الفصل الخامس والعشرون: الأناجيل الإزائية

 

الفصل الخامس والعشرون
الأناجيل الإزائية

حين تجوّلنا في كتابات العهد الجديد، إكتشفنا شيئاً فشيئاً حياة هذه الجماعات الأولى الأمينة ليسوع الناصري والمستعدة لانطلاقات جديدة. في هذه الدينامية وُلدت الأناجيل وقد رأينا في الفصل السابق ظروف تكوينها. لم يكن الإنجيليون مقمّشين لتقاليد سابقة، بل حاولت كل منهم أن يقدّم عملاً مبتكراً. هو كاتب حقيقي وعائش ما جماعة، وهو يتكلّم باسمه الشخصي وباسم هذه الجماعة.

1- الأناجيل الإزائية
وهكذا كانت لنا أناجيل أربعة. نترك يوحنا إلى ما بعد، ونتوقّف عند الأناجيل الثلاثة الأولى التي اعتاد الشّراح أن يسمّوها الأناجيل الإزائية. لماذا؟ لاننا نضع نص إنجيلي تجاه نص إنجيلي آخر، فنكتشف التشابهات والاختلافات.
إن التقليد الكنسي الذي يعود إلى القرن الثاني، ينسب هذه الأناجيل إلى كل من متى ومرقس ولوقا. كان متى عشاراً ومن مصاف الاثنى عشر. كتب الإنجيل الأول في فلسطين لمسيحيين ارتدوا من العالم اليهودي. ألّف كتابه في اللغة العبرية، أي الآرامية. ثم ترجم إلى اليونانية. والإنجيل الثاني دوّنه يوحنا مرقس الذي هو تلميذ في أورشليم. رافق في الوسالة بولس ثم برنابا قريبه وأخيراً بطرس. كان مرقس ترجمان بطرس فدوّن تعليم بطرس في رومة.
وكان لوقا الطبيب تلميذاً آخر. إختلف عن متى ومرقس، فكان من أصل وثني. يعتبر البعض أنه ولد في أنطاكية. رافق بولس في الرحلتين الرسوليتين الثانية والثالثة، كما كان معه خلال أسره في رومة. كتب لوقا إنجيله تحت نظرِ بولس، كما كتب مرقس تحت نظر بطرس. وكانت اليونانية لغة إنجيلي مرقس ولوقا.
هذا ما يقوله التقليد الكنسي. وهذا ما يثبّته تفحّص داخلي لهذه الأناجيل الثلاثة. هناك علاقات أدبية، جعلت الشّراح يتحدّثون عن المسألة الإزائية. أما نحن، فقد أشرنا إليها في الفصل السابق، ونودّ هنا بالأحرى أن نقدّم نصين يظهر فيهما التوازي. وهكذا نتعلّم أن نكتشف الاختلافات والتشابهات، فنصل من اكتشافنا إلى أصالة كل إنجيلي بمفرده. فالطريقة الخاطئة تقوم بأن نمزج الأناجيل بعضها ببعض. وهكذا نمسخها. والطريقة الصحيحة تعلّمنا كيف نقابلها بعضها مع بعض عارفين أننا لا نملك نسخة واحدة عن حياة يسوع وأقواله وأعماله، بل ثلاث نسخات متشابهة، ونسخة رابعة هي إنجيل يوحنا.

2- دعوة متى (أو: لاوي) العشّار
نقرأ هنا لو 27:5- 32؛ مر 13:2- 17؛ مت 9:9-13
متى مرقس لوقا
وخرج يسوع من جديد وبعد ذلك خرج
على شاطئ البحر
وكان كل الشعب يأتي إليه
وكان يعلّمهم
وإن يسوع وإذ
إذ مرّ من هناك مرّ
رأى رجلاً رأى لاحظ عشّاراً
لاوي بن حلفى اسمه لاوي
جالساً في بيت الجباية جالساً في بيت الجباية جالساً في بيت الجباية
اسمه متى
وقال له: اتبعني وقال له: اتبعني وقال له: اتبعني
و و واذ ترك كل شيء
قام وتبعه قام وتبعه قام وتبعه
وحصل وحصل و
صنع لاوي وليمة كبيرة
إذ كان على المائدة انه كان على المائدة
في البيت في البيت في بيته
وها إن و وكان هناك
جمهور
كثيراً من العشارين إن كثيراً من العشّارين كثير من العشارين
والخاطئين جاؤوا والخاطئين وأناس آخرون
وكانوا على المائدة وكانوا على المائدة كانوا على المائدة
مع يسوع وتلاميذه مع يسوع وتلاميذه معهم
فقد كانوا كثيرين
وتبعوه
وحين رأى (هذا) و وتذمّر
الفريسيون الفريسيون
كتبة الفريسيين وكتبتهم
حين رأوا أنه يأكل
مع الخاطئين والعشارين
قالوا قالوا
لتلاميذه لتلاميذه لدى تلاميذه
لماذا معلمكم لماذا لماذا
يأكل يأكل يأكل
ويشرب
مع العشارين مع العشارين مع العشارين
والخاطئين؟ والخاطئين؟ والخاطئين؟
أما هو ويسوع ويسوع
إذ سمع قال إذ سمع قال أجاب وقال لهم
الأصحاء الأصحاء المعافون
لا يحتاجون إلى طبيب لا يحتاجون إلى طبيب لا يحتاجون إلى طبيب
بل المرضى بل المرضى بل المرضى
إذ هبوا واعرفوا ما هو
أريد الرحمة
لا الذبيحة
فأنا ما جئت ادعو أنا ما جئت أدعو أنا ما جئت أدعو
الابرار، بل الخطأة الابرار، بل الخطأة الابرار، بل الخطأة
الى التوبة
حين نقرأ هذه الأخبار الثلاثة، نرى أساساً مشتركاً: نداء رجل يُروى حسب رسمة اعتدنا عليها في أخبار الدعوة في العهد القديم. ثم جدال بين الفريسيين ويسوع يدفع يسوع لأن يفسّر موقفه فيما يخصّ رسالته. ولكننا نرى أيضاً أن طريقة الإخبار ليست هي هي. لم يروِ الإنجيليون الثلاثة الخبر بالطريقة عينها. ولكن هذا لا يكفي لكي نفسرّ الاختلافات.
هنا نطرح على نفوسنا الاسئلة التالية:
- ما الذي يختصّ به كل إنجيلي على مستوى النص. موضعه في الإنجيل، قرائنه؟
- ماذا يبرز كل خبر؟ على أي وجهة من شخصية يسوع يشدّد؟
- لماذا اتخذ الكاتب هذا الخيار؟ هل نفهمه راجعين إلى مجمل إنجيله وحياة جماعته؟
ونبدأ بنص القديس مرقس الذي هو الأقدم. وبعد متى نصل إلى لوقا.
أولاً: مرقس
يبرز مرقس العشارين والخطأة. ويشدّد على عددهم (آ 15) وحضورهم (آ 16). ولفظة خطأة لا تدلّ فقط على أشخاص يتصرّفون تصرّفاً غير أخلاقي. بل جماعة الذين حرموا من حقوقهم المدنية والدينية بسبب وظيفتهم أو حالتهم. يستعمل اليهود هذه اللفظة أيضاً ليتحدّثوا عن الوثنيين.
يبيّن مرقس أن نداء يسوع يتوجّه أيضاً لأشخاص ينتمون إلى مجموعة الخطأة هذه. لم يكنٍ واحداً فرداً، بل كانوا عديدين، كثيرين. ولم يكن نداء يسوع نداء سرياً وخفياً لم يرَه أحد. بل ظهر يسوع معهم ولم يخف. ومجموعة يسوع التي تتكوّن ليست مجموعة منغلقة، بل منفتحة. ليست جماعة من "المنفصلين"، من الفريسيين. ومشروع يسوع هذا سيجعله يصطدم باليهود: يتألف ف 2 من عدد من الجدالات.
إن جماعة رومة التي ارتبط بها مرقس، تألّفت من يهود ووثنيين. فيها يتجدّد ما صنعه يسوع حين دعا لاوي. وبما أنها تعيش ما تعيش، فموقف يسوع له معناه بالنسبة إليها.

ثانياً: متى
تفرّد متى فسمّى يسوع "المعلّم". وشدّد أيضاً على وجهة التعليم في آ 12 حيث نقرأ: إذ سمع قال أو أعلن. هو لم يقل "لهم" مثل مرقس ولوقا، بل قال معلماً. نحسّ أننا لم نعد في جدال، وأن يسوع يتحدّث إلى سامعين محدّدين يقفون أمامه. إنه تعليم يتجاوز إطار هذا المشهد.
وأدخل متى على عادته استشهاداً من العهد القديم. هو يكتب لليهود فيورد لهم نصاً من النبي هوشع يحارب عبادة لا ترتبط بالبرّ والمحبّة. ودلّ يسوع هكذا بصورة ملموسة ما تعني إرادة الله التي تطلب الرحمة. واذ تصّرف يسوع على هذا الشكل، اقتدى بالله.
إن قرائن ف 8- 9 ليست قرائن جدال بل قرائن معجزات أي آيات تدلّ على مجيء عالم جديد. فقد وعت جماعة متى أن عليها أن تكون علامة وشاهدة في هذا العالم الجديد بطريقة حياتها الجديدة، وخصوصاً بحبّها الذي يستقبل جميع البشر.

ثالثاً: لوقا
يشدّد لوقا على متطلّبات النداء. قال وحده: تركوا كل شيء (رج 5: 11). وسيردّد لوقا في الإنجيل وفي سفر الأعمال هذا النداء، ليترك التلميذ كل شيء. وحين يتحدّث عن الكنيسة الأولى، يجعل المشاركة الفعلية في الأقوال علامة الحياة الجديدة والعلاقات التي يبنيها الإنجيل بين البشر.
واهتم لوقا بالطعام: صنع لاوي مأدبة عظيمة مثل أب الابن الضال (15 : 23).
لم يعد يسوع هنا رئيس جماعة جديدة كما في مرقس، ولا المعلّم كما في متى، بل المخلّص الذي يدعو الناس إلى التوبة وإلى التخلّي عن أموالهم. لقد اختبرت ساعة مرقس أن الوثنيين أنفسهم سمعوا هذا النداء وتجاوبوا معه. وهكذا عمّ الفرح.
ثلاثة نصوص، ثلاثة تفاسير. تحيلنا هذه النصوص الثلاثة إلى حدث واقعي من حياة يسوع. ولكننا لا ندركه ادراكاً مباشراً. ما تقدّمه لنا الأناجيل أولاً هو فعل إيمان الجماعة. إنطلقت من أسئلتها واهتماماتها فأعادت قراءة تقاليد تقبلقها من الرسل وطبّقتها على الزمن الحاضر.

3- شفاء حماة بطرس
نقرأ هنا مت 8: 14- 15؛ مر 1:29- 31؛ لو 38:4- 39
متى مرقس لوقا
و وحالا وإذ قام من
ذهب خارج المجمع المجمع
ذهب يسوع ذهبوا ذهب
إلى بيت بطرس الى بيت سمعان الى بيت سمعان
واندراوس
رأى حماته وحماة سمعان وحماة سمعان
ملقاة كانت راقدة كانت فريسة
ومحمومة محمومة حمّى قوية
وحالا
كلّموه وتوسلوا إليه
بأمرها في أمرها
ولمس يدها واقترب ووقف فوقها
والحمى وأقامها وزجر الحمى
تركتها آخذاً بيدها فتركتها
والحمى وفي الحال
وقامت تركتها وقفت
وكانت تخدمه فكانت تخدمهم وأخذت تخدمهم

أولاً: مرقس
يقدّم مرقس الأمور بشكل ملموس. نحسّ وكأننا نسمع بطرس يتكلّم.
يبين مرقس يوم يسوع في كفرناحوم كملّخص لنشاط يسوع. والمعجزات جزء من هذا النشاط. وبينها شفاء حماة بطرس.
ومرقس هو لاهوتي أيضاً. يتحدّث عن يسوع وتلاميذه. إنهم يؤلّفون جماعة. وفعل "أقامها" يدل على القدرة التي أقامت يسوع. ويستعمل أخذ بيدها مرتين أيضاً في 5: 41؛ 26:9- 27.

ثانياً: لوقا
يشدد لوقا على قدرة يسوع: وفي الحال وقفت.
زجر يسوع الحمى. يستعمل فعل زجر لطرد الشياطين (4: 35، 39، 41)
استعاد متتالية كفرناحوم وأقحمها في مجموعة أوسع (4: 16- 44). وهكذا نكون أمام ملخّص نشاط يسوع، وللاستقبال الذي لقيه: حماس (16:4- 22)، ثم عداء (23:4- 30).

ثالثاً: متى
اعتاد متى أن لا يحتفظ في أخبار المعجزات إلاّ بشخصين: يسوع وصاحب الحاجة. ويلغي كل التفاصيل الثانوية ليبرز شخص يسوع: هو الذي اتخذ المبادرة وذهب إلى بيت بطرس، هو الذي شفى المريضة.
قامت المريضة وخدمت يسوع. هي رمز الكنيسة التي تخدم ربّها.
جعل متى خبر الشفاء هذا في مجموعة عشر معجزات، بعد خطبة الجبل. وبهذا، دلّ على أن يسوع قدير بالكلام كما بالاعمال.

خاتمة
وهكذا نستطيع أن نقابل النصوص الإنجيلية. هناك أساس واحد واختلافات عديدة. هناك يسوع واحد وشهود عديدون. هناك خبرة واحدة ولكن التعابير عنها عديدة. نحن لا نطلب حرفيّة الإنجيل، بل ننطلق من خبرة إيمان الكنيسة لنصل إلى يسوع التاريخ.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM