً ومخلّصاً)؛ 13: 23 (أقام الله لإسرائيل مخلّصاً).
يرى بولس أن الخلاص (وفعل خلّص) يدلّ بشكل جوهريّ على العمل الأخير الذي قام به الله في يسوع المسيح، وهو إبعاد الغضب الآتي (روم 5: 9؛ 1 كور 3: 15؛ 5: 5؛ 1 تس 5: 19)، أو (كما هو الأمر هنا) الامتلاك الأخير للمجد. فالوضع الحاضر للمسيحيّ يعبّر عنه أيضاً بلغة "تبرير" أو "الحياة في المسيح". والخلاص لا يمكن أن ينحصر في حدث خاص من حياة الفرد كما هو الأمر في العالم الهليني، أو في الديانات السرّانيّة. أو عند بعض الفلاسفة حيث اعتبر كل إنسان نفسه "مخلّصاً". وإذ أراد الرسول أن يتجنّب مثل هذا الخلط بين الديانة المسيحيّة وما يحيط بها من تيارات فكريّة وفلسفيّة ودينيّة، لم ينسب كثيراً لقب المخلّص إلى المسيح.
غير أن السياق الهجوميّ فرض على الرسول أن يتحدّث هنا عن المسبح على أنه المخلّص. أما الرباط بين اليوم وغداً، فنحن لا نجده في نفوسنا، بل في ذلك الذي نعترف به اليوم رباً (2: 11) وغداً مخلّصاً.
ج- من جسد الهوان إلى جسد المجد (آ 21)
إن التأكيد المتعلّق بالمجد لا يستند إلينا بل إلى الرب نفسه الذي يجب أن تلهمنا تدرتُه ثقة تامّة به. وهذا الربّ هو "بكر إخوة كثيرين" (روم 8: 29). فبقدر ما نشارك في حياة المسيح الرب، نشارك أيضاً في مجده، والمشاركة على هذه الأرض تعني المشاركة في ذلّه.
هنا نعود إلى آ 20 وفي النصّ ما فيه من مصير سماويّ للمؤمنين. السماء هي "موطنهم" الحقيقيّ. وقد يحرّضهم الرسول على الارتفاع فوق ظروف الجسد والحياة على الأرض لكي يتوقوا إلى العالم الالهيّ والسعادة الروحيّة.
نبدأ فنقول إن النصّ لا يتحدّث عن "نفس" منفصلة عن الجسد، وهي تذهب إلى مقام الله في السماء. فالأفق الذي أمامنا يؤمّن موقعاً هاماً للجسد. فعلى المسيح عند عودته أن "يحوّل جسدنا الشقيّ (جسد هواننا) إلى جسد مجده (إلى جسد مجيد، جسد ممجَّد)" (آ 21؛ رج 1 كور 15: 47- 49).
ولا يقول بولس إلى أهل فيلبّي إن السماء هي الموطن الذي يجب أن يتوقوا إليه، والذي يُدعَون للوصول إليه. فلفظة "بوليتوما" هي وضع وحالة قبل أن تعني "مدينة" أو "بلداً". وهي تدلّ على مواطن يمارس عمله في "سياسة" البلاد.
وهكذا يسوسنا في السماء، ذاك الذي هو فيها منذ الآن، بعد أن رفعه الله إلى درجه ربّ الكون (2: 9- 11؛ مت 28: 18)، ونحن ننتظر أن يتغلّب على قدرة الشّر. بعد هذا يترك مقامه السماويّ ليأتي إلى الأرض، موضوع انتظار المؤمنين ورجائهم. في ذلك الوقت، عليهم أن يرفعوا أنظارهم ويرتِّبوا عملهم حسب هذه السلطة التي تسود عالم الله، فيختلفون عن الذين جعلوا قلوبهم في أمور الأرض.
ولكن إذا كانت النظرة أرضيّة، أي تدلّ على كونٍ تحوّل وأجساد ممجّدة، كيف نفهم كلام بولس (3: 14)، حيث يُعلن أنه يسعى "نحو الهدف، من أجل الجعالة التي يدعوه الله لأن يتقبّلها في العلاء، في المسيح يسوع"؟ في الواتجع لا تعود "في العلاء" إلى الجعالة (وتقديم الجائزة)، بل إلى النداء. فالنداء هو سماويّ، لا الجائزة أو تقديم الجائزة.
وإذا أردنا أن نتوسّع في الجملة نقول: أتابع جريي نحو الهدف من أجل الجائزة التي يؤمّنها نداء علويّ يوجّهه الله إلينا في المسيح يسوع (رج أف 1: 3).

خاتمة
وعى بولس أنه كان موضوع نعمة فريدة، أساسها لقاؤه بالمسيح على طريق دمشق. ولكنه وعى أيضاً أنه لا يستطيع أن يجد في ذلك عذراً ليرفض كل مجهود. هو يتحدّث عن "الكاملين" في هجوم على الفيلبيّين الذين اعتبروا نفوسهم قد بلغوا إلى الكمال. ولكن إن كان الرسول لم يبلغ الهدف، فأهل فيلبّي لم يبلغوه أيضاً. لهذا يدعوهم، كما يدعو نفسه، للانطلاق إلى الأمام: ينسون ما وراءهم ويمتدّون إلى ما أمامهم. ناداهم يسوع، كما نادى بولس، أدركهم، أمسك بهم. لهذا، يسعى بولس لكي يدرك يبسوع الذي أمسك به في طريق دمشق، لكي يجيب على النداء الذي توجّه إليه فحوّل له حياته. لهذا لم يبقَ لأهل فيلبّي إلا أن يقتدوا برسولهم ويسلكوا سلوكه في التعلّق بصليب المسيح.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM