الوصية ووصيّات الآباء

الوصية ووصيّات الآباء

1- الوصيّة كفن أدبي
ترتبط الوصيّة (وصيّات) بفن أدبي غير واضح المعالم، نستطيع أن نسمّيها "الخطبة الوداعيّة". من الواضح أن مضمون مثل هذه الخطبة يتنوّع فلا ينحصر في تعبير بسيط. وما يميّز هذا النوع الأدبي في الدرجة الأولى هو وضع انسان قريب من الموت: يعبّر عن ارادته الأخيرة. وبعد هذا يرد خبر موته. وما يميّز هذا الفن هو: مقدمة، خطبة وداعيّة، إشارة أخيرة إلى الموت.
أ- إطار وصيّات الآباء
نتذكّر أولاً أن الوصيّات هي مجموعة مؤلّفة من اثنتي عشرة وصيّة، بدون مقدّمة ولا خاتمة عامة. هناك إطار خاص بكل وصيّة، وليس من إطار يشمل كل الوصيّات. أما المقدّمة (رأوبين 1: 1- 5؛ شمعون 1: 1- 2: 1؛ لاوي 1: 1- 2؛ يساكر 1: 1؛ زبولون 1: 1- 2؛ دان 1: 1- 2؛ نفتالي 1: 1- 5؛ جاد 1: 1؛ أشير 1: 1- 2؛ يوسف 1: 1- 2؛ بنيامين 1: 1- 2 أ) فتتضمن بشكل عام العناصر التالية: (1) عبارة مقدّمة ثابتة في كل وصية: نسخة أقوال (وصيّة) الأب التي أوصى بها أبناءه. (2) الاعلان بأن موت الأب قريب. (3) إشارة إلى عمر الأب. (4) اجتماع أبناء الأب عند فراشه. (5) الأمر بسماع ما يقوله الأب. لن نتوقّف عند الاختلافات الخاصة بكل وصيّة، ولكن نشير إلى أن نفتالي هيّأ وليمة لابنائه، وفي اليوم التالي أنبأ بموته فلم يصدقوه (نفتالي 1: 2- 3).
وكيف تنتهي كل وصيّة؟ هناك بنية مشتركة مؤلّفة من اربعة عناصر. (1) عبارة تعيدنا إلى الخطبة التي قيلت وتدلّ على نهايتها. (2) يعلّم الأب أبناءه الترتيبات التي يجب أن تتّخذ من أجل جنازته. (3) الاشارة إلى موت الأب. (4) حملت عظام الأب إلى حبرون وهناك دُفنت مع الآباء. رج رأوبين 7: 1- 2؛ شمعون 8: 1- 9: 1؛ لا 19: 4- 5؛ يهوذا 26: 2- 4؛ يساكر 7: 8- 9؛ زبولون 10: 6- 7؛ دان 7: 1- 2؛ نفتالي 9: 1- 3؛ جاد 8: 3- 5؛ أشير 8: 1- 2؛ يوسف 20: 2- 6؛ بنيامين 12: 1- 4. نشير إلى أن نهاية وصيّة يوسف تعطي تعليمات من أجل دفن أسنات، وتذكر فضائل يوسف لترفعها.
إن الاطار الذي هو في كل هذه الوصيّات يتضمّن وحدة الكاتب. أمّا الاختلافات بين وصيّة فتدلّ على عبقريّة الكاتب الخلاّقة. ولكن هذا لا ينفي أن تكون يد بدّلت بعض الشيء. فمقدمة وصيّة لاوي الطويلة والمطبوعة بالطابع الساميّ قد نالت إضافات ثانوية. ويبدو أن نقطة انطلاق المجموعة نجدها في وصيّات لاوي ويهوذا ونفتالي.
ب- وصيّات الآباء والعالم اليهوديّ القديم
أولاً: وصيّات مستقلّة
هناك كتابات وصلت إلينا تحت عنوان "وصيّة" وما هي بوصيّة. مثل وصيّة كل من آدم وابراهيم واسحاق وسليمان، جاءت متأخرّة ونالت عدداً من التحويرات، فلا ترتبط بالوصيّات كفنّ أدبي. وما سمّي "وصيّة ابراهيم" يبدأ باعلان موت ابراهيم بفم ميخائيل رئيس الملائكة. ثم نقرأ خطبة ابراهيم الوداعيّة. غير أننا نرى ميخائيل يقوم بزيارة ثانية إلى ابراهيم ويقوده برحلة إلى السماوات، وهذه الرحلة هي الموضوع الأساسيّ في الكتاب.
و"وصيّة اسحاق" التي هي قريبة من "وصيّة ابراهيم" لا تقع في اطار "الوصيّة" مع أن ف 3- 5 تتضمّن رسمة مريعة لخطبة وداعيّة. ونقول الشيء عينه عن "وصيّة سليمان"، مع أن هناك إشارة إلى سليمان الذي كتب وصيّته (26: 8). وإذا توقفنا عند جزئين يشكّلان "وصيّة آدم السريانية"، يروي الجزء الثاني موت آدم ويقول بعد ذلك إن شيتاً كتب هذه الوصيّة. ونجد في لوائح المنحولات "وصيّة موسى" التي تشبه "صعود موسى". وحدها "وصيّة أيوب" تدخل في إطار "الوصيّة" كفن أدبيّ. نقرأ العبارة المقدمة: كتاب أقوال أيوب المسمّى يوباب. ثم نقرأ: مرض أيوب فدعا أبناءه لكي يروي لهم حياته مع "اسمعوا اذن يا ابنائي". وتنتهي "وصيّة أيوب" مع ف 52- 53 اللذين يصوّران صعود نفس أيوب، ساعة كان جسده يُوضع في القبر.
ثانياً: من التوراة
نجد في التوراة أو العهد القديم خطبة يعقوب الوداعيّة (تك 47: 29- 50: 14)، وأقوال يوسف الأخيرة (تك 50: 22- 26). في مقدمة بركة يعقوب (تك 49) نجد الوضع الذي نجده في كل وصيّة: يعقوب على فراش الموت، يدعو أبناءه ليقول لهم ما ينتظرهم من مستقبل. ثم يأتي الأمر بأن يسمعوا أباهم يعقوب: "اسمعوا يا بني يعقوب، اسمعوا اسرائيل أباكم" (تك 49: 2). وأوصل يعقوب (ويوسف) لأبناءه ارادته الأخيرة في شأن جنازته (تك 49: 29- 32؛ 50: 25). ويقدّم 1 مل 2: 1- 10 إطار وصيّة. "أحس داود أن قد قربت ساعة موته، فحثّ سليمان ابنه قائلاً". ونجد في سفر طوبيا مقطعين يرتبطان بالوصيّة. نجد في الأول (4: 1- 21) المقدمة فقط، التي ترتبط بالخاتمة (14: 3- 11). وفي هذه الخاتمة يدعو طوبيت ابنه عند ساعة موته ليوصّيه. وبعد ذلك يموت ويُدفن دفنة مجيدة. ويذكر النص الاسكندراني والنص الفاتيكاني عمر طوبيت حين مات. ونذكر أخيراً وصيّة متتيا في 1 مك 2: 49- 70 مع مقدّمة شبيهة بمقدّمة طوبيا (طو 14: 3- 11).

2- أصل "الوصيّة" كفن أدبي
أ- الوصيّة كفن أدبي والوصيّة القانونيّة
إن اسرائيل القديم لم يعرف الوصيّة المكتوبة. ولكننا نكتشف لدى قراءة بعض النصوص أن الأب كان ينظم بشكل شفهي توزيع أمواله قبل موته (2 صم 17: 23؛ 2 مل 20: 1). والعبارة هي "ص و ه (أوصى) ب ي ت و" (بيته)، وكلمة "ص و ه" تعني "رتّب". نجد هنا أصل الوصيّة الروحيّة والخلقيّة في الأدب الرابيني واليهوديّ الوسيط.
في العالم اليهوديّ القديم، كانت شرائع الإرث ثابتة، سواء كانت شفهية أو خطيّة، بحيث انتفت الحاجة إلى كتابة وصيّة. وسوف ننتظر زمن التلمود لنجد وصيّات قانونيّة. هنا نكتشف تأثير الشريعة الرومانيّة.
في أي 42: 5 نقرأ أن أيوب أعطى ارثاً لبناته، وهذا ما يتعارض مع شرائع الارث حين يكون للأب أولاد ذكور. وفي طو 8: 21 يعطي رعوئيل، والد سارة، إلى طوبيا نصف أمواله ويعده بالقسم الثاني بعد موته وموت امرأته. هذا ما يفترض وصيّة. ونقرأ في سي 14: 13: "قبل موتك أحسرا إلى صديقك وأعطه ما اقتنت يداك" (رج سي 42: 3).
وقد نجد في "الوصيّة" الروحية تلميحاً قانونياً إلى ما يتركه الأب من خير لأبنائه. فحسب "وصيّة اسحاق" التي نقرأها في يوب 36: 1- 18، يوزّع الأب أمواله على ولديه (آ 12- 13). وف 45 من وصية أيوب، الذي هو ملخّص لتحريضات أيوب الأخيرة، ينتهي بتدبير ذي طابع قانوني: "ها أنا يا أبنائي أقسم بينكم كل ما أملك" (آ 4 أ). ونجد أيضاً في وصيّات الآباء تلميحاً إلى الوجهة القانونيّة في وضع الميت. يأتي هذا التلميح في سياق تحريضات الآباء الأخيرة. مثلاً، أراد بنيامين أن يوجز كل التعليم الذي أعطاه كاتب "الوصيات". "هذا ما أعلّمكم إياه بشكل ميراث". وهكذا نترك القول بأن أهمّ شيء في الوصيّة هو الخيرات الماديّة.
ب- الوصيّة في العالم اليونانيّ
إذا كانت "الوصيّة" قد وُجدت في زمن الهيكل الثاني، يبقى أنها أخذت الكثير من العالم المحيط بالعالم اليهوديّ. لهذا، نتوجّه إلى العالم الهلنستي. هناك البرديات اليونانيّة المصرية، ثم بعض الكتابات اليونانيّة ووصيات الفلاسفة. فمع اختلاف الزمان والمكان، بقيت مقدّمة الوصيّة هي هي، فتبدو على الشكل التالي: (1) تاريخ الوصيّة. (2) مصدر الوصيّة. (3) عبارة الوصيّة. (4) اسم الموصي مع تحديد "ابن". (5) ذكر عمر الوصي. (6) عبارة تسبق الترتيبات. أما العناصر التي تشكّل نهاية الوصيّة فهي ذكر الشهود والتاريخ.
نذكر في هذا المجال "آخر أيام الاسكندر" أو "وصيّة الاسكندر" التي تعود إلى القرن الأول ق. م. والتي هي مزيج من الوصيّة الأدبيّة والوصيّة القانونيّة. ونذكر أيضاً خطبة قمبيز الوداعيّة التي أوردها هيرودوتس فتضمّنت دعوة الأقارب ليتسلّموا إرادته الأخيرة. عاد قمبيز إلى خطاياه الخطيرة وقدّم توجيهات لخلفائه. وهناك أيضاً خطبة كورش الوداعيّة التي دوّنها اكسينوفون والتي تبدو قريبة من الوصيّات.
وهكذا بدا فن "الوصيّة" بشكل خطبة وداعيّة، حاضراً في كتب ليست بوصيّة، في كتب يونانيّة، وتشابهاتُها مع وصيات الآباء لافتة للنظر

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM