الفصل السادس عشر: الخدم المتنوعة

الفصل السادس عشر
الخدم المتنوعة
4: 7- 16

مع ف 4 تبدأ سلسلة التحريضات الأخلاقيّة التي تبدأ بكلام احتفالّي اعتدنا عليه لدى القديس بولس: "أحرّضكم إذن". لسنا فقط أمام مجرّد تطبيق للمبادىء التي أعلنت في ف 1- 3. بل نجد توسّعات جديدة حول علاقة المسيح بالكنيسة، حول المؤمن الذي صار بالعماد خليقة جديدة. تجاه الخلاف (4: 1- 3) والهرطقة (آ 14- 16)، اللذين يهدّدان الكنيسة، تقدّم الرسالة منابع الوحدة: حضور الروح الفاعل، حضور الآب والربّ يسوع. ثم نشاط مختلف الخدم (آ 7- 13). وهكذا تتحقّق هذه الوحدة في ديناميّة النموّ من أجل بنيان جسد المسيح. أمّا التوسّع الذي نجده في آ 7- 16، فهو تعليم في عرضه لسّر الكنيسة. وهو تحريض في تحذيراته من الضلال. تحدّثنا في المقطع السابق عن أساس الكنيسة الأول، وهو الوحدة. وها نحن نتوقّف عند الخدم المختلفة، فهي أفضل تعبير عن موهبة المسيح الواحدة.

1- نظرة عامة
تحدّث المقطع السابق (4: 1- 6) عن الربّ الواحد، والإيمان الواحد، والمعموديّة الواحدة، فخفنا من بعد هذا الحديث، أن يفرض علينا الكاتب كنيسة تبدو بصرامتها وكأنها حجر واحد. ولكن الأمر ليس كذلك. وما زلنا في خط 1 كور 12 حيث مواهب الروح تحافظ على وحدة الجسد في تنوّع الأعضاء، حيث يبدو التنوّع في المواهب الشرط الضروريّ من أجل غنى الكنيسة. غير أن ما يدلّ على أصالة المقطع الذي ندرس، هو الأساس الكرستولوجيّ الذي يُعطى لتعدّد الخدم في الكنيسة.
أولاً: تفسير ترجومي
إذا أردنا أن نفهم هذه المقطوعة، يجب أن ننطلق من مز 68 كما قرأته الجماعة اليهوديّة في زمن الرسول. نحن أمام مزمور شكر يصوّر حماية الله لشعبه خلال مسيرة الخروج، وخصوصاً في الظهور المهيب على جبل سيناء (آ 8- 9). كان هذا المزمور يُنشد بشكل خاصّ في عيد العنصرة (أو عيد الأسابيع السبعة التي بعد الفصح، وتقابل حصاد آخر سنبلة من القمح). يُذكر دورُ موسى في هذا المجال. وهكذا نفهم تفسير الترجوم في آ 19: "مركبات الله هي عشرون ألفاً من النار المتّقدة. ألفا ملاك يقودها. وحضور يهوه (الربّ) يُقيم عليها، على جبل سيناء، في القداسة. صعدتَ إلى العلى يا موسى النبي. سبيت السبيّة. علّمت كلمات الشريعة وأعطيتها عطيّة لبني البشر. أما المتمرّدون الذين يعودون إلى الشريعة ويرتدّون، فحضور الربّ المجيد يقيم معهم". هذا هو أساس نصّ أف.
هي الحرّية في تفسير المزمور. وسوف نرى كيف عارض يوحنا التقاليد اليهوديّة حول صعود موسى السّري (المستيكي) إلى جبل سيناء ليتقبّل هناك أسرار الله: "ما صعد أحد إلى السماء، إلاّ ذاك الذي نزل من السماء، ابن الإنسان" (يو 3: 13). وهنا، ذاك الذي صعد إلى السماوات ليتقبّل الشريعة كهديّة يحملها إلى البشر، ليس موسى، بل المسيح نفسه. فإن كان قد صعد، فهذا يعني أنه سبق له ونزل إلى أسافل الأرض (آ 9). إنّ البعد العموديّ يشكّل ثابتة في أف. ولا نقول إنّ المناطق السفلى في الأرض تكوّن الشيول (مثوى الأموات) حيث نزل المسيح لكي يُعلن للموتى بشرى الخلاص (1 بط 3: 19). نحن هنا فقط أمام صورة عن الأرض، موضع التجسّد، تجاه أعلى السماوات حيث يجلس المسيح كسيّد على الكون.
ثانياً: مواهب المسيح
حين نزل موسى من سيناء، حمل معه الشريعة كالعطيّة الفضلى وكينبوع الخلاص. أما هنا فنرى البشر الذين يهبهم المسيح الممجّد من أجل بناء كنيسته. هذا النص هو أعمق ما في العهد الجديد حول الطابع الشخصيّ للخدمة. في مر 3: 14، دعا يسوع هؤلاء الذين أرادهم، وجعل منهم اثني عشر. وهنا، وضع القائم من الموت يده على الذين يدعوهم، ووهبهم من أجل خدمة كنيسته.
وتأتي لائحة الخدم في آ 11، وهي أكمل ما في العهد الجديد. في 1 كور 12: 28، جعل بولس جانباً الرسل أولاً، الأنبياء ثانياً، المعلّمين ثالثاً. وتوسّعت اللائحة هنا فأدرجت المبشّرين والرعاة بين الأنبياء والمعلّمين. ولكنها لم تذكر الأساقفة (والقسس) ولا الشمامسة كما في الرسائل الرعائيّة.
لا شك في أن هذه اللائحة تعكس توسّع الخدم في الكنيسة. فالرسل والأنبياء ينتمون إلى الجيل الأول، جيل المؤسّسين (2: 20: أساسه الرسل والأنبياء). والعاملون الآن هم المبشّرون والمرسلون (منهم فيلبّس، أحد السبعة، أع 21: 8) والرعاة الذين يؤمّنون توجيه الجماعات المحلّية (1 بط 5: 1- 4).
ثالثاً: الخدم والجماعة
إنّ هذه النظرة إلى الخدم قد تعود بنا إلى صورة هرميّة في الكنيسة، ولا نستطيع أن نترقّب نتائج مثل هذه القراءة. غير أن الرسول بادر إلى تقديم تفاصيل توضح العلاقة بين الخدم و"القدّيسين": منظّماً للقديسين لأجل عمل الخدمة في سبيل بنيان جسد المسيح" (آ 12). القدّيسون هم المعمّدون. وعمل الخدمة يكون من أجل بنيان الكنيسة. وكلّهم معنيّون بهذا البناء، ولكل عضو دوره الخاصّ مهما كان ذاك العضو "صغيراً".
وإذ أراد الكاتب أن يعبّر عن المهمة الأساسيّة لخدّام المسيح، استعاد صورة "المفاصل" (رج كو 2: 19) داخل الجسد السائر في النموّ. بحسب هذه الصورة الجديدة، لا يعفي الخدّام "القديسين" من القيام بعملهم الخاص. بل هم ينسّقون الأدوار ويرتّبونها، ويسهرون على المرونة في الجسد، إلى أن تشكّل الكنيسة هذان الإنسان الكامل في اكتمال العمر وبلوغه، فيجتمع الكون كلّه في المسيح (1: 10).
وتأتي عبارة موجزة فتختتم كل هذا التوسّع: تُعلن الحقيقة في المحبّة. لا نقرأ فعل "ألاتاوو" (أعلن الحقيقة) إلاّ في غل 4: 16: "هل صرت لكم عدوّاً حين قلت لكم الحقيقة؟ وهكذا نكون معارضين للكلام الكاذب الذي يزرع الشقاق. ولكن العرض الناشف والنظريّ المحض لتعليم الخلاص يكون كارثة. فيجب على المحبّة أن تعطي الحقيقة حرارة الحياة الإلهيّة. لهذا، قابل الرسول بين عقلانيّة الغنوصيّة الجديدة وأهميّة هذا الحبّ لدى المسيح الذي أحبَّ الكنيسة وبذل نفسه من أجلها (5: 25- 26).

2- أعطيت النعمة (4: 7- 11)
أ- أعطيت نعمة (آ 7)
يعود النص هنا، كما قلنا، إلى صيغة المتكلّم الجمع (نحن) التي تستمرّ حتى آ 16. وتقدّم آ 7 فعل "أعطى" الذي هو المفتاح لكل المقطع مع التضمين الذي تحدّثنا عنه. ومع "نحن" هناك "النعمة" مع "مقدار موهبة المسيح".
* حصر بعضهم هذا "نحن" في الخدّام المذكورين في آ 11. إنهم حاضرون قبل الوقت في فكر الكاتب. فالأداة "دي" (من جهة ثانية) تدلّ على التبدّل. كان الحديث عن "أنتم" (آ 4: دُعيتم)، عن "الجميع" (آ 6)، فصار عن المكلّفين بمهمّة خاصة (على أن، ومع ذلك، أعطيت النعمة لكل منّا). النعمة هي موهبة يمنحها الربّ كما في مثل الوزنات. هنا نترك مناخ ف 2، مناخ النعمة التي تخلّص، ونبقى في مناخ ف 3 (آ 2، 7، 8) الذي يشير، في معرض الحديث عن رسالة بولس، إلى "تدبير النعمة الذي أعطي لي، أنا بولس. ما أُعلن بالنظر إلى الرسول قد امتدّ فوصل إلى مجمل الذين نالوا مهمّة من عند الربّ قبل أن يكونوا مُعطين (آ 11: الله أعطانا إياهم). نهم ينعمون بهذه العطية التي لا يُستغنى عنها.
* ذاك كان المعنى الضيّق. وهناك المعنى الواسع. فينسب الشرّاح إلى "نحن" بُعداً يربطونه مع (الجميع) كما في آ 6 وفي آ 13، ويستخرجونه من عبارة "كل واحد منا". لم يَدُر الحديث بعد عن الخدّام، والتحريض يتوجّه إلى الجماعة كلّها. تبدأ آ 7 مع "واحد" الذي نجده في آ 4- 5. فهذه اللفظة هي علامة اتصال. فإن "واحد" قد وردت سبع مرّات خلال الهتاف فدشّنت ما يلي من النصّ. هناك ربّ واحد. ولكل واحد منّا أعطيت النعمة. وتنتهي المجدلة في منظار مسكونيّ. تجاه هذا ذكّرتنا آ 7 (دي اليونانية) أنه، إذا كانت النعمة تضمّ الكون، إلاّ أنها عطيّة خاصة لا يُحرم منها أحد أياً كان ومن أي موضع جاء (من اليهود أم من الوثنيّين). وتحتفظ لفظة "النعمة" بالمعنى المعروف الذي لها منذ البداية (1: 2، 6، 7؛ 2: 5، 7، 8). والمقدار لا يدلّ على التوزيع، بل على الاتساع. اتّساع حقيقيّ يصل إلى المسكونة، إلى الكون كلّه، ويصل إلى كل مؤمن.
إنّ هذين التفسيرين حول آ 7 يجدان امتداداً في كلمة "مقدار" التي تعود في آ 13 (البعد الكامل) وآ 16 (فكرة التوزيع). إذا ارتبطنا مع آ 13 أخذنا بالمعنى الواسع. وإذا ارتبطنا مع آ 16 أخذنا بالمعنى المحصور.

ب- نعمة المسيح (آ 8)
ويأتي إيراد مع عبارة مخصّصة تدلّ على عودة مقصودة إلى التوراة، وهي العودة الوحيدة في أف وفي كو. هو مز 68 (67 حسب السبعينية): 19. يقول النص العبري: "صعدت إلى العلى. وسبيتَ السبي. وأخذت عطايا من وسط البشر حتى المتمرّدين، من أجل سكناك أيها الربّ الإله"، والنصّ السرياني: "وهبت المواهب للبشر (أي عطيّة الشريعة في سيناء). فالمتمرّدون لا يسكنون أمام الله". ونص السبعينية: "صعدت إلى العلى، واقتدت السبيّ إلى السبي، ونلت مواهب من البشر بل من المتمرّدين لكي تسكن بينهم".
حوّل بولس نصّ السبعينيّة في نقطتين. إنتقل من المخاطب (أنت) إلى الغائب (هو). فالنصّ الماسوري والنصّ السبعيني توجّها إلى الربّ (أنت صعدت). ثم صارت صيغةُ الماضي (صعدتَ)، صيغة اسم الفاعل (صاعداً). تلك هي النقطة الأولى.
والنقطة الثانية: صار معنى الشطر الثاني معكوساً. قال اليوناني والعبري: "أخذت". فصار في أف: أعطى عطايا. نحن هنا قريبون من الترجوم الأرامي والسريانيّة.
إنّ مز 68 يحتفل في الأصل بتيوفانيا حيث يبدو الربّ كمحارب منتصر، فيهزم خصمه. صعد الجبل فبدّد الملوك (آ 15). ولكن ما من جبل يستطيع أن يزاحم الجبل الذي اختاره الله ليقيم فيه (آ 17). ما هو هذا الجبل؟ تضمّن المزمور التباساً فسمّى سيناء والمعبد معاً: "هناك يقيم الرب" (آ 18). وتأتي آ 19: "صعدت إلى العلى...". قد نفهم هذا الكلام عن سيناء، عن احتلال كنعان، عن احتلال صهيون، عن الانتصارات الملكيّة. جاءت السبعينيّة (ثم الشعبيّة) فنقلت نهاية آ 18 وآ 19 كما يلي: "الربّ هو في وسطهم، على سيناء، في المعبد" (ورد حرف الجر "إن" ثلاث مرّات، في). "صعدت إلى العلى، تقبّلت عطايا من البشر، لأن المتمرّدين (يرفضون أن يؤمنوا) أن الربّ يسكن هنا". قالت السريانية: "لأن المتمرّدين لا يقيمون أمام الله".
نقل التقليد التفسيريّ التيوفانيا الحربيّة إلى سيناء. ولكن احتفال سيناء لم يُنسِ الناس مدينة صهيون: فالفرسان ومركبات الله يرافقون طواف الانتصار الذي يقود الربّ إلى المعبد. وهذا يفهمنا كيف تحوّل سبي الملوك (أو أسلاب الملوك) إلى عطية، بل أسمى عطيّة يقدّمها الله إلى البشر، عطيّة الشريعة.
ولكن يبقى مفتاح هذه التحوّلات في قراءات المجمع (الكنيس). نتذكّر آ 18 ب: "حضور الربّ يقيم عليهم، على جبل سيناء، في القداسة". ونهاية آ 19: "ولكن المتمرّدين الذين يرتدّون ويتوبون إلى الشريعة، فحضور الربّ يقيم معهم". نشير هنا إلى أن مز 68 هو جزء من مقاطع تُقرأ في عيد العنصرة. أما المقاطع فهي: تك 11 أو تك 14؛ خر 19- 20؛ عد 18. يُقرأ مز 29 الذي يجمع إلى العيد انتصار الله على مياه الطوفان. ومز 8 آ الذي يُعتبر تفسير تث 16: 10- 12. نحن أمام عيد الأسابيع الذي يحتفلون به "في الموضع الذي اختاره الله ليقيم فيه اسمه: تفرح أمام الرب إلهك". ودخل هذا التقليد في الجماعة المسيحيّة الأولى: عكس سفر الأعمال بطريقته كيف أن تك 11 (بابل وتعدّد الألسنة) وعطية الميثاق الجديد، والروح، كل هذا انضمّ في منظار تجدّد مسكوني. هذا هو السياق الذي فيه يتسجّل الإيراد الكتابي.
يورد تقليد الرابانيبن تيوفانية سيناء القديمة، ساعة صعد موسى الجبل لكي يتقبّل الشريعة. وشدّد مرّة على أنه تقبّلها. ومرّة أخرى على انه سلّمها. ونقلت أف النص على المستوى الكرستولوجي: فالذي صعد هو المسيح، موسى الحقيقي. وهو الذي أعطى عطايا للبشر. انتقلنا مع أف من "أخذ" إلى "أعطى" (تقبّل). وتوسّع التفسير المسيحي للمزمور في آ 9- 10. عبر شرح للشطر الأول (صعد)، وفي آ 11 ي عبر شرح الشطر الثاني (أعطى).
ويرتبط مز 68 مع مز 110 لكي يحتفل بارتفاع الربّ وصعوده. ان الارتفاع يدلّ على السلطان كما يشير إلى الغلبة والانتصار.

ج- صعد إلى العلى (آ 9- 10)
ماذا يعني: "صعد إلى العلى"؟ لا تنفصل آ 9 عن آ 10. بل هما تقومان باستنتاجين اثنين: ذاك الذي صعد هو أيضاً ذاك الذي نزل. ذاك الذي نزل هو نفسه ذاك الذي صعد. وهو يسيطر على الكون كلّه. هكذا نحيط بـ "مقدار موهبة المسيح".
* الاستنتاج الأول
جاءت نهاية آ 9 ملتبسة. رأى الشرّاح في التفضيل (أسافل الأرض) تلميحاً إلى الجحيم أو الشيول ومثوى الأموات. وهكذا نكون هنا أمام موضوع نزول المسيح إلى موضع الموتى ليحرّر المسجونين هناك وعلى رأسهم آدم (وهكذا يتّخذ سبي السبايا معنى محدّداً جدّاً). ولكننا نكون حينئذٍ في تمثّلات كوسمولوجية لا تتوافق مع تمثّلات أف. لا وجود لعالم تحت الأرض. فالقوى المتمرّدة تعمل في الجوّ، في المنطقة السماويّة المتوسّطة التي تفصل عالم البشر عن عالم الله. إذن، تدلّ المناطق السفلى على أرض البشر التي صارت بالنسبة إلى المسيح أرض ولادته وصليبه. الأرض هي الاسفل بالنسبة إلى العلاء.
ونلاحظ البُعد الكرستولوجيّ في آ 9- 10. نحن قريبون من لاهوت لوقا حول الصعود وانطلاقه. تتحدّث آ 11 أولاً عن عطيّة الشهود لا عن عطيّة الروح (هي متضمّنة). كما نلاحظ تحوّل اللغة. كتب أع 2: 32- 33: "فيسوع هذا الذي صلبتموه، قد رُفع عن يمين الله... وإذ نال من الآب الروح الموعود به، أفاضه". ونقرأ صيغة المجهول أيضاً في 1 تم 3: 16: "خُطف في المجد". أما في أف فنجد الأفعال في صيغة المعلوم: "صعد، نزل"، نحن هنا قريبون من يوحنا: "لم يصعد أحد إلى السماء إلاّ الذي نزل من السماء" (يو 3: 13؛ رج 6: 33). إختلف ارتفاع يسوع عن قيامته، فلم يعد مرتبطاً ارتباطاً مباشراً بتدخّل الآب. الابن يرتفع، وهكذا فُتحت الطريق أمام قانون الإيمان: "صعد إلى السماء".
* الاستنتاج الثاني
إنّ تفسير المزمور في خط صعود موسى إلى سيناء، يستنتج نزول المسيح من صعوده. هذا لا يعني أن النزول يعقب الصعود في الزمن. فالقلب بين النزول والصعود يجعلنا أمام مفارقة كرستولوجيّة: موضوع "التجسّد" يأتي في الدرجة الثانية بعد "الارتفاع". فالإيمان "بالميلاد العجائبي" يتفرع من الإيمان بالقيامة التي هي الأولى. والأقوال عن وجود المسيح السماويّ "السابق للزمن" تُولد من الكرازة حول حياة يسوع على الأرض. فمرمى البرهان هو أن نعلن التماثل بين ذاك الذي نزل وذاك الذي صعد. هو هو. فقانون الإيمان الأساسيّ يقول: القائم من الموت هو نفسه المصلوب.
وحسب إعلانات الإيمان الأولى، لا ينفصل التأكيد الكرستولوجيّ عن إعلان الخلاص. وما قيل في أف لا يقودنا في نظريّة كوسمولوجيّة (على مستوى الكون). فهدف الارتفاع والنزول هو تحرّر لكي يمتلىء الكون. وتفسير المزمور التقى والقول الأساسي في 1: 9- 10: "يجمع تحت رأس واحد كلّ ما في السماوات وما على الأرض". المسيح هو الذي يفعل في شخصه هذا العمل. فقد أُعطي له أن يلج العالم المخلوق، يحلّ فيه. منذ أسافل الأرض حتى أعالي السماء العلويّة (1: 21- 22). جال المسيح في كل مكان واحتلّ كل مكان. لم يفلت شيء من قبضته، ولم يقاومه أحد في مسيرته من فوق إلى تحت، ومن تحت إلى فوق. وهكذا يتمّ سبي السبي: حصار حول الكائنات المنظورة والقوى غير المنظورة. إنه يملأ كل شيء. هذا هو هتاف الغلبة والتتمّة التي تدلّ على النصر. هذا هو إعلان موت يسوع وقيامته. هذه هي الدلالة على المسيح كالأول والآخر، كالبداية والنهاية. إنّ اللغة كمي أنشدت الحدث المسيحاني في بُعده المطلق قد عبّرت عن نفسها في مقولات الوجود البشريّ، في مقولات التاريخ. واستعملت لهذا التعبير مقولات المكان و"اكتشافات" العلوم.
لقد أعطى يسوع خدّام الكلمة. وهو بواسطتهم يسيطر على الكون. وهكذا يولّد مز 68 نصاً اكليزيولوجياً رئيسياً سنقرأه في آ 11- 16.

د- أعطى بعضاً ليكونوا رسلاً (آ 11)
تبدأ الآية بشكل إعلان كرستولوجيّ احتفاليّ: "وهو الذي" (كاي اوتوس) يعود إلى آ 10 (ذاك الذي). ذاك الذي نزل يتماهى مع ذاك الذي صعد، وهو الذي يُعطي، وهكذا تمّ انتقال المبادرات.
"أعطى" يفسّر الشطر الثاني من مز 68: 19. في هذا المعنى تتابع آ 11 التفسير الذي بدأ في آ 10. ولكن قبل الإيراد، يبدو فعل "أعطى" صدى لما في آ 7. وهذا التداخل سيطر في عدد من تفاسير هذا المقطع: فُهم ف 4 على ضوء التعليم البولسي عن المواهب كما في 1 كور 12؛ روم 12. وإن آ 7 تذكر النعمة المعطاة لكل واحد بمقدار موهبة المسيح. وتتابع آ 11 الكلام فتعدّد الخدم الناتجة عن هذه المواهب: رسل، أنبياء، مبشّرون. أعطى بعضاً أن يكونوا رسلاً وبعضاً أن يكونوا أنبياء... وهكذا يشدّد النصّ على توزيع المواهب والخدم لبنيان الجماعة.
غير أن هذا التفسير لا يدلّ على ما في النصّ من جديد. ففعل "أعطى" هو قبل كل شيء شرح مز 68 كما ورد في آ 8. والتعليم عن المواهب قد استعيد في ضوء آخر. فكل واحد نال موهبة النعمة بمقدار موهبة المسيح (آ 7)، لأن المسيح أعطى البشر عطايا (آ 8). وهذه العطايا ليست مواهب تُمنح للبشر، بل بشراً يمنحها المسيح لكي تكون هذه النعمة فاعلة. وهكذا يفصّل النصّ غنى المرهبة التي منحها المسيح: أولاً الرسل. ثانياً الأنبياء. المبشرون. الرعاة.
إنّ فعل "أعطى" يلتقي مع تأكيد 1: 22- 23: رفع الله المسيح، فجعله رأس الكنيسة. وهذه العطيّة ترتدي طابع التأسيس والتسمية والتولية (ق مت 28: 18). إنّ آ 11 تدلّ على مبادرة مماثلة. إنّ المزمور ينشد تنصيب المسيح ملكاً ومعه أولئك الذين رتّبهم لكي يملأوا كل شيء.
مهما تنوّعت التسميات، تتوجّه الوظائف إلى الهدف عينه: أولاً، شهود المسيح المائت والقائم من الموت، جذور التقليد الإنجيلي. ثمّ شهود الروح، أولئك الذين يعلنون الإنجيل للأمم كما لليهود. وبعد هذا أولئك الذين يعلّمون الجماعة. إنّ تعداد آ 11 يربطنا بوظائف تشير إلى نقل الإنجيل وتسيره والكرازة به وتعليمه. وهكذا يشدّد النصّ على ما يؤمّن الوحدة، لا على ما يدلّ على التنوّع.
يتميّز الرسل عن الأنبياء وغيرهم. هنا نبتعد عن 2: 20؛ 3: 5 حيث الأشخاص أنفسهم هم رسل وأنبياء. فإن أف تستعمل تقليدين مختلفين. إنّ اختيار الرسل يشكّل مبادرة من الربّ الذي أسّس كنيسته. أما سائر الوظائف فتتفرّع من هذه الوظيفة الأولى. من جهة (مان في اليونانية) الرسل، ومن جهة ثانية (دي، دي) الآخرون.
الأنبياء ليسوا أنبياء العهد القديم. بل أناس أعطوا للكن الأولى لكي يفسّروا التقليد الرسولي ويتكلّموا باسم الرب المرتفع إلى السماء والروح الحاضر في الكنيسة (2: 20؛ 3: 5). يُذكرون عادة بعد الرسل مباشرة (1 كور 12: 28؛ روم 12: 6: يُقال الرسل والأنبياء كما يُقال الشريعة والأنبياء).
لقب المبشّرين لقب نادر. هم الذين يسيرون على خطى الرسل فيعلنون الكلمة حيث لم تُعلن بعد. لم ترد اللفظة في الجمع إلاّ هنا. يتحدّث أع 21: 8 عن فيلبّس المبشرّ، و2 تم 4: 5 عن تيموتاوس الذي عليه أن "يعمل عمل المبشّر".
وتتضمّن مهمّة الرعاة علاقة مستمرّة مع جماعة. احتفظ الكتاب باللقب ليسوع نفسه (1 بط 2: 25؛ يو 10: 11: الراعي الصالح؛ عب 13: 20: الراعي العظيم). غير أن فعل رعى (بويمانو: قاد القطيع) يُستعمل لوظيفة الرعاية المعطاة للشيوخ بشكل عام (1 بط 5: 2؛ أع 20: 28) ولبطرس بشكل خاص (يو 21: 26). إنّ هذا اللقب الذي يظهر للمرّة الأولى ليدلّ على وظيفة في الجماعة (مثل المبشِّر)، يبدو مرادفاً لـ "شيخ" (قسّ، قسيس). يدلّ على خدمة قريبة من خدمة الإدارة، ولكن ارتباطها الوثيق (كاي، حرف العطف) مع وظيفة التعليم يجعلها تدلّ على كرازة الكلمة في قلب الجماعة.
وتنتهي اللائحة مع ذكر المعلّمين (ملافنة، يحملون التعليم المسيحي، يهتمّمون بالكرازة). لقب المعلّم هو لقب يسوع. وهو يرد أيضاً في 1 كور 12: 8 (حالاً بعد الأنبياء)؛ روم 12: 7. ويُعطى لبولس في مناسبتين (1 تم 2: 7؛ 2 تم 1: 11). ظهرت هذه الوظيفة في كنيسة أنطاكية (أع 13: 1) فتميّزت عن وظيفة النبوءة، وإن مارس الشخص الواحد (برنابا) الوظيفتين معاً.
لا يقدّم النصّ تعداداً كاملاً للوظائف. فهو لا يذكر الشمامسة والقسس والأساقفة، لا يذكر ما هو مرتبط بالجماعة المحليّة أو المناطقيّة. وهذا الإغفال معناه ولا سيّما أنه سوف يتحدّث عن بناء الكنيسة. إنه لا يحتفظ إلاّ بالوظائص المرتبطة بالوحي، بإعلان الكلمة، بالتعليم.
نحن هنا أمام هدف لاهوتيّ. وأمام وضع كنسيّ قد يلقي بعض الضوء على زمان ومكان كتابة أف. نحن على فاصل بين الحقبة الرسوليّة التي انتهت وحقبة الكنيسة المؤسّسة حين يتسلّم الأساقفة السلطة. في هذه الحقبة المتحرّكة، رافق لاهوتَ الكنيسة عودةٌ إلى الإنجيل بفضل الخدم التي منحها المسيح. فعلى المبشرّين والرعاة والمعلّمين أن ينشروا التعليم الرسولي ويؤوّنوه في حياة الجماعات التي يعيشون فيها.

3- عمل الخدمة (4: 12- 16)
أ- نظّم القديسين (آ 12)
إنّ تعداد الخدم لم يُنهِ توسّعاً تأويلياً، بل فتح الطريق أمام التتمّة. وهكذا نكون أمام عدد من الغائيات: لأجل، لأجل. ونتوقّف عند الكلمات.
لا يستعمل "كاتارتسموس" إلاّ هنا. ولكن بولس يستعمل الفعل: رتّب وثبّت عناصر مختلفة وجمعها لتكوّن وحدة. وهكذا تُبنى "سفينة". نحن هنا أمام تكوين القديسين وتجهيزهم. القدّيسون هم المؤمنون (في آ 13: نحن كلنا). وهذا التجميع يضمّ مهمتين: تثبيت الوحدة في كل مؤمن، تكوين الجسد من جميع المؤمنين.
"عمل الخدمة". العمل (مفرد) غير الأعمال (جمع). هي ترتبط بالخلقيّة. أما المفرد فيدلّ على عمل الرب العظيم الذي يرسل إليه عمّالاً (1سر 15: 58؛ فل 2: 30؛ 1 تس 1: 30). الخدمة (دياكونيا) ليست المساعدة المشتركة (روم 12: 7). فالخدمة تحدَّد بموضوعها (2 كور 3: 8؛ 5: 18). وبما أن لا شيء محدّد، فعمل الخدمة يشير إلى مهمّة الرسل والأنبياء... أو المهمة الموكولة إلى مجموعة المؤمنين.
"في سبيل بنيان جسد المسيح". هنا تُجمع صورة الجسد مع صورة البيت. إنّ "جسد المسيح" سيكون عبارة يكرّسها الاستعمال. وفي نهاية آ 6 ستعود صورة "بنيان البيت".
كيف تبدو المهمات الثلاث التي تتلاحق؛ الأولى، تنظيم القدّيسين وتجهيزهم. الثانية، عمل الخدمة. الثالثة، بنيان جسد المسيح. لقد أعطى الربّ الرسل والأنبياء مهمة تتوضّح في ثلاث وظائف: تكوين المؤمنين، عمل الخدمة، بناء الجسد. أو أعطوا ليكوّنوا (ليجهّزوا) المؤمنين ويهيّئوهم ليقوموا بعمل الخدمة وبنيان جسد المسيح. أو أعطوا ليكوّنوا المؤمنين بحيث يتمّ عمل الخدمة ويُبنى جسد المسيح. ماذا نختار؟ بل ننظر إلى جسد ينمو نمواً متناسقاً وديناميكياً، مع دور مميّز للرسل والأنبياء.

ب- الوحدة في الأيمان (آ 13)
لقد قدّم المسيح الخدّام ليجعل جميع القدّيسين يسيرون إلى الهدف. فالجماعة تنطلق إلى ما يتجاوزها. قد نكون في إطار اسكاتولوجيّ. ولكننا بالأحرى في رمزيّة عموديّة (رج آ 9- 10). نحن مشدودون إلى ذاك الذي هو الرأس حسب ما في كو 3: 1- 2: "أطلبوا ما هو فوق".
هناك ثلاث عبارات تدلّ على الهدف. وُضعت الواحدة قرب الأخرى، فوضّحت بعضها بعضاً. نحن أمام وحدة الإيمان. الإنسان البالغ. ملء المسيح ستصوّر آ 14 (بشكل سلبي) وآ 15 (بشكل إيجابي) المراحلَ التي نعبرها لكي نصل إلى هذا الهدف (آ 16).
* إلى وحدة الإيمان ومعرفة ابن الله
الإشارة الأولى هي صدى لِما في آ 3، 5. غير أن الإيمان لا يدلّ هنا على مضمون الأمانة المسيحيّة، بل على فعل إيمان يرتبط ارتباطاً وثيقاً بفعل المعرفة (رج 1: 17- 19). والموضوع هو هو: ابن الله. ونلاحظ التركيز الكرستولوجيّ في هذا المقطع بالنسبة إلى البداية (ق 3: 17- 20). هي المرّة الوحيدة في أف وفي كو، حيث يسمّى المسيح "ابن الله" (ما عدا كو 1: 13: ابن حبّه).
"إلى" تدلّ على النموّ الضروريّ. أشارت فل 1: 25 إلى "تقدّم" الإيمان وكو 1: 10؛ 3: 10 إلى نموّ المعرفة كموضوع الصلاة والتحريض الرسوليّ. والوحدة هي النقطة المركزيّة. قد تكون موجودة (4: 3). وقد تعبّر عن اهتمام مستمرّ في الرسالة (1: 10؛ 2: 14- 16؛ 3: 4- 10): جمع، مصالحة، خليقة جديدة.
* إلى الإنسان البالغ
قد تعني العبارة النموّ الجسدي التامّ، الكمال الخلقيّ، وضع ذاك الذي نُشىء وتدرَّج. وقد نفكّر في مدلول يرتبط بالعهد القديم: التكريس الكهنوتيّ، الكفاءة من أجل الخدمة (آ 12). غير أن النظرة إلى النموّ توجّهنا إلى الإنسان البالغ، الناضج. نحن تجاه الطفل، تجاه القاصر (آ 14). هذا تعارض متواتر لدى بولس: 1 كور 13: 11؛ رج 2: 6، 14- 16؛ 3: 1، 2؛ رج عب 5: 11- 14.
من هو هذا الإنسان البالغ الذي نتقدّم نحوه؟ أجاب بعضهم: المسيح. إن التماهي بين المسيح والإنسان البالغ يفرض نفسه إذا كان الفعل "ننتهي" (كاتنتاوو) يشير إلى المجيء الثاني (ذهب للقاء الربّ، لقاء العريس). يستند هذا التماهي إلى نصوص بولسيّة ترى في المسيح الإنسان الإنسان، ترى فيه صورة الله الحقيقيّة. كما يستند إلى كو 1: 15- 19؛ 2: 8- 10؛ 3: 10- 11؛ أف 1: 23. في هذه الحالة تصبح الأهداف الثلاثة متقاربة ويوضح بعضها بعضاً، ويتوازى الإنسان البالغ مع ملء المسيح.
وكان جواب ثان: الإنسان البالغ هو القامة النهائيّة للكنيسة التي هي جسد المسيح. الكنيسة هي هذا "الإنسان الجديد" الذي خُلق في المسيح (2: 15) ودُعي إلى النموّ إلى أن "يتحوّل" إلى ذاك الذي ينعشه، وتوجّه بكل اندفاعه إلى الرأس الذي يجتذب مجمل الجسد إلى الكمال.
ونجد قراءة ثالثة: كمال ونضوج، بلوغ كل مؤمن في المسيح. مثل هذا النضوج لا يتمّ بشكل منعزل، ولكنه واقع أكيد. بدأت الآية بنداء توجّه إلى الجميع. ثم كان موضوع الإيمان. وأردفت آ 14: "هكذا لا نكون بعدُ أطفالاً، فننمو. كل هذا يُبرز الالتزام الشخصيّ. نحن مدفوعون إلى لقاء كياننا النهائيّ. فالإنسان الناضج هو أحد وجوه الخدمة. في كو 1: 25- 29 قيل أن "كمال إعلان الكلمة" يتضمّن حملها إلى جميع الأمم، وهكذا يصبح "كل إنسان كاملاً في المسيح". وهكذا وجد التكوين المسيحي هدفه: أن يصبح كل مؤمن ناضجاً، بالغاً، فيتحرّر من كل وصاية (كل 3: 23- 29).
* مقدار بعد ملء المسيح
يتوالى المضاف بعد المضاف إليه. فكلمة "مقدار" ظهرت في آ 7 وستظهر في آ 16. إنها تشير إلى المدى، مدى الهدف الموضوع أمامنا. ثم "هاليكيا" أي العمر، البُعد، القامة (لو 19: 3 وزكا القصير القامة). أما "بلاروما" فقد تعني صفة (مثل هيكل قدسه أي هيكله المقدّس): بقدر ملء قامة المسيح. ولكنما نستطيع أن نشدّد على "ملء المسيح" بمقداره العظيم وأبعاده، فنقول: على قد بُعد ملء المسيح. "ملء المسيح" (1: 23) هو الكنيسة. هي الملء الذي يمتلكه المسيح. وقد نتحدّث عن المسيح الذي هو ملء الله، الذي هو الله في ملئه.
نحن أمام كنيسة دفعها الرأس بواسطة الخدّام الذين منحهم لها، فحقّقت قصد الله تجاه الكون. هذا المشروع يكوّنها ويفرض عليها أن تزك المسيح يحل فيها ويحوّلها إلى ملئه.

ج- لا نكون بعد أطفالاً (آ 14- 15)
هذه هي الوجهة السلبيّة، هذه كانت المرحلة التي يجب أن نجتازها. فبالنسبة إلى البلوغ هي تتميّز بوضع القاصر الذي هو فريسة تأثيرات مضلّلة وإيديولوجيّات خادعة. كان ف 2 قد ذكّر القرّاء بوضعهم السابق. قبل ارتدادهم "تبعوا سلطان هذا العالم".. أما آ 14 التي ندرس فهي تشير إلى التهديدات التي يتحمّلها الموجودون داخل الجماعة والذين ظلّوا أطفالاً. تقول عنهم 1 كور 3: 1 إنهم لم يتجاوزوا مستوى الحليب (اللبن)، فظلّوا جسديّين. والتنبيه يتوجّه إلى الجميع: إلى الآتين من العالم الوثنيّ كما إلى الآتين من العالم اليهوديّ.
تتضمّن هذه الآية أول تلميح عن صراعات ممكنة. لا توضح أف هذا الصراع كما فعلت كو. إستعادت هجوم اليهود ضدّ الأوثان، واكتفت بالإشار إلى الضلال والكذب. وتأتي صورة الريح التي تحرّك البحر والأمواج وتهدّد السفينة. ثم صورة "زهر النرد" بما فيها من صدفة وكذب. أهكذا يكود التعليم؟ أيُستعمل من أجل تضليل الناس؟ ولكن أين روح التمييز عند المؤمنين؟
"نعلن الحق" (آ 15). هذا ما يقابل الضلال. لا نرى الفعل إلا في غل 4: 16. غير أن العبارة تقابل كلمة الحقّ التي هي الإنجيل كما قال 1: 13؛ كو 1: 5. "في المحبّة". هذا ما يدلّ على لغة الحقيقة وما يلهمها. "ننمو". إنّ الحقيقة تؤمّن للمؤمنين نمواً في المحبّة يوحدّهم توحيداً عميقاً بالمسيح. ونتّجه نحو ذلك الذي هو الرأس باندفاع الحقّ والمحبّة. وهكذا تُحقّق الجماعة مشروع الله الذي يقوم بجمع العالم في المسيح. فاعلان الحقيقة في الحبّ لا ينحصر في "عليّة"، بل ينطلق في رسالة على مستوى الكون: نحرّك الخليقة، نوجّهها إلى الهدف، نؤمّن نموّها في المسيح.
لاحظنا في ف 2 أن المصالحة بين المسيحيّين من أصل يهوديّ والمسيحيّين من أصل وثنيّ هي عربون مصالحة الكون في المسيح. حين يهدم الإنجيل الجدار الذي يفصل بيننا، فهو يحرّر العلاقات البشريّة من قيودها ويُعيد السلام إلى الكون. وفي ف 3 كشفت الكنيسة الملتئمة باسم الله عن مخطّطه الأزلي لهذه القوّات. وهكذا نقلت أف على مستوى الخلق ما قيل في عالم التاريخ.

د- التنسيق والوحدة في الجسد (آ 16)
"الذي منه". نعود بأنظارنا إلى الذي هو ينبوع هذه المسيرة العظيمة. وهي عودة مؤقتة لأن الكلمات الأخيرة تنتهي في منظار مستقبلي: يُبنى في المحبّة. في كو 2: 19، هناك ضرورة التعلّق بالرأس الذي منه تأتي القوّة والحياة. وذلك بسبب المواجهة (والحرب) التي تعرفها الجماعة. أما في أف، فالنداء لا يرتبط بالصراع بل بحيويّة الجسد (= الكنيسة في خط 4: 4، 12).
كيف يتمّ تنظيم الجسد في كو وأف؟ منسّق، موحّد. ثم نجد "المفاصل والمواصل" في كو 2: 19. وفي أف: "المفاصل" التي تخدم الجسد. وهكذا أدخلت هاتان الرسالتان المفاصل في رمزيّة الجسد، فعبّرتا عن ارتباط بين الكلّ وبين أجزائه. ذاك كان اهتمام 1 كور 12 وروم 12 على مستوى الجماعة المحلّية، على مستوى العلاقات بين كنائس اليونان وكنيسة أورشليم (التبرّع للمساعدة، اللمّة). ولكن أف وكو تعمّقتا في صياغة مدلول الكنيسة الجامعة. فأدخلت خدمةُ الوحدة صورة المفاصل التي جهلها التقليد البولسيّ حتى ذلك الوقت.
وقالت أف: "حسب العمل المناسب لكل عضو" (لكل جزء). هذا ما يدلّ على القوّة المحرّكة الآتية من الرأس (إنارغايا)، ويجعلنا في خطّ آ 7. وهكذا تجد آ 7- 16 إطارها. في آ 7، كان لعبارة "كل واحد" معنى فرديّ. والآن، هي تعني كل جزء في الجسد. "بمقدار". فالرأس يتوزّع القوى لكي تعمل في خدمة المجموعة.
كيف يتمّ العمل؟ ما هو الدور الذي تلعبه المفاصل؟ هناك جمع بين الخدّام المذكورين في آ 11 مع مجمل المؤمنين الذين نجدهم في "النشاط الموزّع على كل واحد منهم". إنّ المفاصل لا تحلّ محلّ الرأس. بل تنقل إلى الأعضاء قوّة الرأس واندفاعه.
"ينشىء نمواً". نجد فكرة النموّ في أف وفي كو. شدّدت كو على أن الله هو صاحب هذا النموّ. أما أف فتوقّفت عند نموّ الجسد في ذاته. فالجسد هو فاعل الفعل وموضوعه. ثم زادت أف: من أجل بنائه في المحبّة. أجل، إنّ بناء الجسد هو هدف عمل المسيح الممجّد لكي يملأ الكون. وتنتهي هذه الجملة الطويلة "في المحبّة" التي تضمّ المجموعة كما في إنجيل يوحنا.

الخاتمة
مواضيع عديدة ظهرت في هذا النصّ حول يسوع محرّك العمل في الكنيسة. فالنموّ يأتي من الرأس، من المسيح. هناك دفع حياتيّ يأتي من الرأس إلى الأعضاء. المسيح يعمل بكلمته التي يقوم بخدمتها الرسل والأنبياء والمعلّمون والرعاة. إنهم يعملون عمل القنوات، عمل المفاصل والمواصل. وهكذا نكون أمام ضوء جديد يُلقى على صورة جسد المسيح. والتأكيدات على المسيح الرأس، على مهمّة الكنيسة وعطيّة الخدّام لها، على المفاصل والمواصل، تشدّد على سلطان يسوع على شعبه في المكان والزمان. وجّاه ذلك تظهر مسؤوليّة الكنيسة، وضرورة بناء متناسق، ونموّ يتّجه نحو الرأس. هي مسؤوليّة لا تقف عند المؤمنين، لا تقف عند البشريّة، بل تتجاوزهم لكي تضمّ الكون في شخص المسيح الذي جاء يجمع في شخصه كل ما في السماوات وما على الأرض.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM