الفصل التاسع: نداء إلى الوحدة في التواضع

الفصل التاسع
نداء إلى الوحدة في التواضع
2: 1- 4

تحدّث الرسول في المقطع السابق عن الوحدة، فدعا المؤمنين إلى الثبات في روح واحدة، إلى الجهاد بنفس واحدة. وها هو يعود إلى الحديث عن هذه الوحدة التي نصل إليها في التواضع. فإذا أردنا أن نحصل على هذه الوحدة، نترك الروح يقودنا. ونحن لا نحصل عليها إلا إذا عشنا التواضع المتبادل، وتركنا الأنانيّة والبحث عن المصالح الشخصية وطلب الافتخار البشريّ. أما المبدأ فهو: نحسب الآخرين خيراً منا. لا ننظر لما هو لنفسنا، بل لما هو لغيرنا. ذاك هو موقف يسوع. تلك هي استعدادات يسوع المسيح كما سنقرأها في فصل لاحق مع النشيد الكرستولوجي الذي هو قمّة في الرسالة إلى أهل فيلبّي.
نبدأ أولاً فندرس الأمور النقدية في ف 2 كله. ثم نتحدّث عن الوحدة، ونفهم أخيراً ماذا تعني هذه الوحدة في الوضع الخاص بفيلبّي.

1- دراسة نقديّة (2: 1- 30)
* في آ 1، وضعت المخطوطات "تيس" (بعض) بدل "تي" أمام "سبلانخنا" (أحشاء). والمطلوب هو "تي" أو أقله "تينا" كما عند يوحنا فم الذهب. قد تكون السين سقطت، فكتب الناسخ حرفاً واحداً بدل أن يكتب حرفين.
* في آ 4، نقرأ "اكستوي" (كل واحد) مرتين، ولكن النسخة الشائعة قدّمت صيغة المفرد، ويبدو أن هذا ما وُجد في الأصل في البردية 46 والسينائي والافرامي... ونجد أيضاً مخطوطات مختلفة، قد حاولت أن تجعل المضارع أو الأمر محل اسم الفاعل، لكي تصبح الجملة خفيفة.
* في آ 5، قرأت النسخة الشائعة "غار" (الفاء) لتؤمّن رباطاً مع الآيات السابقة. وكذلك فعلت البردية 46 والمخطوطات د، ج.... وقرأت الشائعة أيضاً الأمر المجهول بدل المعلوم (تصرّفوا، افتكروا).
* في آ 7، فضّل عدد من آباء الكنيسة في خطّ بردية 46 المفرد (انتروبو) على الجمع انتروبون (البشر) بسبب التوازي مع العبارة التالية. والنسخة الشائعة ألغت في خط د و ج ألـ التعريف أمام الإسم.
* في آ 11، صحّح عدد من المخطوطات الفعل مع لكي إلى صيغة المضارع، فأعطت العبارة معنى اسكاتولوجياً حصرياً، وذلك أمانة لما في أش 45: 23.
في آ 12، ألغى الفاتيكاني وغيره أداة "أوس" تخفيفاً لجملة مثقلة.
* في آ 15، قرأت الشائعة والمخطوط د، ج، "اموميتا"، بدل مرادفه "اموما" بتأثير من تث 32: 5، وأحلت بردية 46، والاسكندراني، د، ج، فعل صار محل فعل كان.
* في آ 26، زاد التقليد المصري والمخطوط د "ايداين" بعد "ابيبوتون" على غرار ما في روم 1: 11 "مشتاق أن أراكم"؛ 1 تس 3: 6 (مشتاقون إلى رؤيتنا)؛ 2 تم 1: 4 (شوقي إلى رؤيتك).
* في آ 30، هناك تردّد بين "خرستو" (بردية 46، الفاتيكاني) بدون الـ التعريف، "تو خرستو" (الشائعة، د) مع ألـ التعريف، "كيريو" (السينائي، الاسكندراني). وهناك من يلغي المضاف إليه (عمل المسيح).

2- نداء إلى الوحدة (2: 1- 2)
أ- نظرة عامة
بعد أن تحدّث الرسول عن مخاطر تهدّد الجماعة من الخارج، ها هو يتحدّث عن مخاطر تهدّدها من الداخل. بل إن هذه الآيات هي امتداد وتعميق لما قاله بولس عن التهديد الذي يشكّله الوعّاظ الآخرون: وحدة العمل تتأسّس على وحدة النيّة والهدف. من هنا سلسلة من الإشارات السيكولوجيّة التي تدور حول فعل "فرونيو" الذي يتكرّر ثلاث مرات في آ 1- 5. لهذا يبدو الرباط واضحاً بين 1: 27- 30 وبين 2: 1 ي بواسطة "اون" (اذن). ثم هناك ألفاظ تتردّد في المقطوعتين (روح، نفس، محبّة). ثم إن آ 1- 4 تنطبع بالنشيد الذي يورده بولس مع آ 6 ي. فإن 2: 1- 5 يشكّل بداية لهذا النشيد. ترد كلمات متشابهة، ونجد مرتين "في المسيح" (آ 1، 5). فإذا كان النشيد الكرستولوجي قطعة رئيسيّة في شعائر العبادة، قطعة ترتبط بالمعمودية والقربان المقدس (الافخارستيا والعشاء السّري)، نفهم ما يقوله بولس في آ 1: أيها الرسل الكذبة، أنتم لا تعيشون الخبرة المسيحيّة التي يجب أن تعيشوها. فهذه الخبرة هي حبّ وشركة في الروح. هذه الخبرة نعيشها "في المسيح".
ب- بداية التحريض (آ 1)
جاءت هذه الآية كنتيجة لما سبق (أون). ونحن نفهمها كما يلي: "إذا كنتم اختبرتم كل هذا... فأتمّوا روحي". حصلت هذه الخبرة في شعائر العبادة وفي العلاقات بين الرسول والمسيحيّين في فيلبّي. نحن نجد في 4: 8 البرهان الذي نجده هنا. لهذا، يبدو أنه يجب أن نترجم "باراكليسيس": تعزية لا تحريض. فبولس يبدو وكأنه لا يريد أن يعطي أوامر. وهذه التعزية التي يقدّمها، نجدها في أخوّة المسيحيّين وحياتهم كجماعة، لا سيّما في شعائر العبادة وفي ما فعله الفيلبيّون، تجاه الرسول في ضيقه الماديّ. هذه التعزية هي "في المسيح". يعني أنها تنبثق من حدث المسيح، وهي ستملك في جماعة تعيش من المسيح.
و"التعزية في المحبّة" تلمّح إلى الواقع الجماعيّ الذي يعيشه أهل فيلبّي في شعائر العبادة، كما تلمّح إلى المساعدة التي أرسلها الفيلبيّون إلى الرسول فسمّاها "فعل محبّة" في 1: 9. ويبدو الأمر أكثر وضوحاً حين نتحدّث عن "شركة الروح". نحن أمام الروح القدس (لا أمام توافق داخليّ فقط) الذي يبدو قبل كل شيء عاملاً على مستوى المشاركة والوحدة، قبل أن يؤثّر على الظواهر الخارقة التي تحطّم هذه الوحدة (1 كور 12: 1 ي).
هذه الشركة هي التي توحّد الفيلبيّين ببولس في "مشاركتهم في الإنجيل" (1: 5، 7). ويذكّرهم بولس أن الرباط الذي يضمّ المسيحيّين بعضهم إلى بعض (لا سيّما ذاك الذي عاشه أهل فيلبّي)، يبدو عميقاً جداً. إن لفظة "سبلانخنا" تدلّ عند بولس على عمق المحبّة التي تربطه بالجماعات التي أسّسها. تحيلنا هذه اللفظة إلى 1: 8 وحنان بولس بالنسبة إلى أهل فيلبّي. وتأتي كلمة "اويكترموس" فتشدّد على قوّة هذه العلاقة (كو 3: 12). كما تدلّ أيضاً على أن المحبّة التي تجمع المسيحيّين أساسُها رحمة الله للبشر. نحن هنا في الواقع أمام أعمال الله الرحيمة. رج روم 12: 1 (برأفة الله)؛ 2 كور 1: 3 (أبو الرأفة)؛ رج 1 أخ 21: 13؛ 2 مل 24: 14 حسب السبعينيّة حيث تستعمل "أحشاء" و"رأفة" في لائحة الفضائل.
ج- أتمّوا فرحي (آ 2)
مع أن الفيلبيّين فعلوا الكثير من أجل فرح الرسول (1: 4)، غير أن وضع جماعتهم ما زال مبعث قلق. لهذا جاءت عبارة دقيقة ونحيفة: "إجعلوا فرحي تاماً، كاملاً". لهذا، لا بدّ من "وحدة النيّة" أو "الاستعدادات الناشطة". أما فعل "فرونيو" فيشير إلى "مشروع" نعبّر عنه في أعمال ملموسة. أما المشروع المذكور هنا، فهو يسند حياة الجماعة. سبق لبولس وتكلّم عن هذا الأمر في روم 12: 16: "كونوا متّفقين"؛ 15: 5: "إتفاق الرأي"؛ 2 كور 13: 11: "كونوا على رأي واحد"؛ فل 2: 2؛ 4: 2: "أن تكونا على رأي واحد".
نشير هنا إلى أن بولس يستعمل فعل "فرونيو" 23 مرة، منها 10 مرات في فل. كما نربط هذا الفعل بالجهاد عينه في 1: 30. فنتيجة الهرطقة (أو: البدعة) هي تدمير الوحدة في جماعة فيلبّي.
وتظهر هذه الوحدة أولاً في المحبّة (أغابي) التي بها نميل عن ذواتنا وننتبه إلى الآخرين. وهي أيضاً مشدودة إلى هدف محدّد، إلى تتميم رسالة واحدة. كل هذا يتمّ "بنفس واحدة" (سينبسيخوس). ترد هذه العبارة اليونانيّة مرة واحدة في كل العهد الجديد. ولكن يجب أن نقرّبها من عبارة قرأناها في 1: 27: "تجاهدون بنفس واحدة"، ومن الألفاظ المركّبة مع الأداة "سين".

3- معنى هذه الوحدة (2: 3- 4)
ما يعنيه بولس بهذه الوحدة، ستوضحه إشارتان سلبيّتان (لا عن منازعة، لا عن عجب)، ثم برهان إيجابي (لكن ليحسب). وهكذا تتحدّد الأخطار التي تهدّد جماعة فيلبّي: المنازعة أو التآمر. العجب والافتخار الباطل. نجد اللفظة الأولى عند بولس (اريتايا) في معنى عام، وفي لائحة الرذائل. نقرأ في 2 كور 12: 20: "أخاف أن يكون بينكم خلاف وحسد وغضب ونزاع (تحزّب)"؛ وفي غل 5: 20: "أعمال الجسد... الزنى والدعارة... والغضب والدسّ والخصام". نلاحظ أننا أمام رسالتين كُتبتا إلى كنيستين عرفتا صعوبات مشابهة لصعوبات فيلبّي (1: 15)
وذكر الرسول أيضاً: "كانودوكسيا". هي لا ترد إلا هنا في العهد الجديد. غير أننا نجد "كانودوكسوس" في غل 5: 26: "لا نكن ذوي عجب، ولا نتحدّ بعضنا بعضاً، ولا نحسد بعضنا بعضاً". غير أننا نجد "دوكسا" (المجد) ست مرّات في فل. هي ترتبط أربع مرّات بالله: لمجد الله (1: 11). يسوع المسيح هو ربّ لمجد الله الآب (2: 11). غنى الله في المجد (4: 19). لإلهنا وأبينا المجد إلى دهر الدهور (4: 20). ومرة يصف "المجد" في العالم المقبل: سيحوّل جسد هواننا... على صورة جسد مجده" (3: 21). ومرة أخيرة تُستعمل لفظة "دوكسا" لكي تندّد بالذين "يضعون مجدهم في المخزيات والأرضيات" (3: 19). وإذا علمنا أن "دوكسا" هي من الألفاظ الأساسيّة في حرب تبدو 2 كور صدىً نفهم أن كلمة "مجد" وكلمة "عجب" تدخلاننا في سياق مماثل في فل: المجد لا يخصّ المسيحي منذ الزمن الحاضر، وإلا صار مجداً فارغاً (وعجباً) يحطّم روح الجماعة بالمزاحمة والحسد.
أما المسيحيّون فعليهم أن يبرهنوا على تواضعهم. اللفظة هي "تاباينوفروسيني". هو "فرونيو" متواضع (تاباينوس). هو فكر وعقليّة متواضعان. لم يكن التواضع فضيلة عند اليونان. فهو "ذلّ" يرتبط بالعبيد. ولكنه اعتبر صفة أمام الله في العهد القديم. وفي قمران هو يلهم الحياة الجماعيّة.
والتواضع يقوم بأن يحسب الواحد الآخرين أفضل منه. لسنا هنا أمام تفضيل على المستوى الروحيّ والأخلاقيّ، بل على مستوى الحياة اليوميّة.
ونأخذ الآخرين بعين الاعتبار (آ 4). هذا يعني أن لا ننظر إلى صفاتنا الروحيّة، بل إلى صفات الآخرين، وقد يعني أيضاً أن لا نبحث عن مصالحنا، بل عن مصالح الآخرين. أن لا نخلق داخل الجماعة مجموعات منغلقة أو تحزّبات تقسم الكنيسة، كما كان الأمر بالنسبة إلى كنيسة كورنتوس.

خاتمة
عرف بولس عن خبرة أن المنازعات والخلافات تُولد بسهولة في الجماعات. وقد وجد علامات واضحة في فيلبّي. قال في 1: 27: "سيروا على ما يليق بإنجيل المسيح". وفي 2: 14: "إفعلوا كل شيء بغير تذمّر ولا جدال". وفي 4: 2: "أحرّض... أن تكونا على رأي واحد في الرب". لهذا، حرّض الرسول قرّاءه على المحبّة والاتّفاق. هذا النوع من التحريض الذي نجد مثله في روم 12: 16 (لا تجازوا أحداً شراً بشّر، واجتهدوا أن تعملوا الخير مع جميع الناس)؛ 15: 5 (فيعطكم إله الصبر والعزاء اتفاق الرأي في ما بينكم)؛ 2 كور 13: 11 (كونوا على رأي واحد وعيشوا بسلام)، لا يتنافى مع الفرح والثقة اللذين نجدهم في فل. والوحدة لا تتحقّق إلا بحياة من التواضع والتجرّد والخدمة، التي أعطانا عنها المسيح أفضل مثال: "هو القائم في صورة الله... صار شبيهاً بالبشر... صار طائعاً حتى الموت، بل موت الصليب"

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM