الفصل السابع والثلاثون: أعمال الرسل انطلاق نحو الوثنيين

الفصل السابع والثلاثون
أعمال الرسل
انطلاق نحو الوثنيين
6: 1 – 15: 35

هل ستبقى الكنيسة داخل أورشليم؟ هل ستنحصر في العالم اليهودي؟ لو فعلت هذا لكانت شيعة كسائر الشيع اليهودية (الفريسيين). ولكنها خرجت من العالم اليهودي وتوجّهت أولاً إلى العالم اليهودي المتكلّم باليونانية، إلى عالم الهلينيين. وفي مرحلة ثانية، ستتوجّه إلى العالم الوثني في فلسطين أولاً ثم في كل الامبراطورية الرومانية.
قسمان في هذا الفصل: بداية التحوّل باتجّاه الوثنيين، نحو مجمع أورشليم.

أ- بداية التحوّل نحو الوثنيين (6: 1- 12: 25)
"في تلك الأيام... اخذ الهلينيون (أي: اليهود اليونانيون، يتكلمون باليونانية) يتذمّرون على (اليهود) العبرانيين (يتكلّمون بالعبرية) لأن أراملهم لا يأخذن نصيبهّن من المعيشة اليومية" (6: 1). إذن، تألّفت جماعة أورشليم من اتجاهات عديدة: هناك الهلينيون. أصلهم من الشتات وقد ارتدوا إلى الايمان اليهودي. إنهم منفتحون على العالم اليوناني بثقافتهم واحساسهم. وهناك العبرانيون.
أشار لوقا إلى هذه الأزمة، ففتح صفحة جديدة وحاسمة في تاريخ أصول الكنيسة: هي انفتاح المسيحية الأولى على شعوب العالم.

1- كنيسة تتحرّك
أورد القديس لوقا أحداثاً سببّت في خروج المسيحية من العالم اليهودي الضيق. وقارب لوقا بين هذه الأحداث فرأى فيها تأثير عمل الروح أو تدخلاً من الرب (ملاك الرب، رؤى). وإذا توقفنا على مستوى التعبير وتصوير المشاهد، فلوقا يبينّ لنا أن البشارة التي بلغت إلى أناس عديدين كانت عملية شبه مستحيلة في نظر البشر. فإن تمتّ رغم كل شيء، فهذا يعود إلى مفاجأات جاءت من الله، أو من أناس مثل اسطفانس، مثل فيلبس في السامرة، وبولس بعد طريق دمشق. هناك لقاء بطرس وكورنليوس، ووصول المرسلين الأولين إلى انطاكية، عاصمة سورية. وستصبح هذه المدينة نقطة انطلاق الرسالة إلى خارج سورية وفلسطين.
وتتواصل الأحداث: خطبة اسطفانس واستشهاده في أورشليم (6: 8 - 8: 4)، اعمال فيلبس في السامرة وعلى الشاطئ الفلسطيني (8: 5- 40)، ارتداد بولس ومبادراته الأولى في دمشق ثم في أورشليم (9: 1- 31)، أعمال بطرس ولا سيما مع كورنيليوس (9: 32- 11: 18) ودخوله إلى السجن (12: 1- 19). أما المحطة الكرونولوجية الوحيدة التي تُعطى لنا، فهي ذكر موت الملك هيرودس أغريبا في نيسان سنة 44 (12: 20- 23). وهكذا أفهمنا لوقا أن هذه الأحداث المروية هنا حدثت قبل هذا التاريخ أو بعده.
وأوضح لوقا أن توسّع الكنيسة هذا الذي أثار المشاكل والمعارضات، قد حقق في الواقع كلمة الرب يسوع: "واخذت الكنائس (أو: الكنيسة) في جميع اليهودية والجليل والسامرة تنعم بالسلام. وكانت تنمو وتسير على خوف الرب، وتتوسّع (وتتقوّى) بمعونة الروح القدس " (9: 31؛ رج 1: 8). وشدّد لوقا أيضاً على أن هذا التوسّع هو ثمرة آلام اسطفانس والاضطهاد الذي تبع استشهاده (8: 1- 4). هذا ما حدث بصورة خاصة حين ظهرت كنيسة انطاكية التي كانت باباً مفتوحاً على العالم الوثني (11: 19- 26).

2- ارتداد رجل وثني (10: 1- 18:11)
قد صاغ لوقا صياغة دقيقة خبر ارتداد الضابط كورنيليوس (روماني، وثني). وجعل الأسبقية لبطرس، رئيس مجموعة الاثني عشر، في إعلان الإنجيل للوثنيين (رج 7:15- 11). هذا ما يدلّ على روح التوافق عنده: فالأزمات الكبرى التي عرفها انتقال الإنجيل إلى الوثنيين قد تعدّاها الزمن. تجابه بطرس وبولس في الماضي (غل 2: 11- 21) ولكنهما عملا على قدم المساواة من أجل انفتاح الكنيسة على الرسالة.
إن بناء هذا. النص يدل على البُعد الثوروي لدخول وثني إلى الكنيسة بكامل الحقوق التي لشخص يهودي. وقاربت الرؤى بين بطرس وكورنيليوس. الرؤية التي حصل عليها بطرس بدلّت نفسه فيما يخصّ الأطعمة المحرّمة لدى اليهود، والاتصال بشخص غريب عن الديانة اليهودية. وعرف كورنيليوس من جهة ثانية أن بحثه الطويل وصل إلى نهايته باستضافة حامل الإنجيل.
والتقى الرجلان. فبدأ بطرس يعلن اخوّته الأساسية مع هذا الوثني: "ما أنا إلا بشر مثلك " (26:10). ثم أعلن: "أفهمني (أراني) الله أن لا أحسب أحداً من الناس نجساً أو دنساً، (28:10). وحين حمل بطرس إلى كورنيليوس وأهل بيته "بشارة السلام بيسوع المسيح "، أقرّ أنه اكتشف أن الله لا يحابي أحداً (أي لا يفضل أحداً على أحد، لا يدل على أنه يحب شخصاً دون آخر) (34:10- 36). وحين تقبّل هؤلاء الغرباء الإنجيل، جاء الروح القدس. وهكذا حصلت عنصرة جديدة (10: 44- 48).
كان عماد كورنيليوس عطية من الله وخاتمة بحث شخصي طويل. غير أن الاخوة لم يقبلوا به. فعلى بطرس أن يودّي حساباً وأن يبرّر موقفه ليقنع اخوته في أورشليم (11: 1- 18). وفي النهاية رأى الجميع بعد عماد كورنيليوس "أن الله أنعم على الأمم الوثنية بالتوبة (أو: الارتداد) التي تقود إلى الحياة ".
أراد لوقا أن يروي لنا ارتداد بطرس وارتداد الكنيسة معاً إلى انجيل شامل. وأشار إلى الوقت اللازم لكي يتشارك في المائدة الواحدة مسيحيون جاؤوا من عالم اليهود وآخرون جاؤوا من العالم الوثني. فالمشاركة في المائدة الواحدة تقود إلى الاحتفال معاً من دون صعوبة بعشاء الرب، بالافخارستيا. ومسألة الافخارستيا التي هي العلامة السميا للمشاركة مع المسيح والاتحاد به، هي الخلفية التي عليها دوّن هذا النص. وسنجدها فيما بعد في جماعة أورشليم الكبيرة، "في مجمع أورشليم ". هناك ستُتّخذ قرارات عملية من أجل المشاركة بين اليهود والوثنيين المرتدّين.

ب- نحو مجمع أورشليم (13: 1- 15: 35)
نتعرّف إلى رسالة بولس وبرنابا في قبرس وآسية الصغرى. ثم نشارك في مجمع أورشليم. ذهب برنابا إلى طرسوس وجاء ببولس إلى انطاكية من أجل عمل مشترك في هذه الكنيسة (19:11- 26). كان برنابا رسول أورشليم إلى انطاكية، وقد أرسل اليها ليتحققّ من أساس الجماعة الجديدة: فالتوتر شديد في العلاقات بين أورشليم وانطاكية، والسبب: مسألة قبول الوثنيين في الكنيسة. مسألة لم تحلّ. بل ستتعقد وتشتد بعد رسالة بولس وبرنابا في قبرس ثم في آسية الصغرى.
وحين عاد بولس وبرنابا من رسالتهما في المدن العديدة، رويا كيف "فتح الله باب الايمان للوثنيين " (27:14). ولكن جاء بعض الناس من اليهودية وأخذوا يقولون للاخوة: "إن كنتم لا تختتنون على شريعة موسى، لا تستطيعون أن تخلصوا" (15: 1)0 اعتراض جذري، وهو يطرح بوضوح المسألة الإنسانية في هذا الوضع المتوّتر: هل الإيمان يكفي بيسوع المسيح من أجل الخلاص أم لا؟

1- مهمة رسولية (13: 1- 14: 28)
حين روى لوقا المهمة المشتركة التي قام بها برنابا وبولس، دلّ على أن مبادرة جماعة انطاكية وعمل الرسولين خلقا دينامية لا رجوع عنها. ورأى أن هذه الرسالة هي أيضاً عمل الله بالذات، عمل الروح (13: 2؛ 26:14- 27). ثم إن الجماعة هي نقطة الانطلاق ونقطة العودة بالنسبة إلى الرسالة. في الارسال، كان وضع الايدي. وفي العودة روى الرسولين "ما أجرى الله على أيديهما". وهكذا دلّ المؤمنون في أنطاكية أنهم كلهم مسؤولون عن تبشير الوثنيين، كلهم متضامنون في هذا العمل (13: 1- 3، 26:14- 28).
يبدو خبر السفر في رسمة نموذجية للمهمات البولسية: الوصول إلى المدينة؛ إتصال أول مع الجماعة اليهودية، في المجمع، يوم السبت؛ جدال حول المسيح انطلاقاً من الكتب المقدسة؛ اهتمام الوثنيين بالإنجيل؛ "حسد" اليهود؛ إجبار الرسل على الذهاب وترك المدينة. وهكذا سيظهر عمل بولس في الرحلتين الرسوليتين التاليتين (15: 36- 20-38). وفي طريق العودة، ثبّت الرسولان وشجعا الجماعات الجديدة وساعداها على تنظيم نفسها (21:14-25).
إذن بدت السفرة كحركة سريعة خلقها توّتر بين عدم ايمان عدد كبير من اليهود، ومجيء عدد متزايد من الوثنيين إلى الايمان المسيحي. نجد في أصل هذا الخبر معلومات انطاكيّة أعطت الأهمية عينها لبرنابا ولبولس: لقد اشتركا معاً في المهمّة الواحدة. أعاد لوقا صياغة هذه المعلومات، فنقل بولس إلى المقام الأوّل، وجعل من هذه الرحلة الرسولية مقدمة ونموذجاً لرحلات سيقوم بها بولس وحده، بعد أن يتركه برنابا ويعود إلى قبرس مع نسيبه مرقس (39:15).

2- منعطف حاسم في انطاكية بسيدية (13:13- 52)
في قلب هذه السفرة، توسّع لوقا بصورة خاصة في كرازة بولس في انطاكية بسيدية. إنها الحدث الذي يفتح الطريق أمام المهمّات البولسية. ويعطينا لوقا مثالاً عن الكلام الذي وجهه بولس إلى اليهود. تشبه هذه الخطبة في خطوطها الرئيسية خطبة بطرس الأولى يوم العنصرة: هذه هي الكرازة الإنجيلية المشتركة بين جميع الرسل.
روى لوقا الحدث الذي منه وُلد قرار بولس "بالتوّجه إلى الوثنيين " (13: 46) كما روى أول تدّخل ليسوع في مجمع الناصرة (لو 16:4- 30): دعوة للكلام في المجمع أمام الحاضرين؛ خطبة تتحدّث عن يسوع؛ تتمة النبوءات ؛ ردات فعل ايجابية أولاً؛ ثم معارضة اليهود لبولس؛ كلام عن خلاص الوثنيين. كل هذا الترتيب قد دوّن ليفهمنا مأساة لا إيمان إسرائيل وأصل انتشار الكنيسة في العالم اليوناني بفضل مبادرات بولس خصوصاً: "كان يجب أن نبشرّكم أنتم أولاً بكلمة الله، ولكنكم رفضتموها... ولذلك نتوّجه الآن إلى الوثنيين. فالرب أوصانا قال: جعلتك نوراً للأمم لتحمل الخلاص إلى أقاصي الارض " (13: 46- 47).
3- " مجمع " اورشليم (15: 1- 35)
إن الجماعة التي ضمّت في أورشليم "كنيسة" هذه المدينة وموفدي انطاكية ولا سيّما بولس وبرنابا، عادت إلى هذه المسألة. ولكنها توقّفت بصورة خاصة عند العلاقات بين اليهود والوثنيين المرتدين في قلب الجماعات. انعقد هذا الاجتماع سنة 48 أو 49. فالكنيسة الفتية بما فيها من اتجاهات متعارضة، هي جماعة تتشاور. سمع الحاضرون ما قاله بولس وبرنابا وتناقشوا. وقدّم بطرس ثم يعقوب وجهتي نظرهما: أقرّا بالواقع وطلبا أن تُفهم الامور على ضوء كلام الانبياء وخصوصاً على ضوء حياة يسوع وأقواله وأعماله (نعمة الرب يسوع الذي يخلّصنا).
واخيراً اقترح يعقوب المتحدث باسم الحساسية اليهودية، أن تدوّن رسالة لا يفرض فيها أي عبء ما عدا المتطلبات التي لا بدّ منها. وهذه المتطلبات هي الفرائض الاساسية من أجل الطهارة لدى اليهود: هذا أقل ما يُطلب في اللقاءات الكنسيّة ليلمس اليهود المرتدون انهم محترمون في تقاليدهم (15: 29).
هذا هو السبب الذي لأجله أعطى لوقا هذا "المجمع" الاول مكانة مهمّة في قلب كتابه: إنه مجمع حرّر الرسالة. منذ الآن ستنطلق ارساليات بولس بحرية أقرت بها كنيسة أورشليم، حتى ولو عارض المسيحيون المتهوّدون (من أصل يهودي) نظرة بولس إلى الإنجيل.
بعد هذا الحدث الرئيسي، سيفتح لوقا يوميّات بولس: سفره، توقيفه، محاكمته... إن بولس هو حامل الإنجيل حتى اقاصي الأرض.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM